السلطة في طريق افتكاك الاتحاد العام التونسي للشغل (الحلقة السابعة والعشرون)
أشرت في الحلقة السابقة (26) الى أن تداعيات أزمة الشعب لم تقف موجاتها الارتدادية عند الداخل وبالخصوص باستغلالها من الخارج ولاسيما السلطة.
فقد اشتد الضغط على الاتحاد بقمع العمل النقابي وتشجيع الاتحاد المنشق ثم بالخصوص بتكوين لجان وقتية بدعوى تصحيح المسار النقابي داخل الاتحاد.
بدأ ذلك أواخر 1985، كما في نابل يوم 16 ديسمبر 1985، وقد سبق ذلك اتخاذ السلطة إجراءات صارمة من أبرزها
وضع حبيب عاشور في الإقامة الإدارية بمنزله
على إثر ذلك، التقى وفد من المكتب التنفيذي بوزير الشغل يوم 9 نوفمبر1985. ثم انعقد مكتب تنفيذي موسع يوم الأحد 10 نوفمبر 1985 بمقر الاتحاد لتدارس الوضع والدعوة إلى الحوار سبيلا لحل جميع المشاكل العالقة ووضع ثقته في المكتب التنفيذي لمواصلة التفاوض.
لكن جميع المؤشرات في أواخر 1985 تدل على أن السلطات لا تنوي تطبيق الاتفاقات ولا تطبيع الوضع النقابي بل تواصلت المحاكمات بتهم تتعلق بالحق النقابي وبحرية التفكير والتعبير. أما التطبيع في الجهات فأصبح كالوهم. مما تولدت عنه أزمة ثقة كبيرة وفقدان للمصداقية.
تعويض حبيب عاشور بغيره في الأمانة العامة
أصبحت السلطة تروّج أن لها مشكلا مع شخص حبيب عاشور لا مع الاتحاد، لذلك ضغطت على المكتب التنفيذي لتعويضه، وهو ما تم بتعيين عضو أمينًا عاما بالنيابة في اجتماع لم يتسن لي حضوره لأسباب صحيّة يوم 4 ديسمبر 1985. ولكن، بدل الشروع في حل المشاكل، ازداد الضغط على العمل النقابي في جميع الجهات.
وانتهت سنة 1985 بمحاكمة حبيب عاشور بصفاقس في قضية تعاضدية "كوسوب" يوم 31 ديسمبر 1985.
ومن الغد قمت بزيارة عائلة حبيب عاشور في منزله بتونس. وانتظم إضراب جوع بمقر الاتحاد يوم السبت 4 جانفي 1986 حيث التأم اجتماع مكتب تنفيذي موسع بمقر شارع قرطاج.
ويوم الاثنين 6 جانفي 1986، حضرت محاكمة نقابيي المهدية بالمنستير.
وفي مساء يوم 11 جانفي 1986، قامت الشرطة بإجلاء المضربين عن الطعام من مقر الاتحاد.
وقد تبنى الاتحاد إضرابهم وهم من المفصولين عن العمل تعسفا، وعلى أساس واحد من كل قطاع.
واجتمع المكتب التنفيذي الموسع بمقر شارع قرطاج، تلته هيئة إدارية يوم 12 جانفي 1986 بمقر نهج اليونان حيث يوجد مكتبي وذلك بطلب من أغلبية أعضائها أمضوا على عريضة سلمني إياها محمد شقرون. وطلب الحاضرون مني رئاستها. وحضر من أعضاء الهيئة الإدارية 61 وتغيب 21 بمن فيهم جل أعضاء المكتب التنفيذي. وفيها قررنا إرجاع الأمانة العامة لحبيب عاشور بعد أن تبين أن ادعاء السلطة بأن مشكلتها مع شخصه فقط مغالطة إذ تواصل العدوان على الاتحاد في كل مكان. اتخذنا هذا القرار بعد نقاش طويل وتحليل معمق شامل للوضع النقابي وطنيا وجهويا وقطاعيا، فقد تم تسجيل المحضر في 20 صفحة من الحجم الكبير. وتوالت مقابلات وفود من المكتب التنفيذي مع مسؤولين في الحكومة دون جدوى تذكر.
التصعيد الحكومي
• زرت يوم 22 جانفي 1986 عائلة حبيب عاشور لإطلاعها على تطورات الوضع. في الغد تم حجز سيارة الاتحاد 504 بيجو بأعوان جاؤوا في أربع سيارات شرطة.
• يوم 29 جانفي 1986 صدر حكم ابتدائي على حبيب عاشور بثمانية أشهر سجنا بصفاقس. وفي نفس اليوم تم افتكاك مقر الاتحاد بقابس بالقوة.
• يوم الأحد 16فيفري 1986، قدم إلى تونس من جنيف وفد من المكتب الدولي للشغل BIT يقوده خوزي أقريانو، ثم وفد من السيزل (بروكسيل).
منعي من السفر وحجز جواز سفري
يوم 27 فيفري 1986، قررت السفر للدفاع عن الاتحاد لدى المنظمات النقابية الصديقة بدعوة منها، بدءا بروما (تشيزل) فتم منعي في المطار وحجز جواز سفري.
في ذات اليوم تم في قابس طرد أربعين سائقا لكسر إضراب النقل.
محاكمة ثانية لحبيب عاشور
يوم 22 مارس 1986، جرت محاكمة ثانية لحبيب عاشور تخص التصرف في الاتحاد. لكنه لم يحضر بسبب المرض. واعتبرت المحكمة غيابه رفضا للحضور، ورفضت طلب التأجيل الذي تقدم به محاموه فانسحبوا من الجلسة. ومن الغد تم إيقاف جريدة البطل لستة أشهر. وصدر الحكم على حبيب عاشور بعامين سجنا يوم 05 أفريل 1986.
كما تم إيقاف صحيفة الطريق الجديد ومجلة “حقائق" يوم 17 أفريل 1986.
يوم 22 أفريل 1986 تمت محاكمة أحمد المستيري وصدر عليه حكم بأربعة أشهر.
يوم 24 أفريل 1986، صدر حكم استئنافي على حبيب عاشور في قضية "كوسوب" بعام وستة أشهر سجنا.
وسيلة بورقيبة تسعى لمقابلتي
في خضم هذه الأحداث، طلبت وسيلة زوجة الرئيس بورقيبة مقابلتي مرة أخرى في منزل أحد الوزراء المقربين منها الا أن هذا اللقاء لم يتم لأسباب قاهرة فسافرت للعلاج.
زرت يوم 26 أفريل 1986 عائلة عاشور.
رسالتي الشفوية إلى محمد مزالي
قررت أن أبعث برسالة شفوية إلى الوزير الأول محمد مزالي عن طريق وزير التربية القريب منه فرج الشاذلي.
قلت له:" بلغ محمد مزالي هذه الرسالة الشفوية: يبدو لي أنك لا تعرف بورقيبة ولم تدرس جيدا علاقته بالاتحاد العام التونسي للشغل منذ الاستقلال إلى اليوم. سيشجعك على ضرب الاتحاد وسجن عاشور. وبعد انتهاء مهمتك هذه، سوف يقيلك وربما ينتقم منك لأسباب سياسية وتربوية واقتصادية.
تجاهل مزالي النّصيحة
يبدو أن محمد مزالي لم يأخذ بنصيحتي، وطغى عليه حب الغلبة والشعور بالقوة، فواصل تشجيع اللجان الوقتية وعقدوا مؤتمرا صوريا يوم 29 أفريل 1986 أطلق عليهم الوزير الأول صفة "الشرفاء" وشرعت السلطة في افتكاك مقرات الاتحاد بقوة الشرطة بما فيها المقر المركزي بنهج اليونان، إذ أعلمني شرطي بالزي الرسمي وجدته في الباب وأنا داخل إلى مكتبي، أن تعليمات صدرت بمنعي من دخول مكتبي بمقر الاتحاد.
منزلي مقر للاتحاد
دعوت المكتب التنفيذي إلى الاجتماع في منزلي فتغيّب بعضهم وبدؤوا يتناقصون من اجتماع إلى آخر حتى لم يبق إلا واحد فقط في آخر اجتماع. وقد تخلل ذلك دعوات إلى وزارة الداخلية وإيقافي مرة لأربع ساعات وأخرى خمس ساعات يقدم لي في النهاية محضر للإمضاء فيه التزام بعدم العودة إلى الاجتماع، فأرفض الإمضاء قائلا:" أنتم افتككنم الاتحاد بالقوة وبغير وجه حق والآن منزلي مقر للاتحاد، فإن شئتم محاكمتي فإني مستعد لذلك". فيقع إطلاق سراحي.
ونصبوا أمام منزلي مدة ستة أشهر على الأقل حراسة مشددة، يتم بها تفتيش الداخل والخارج من الزائرين.
وذات يوم اجتمع جزء من الهيئة الادارية في مكان آخر فتم إيقافنا جميعا مدة أربعة أيام بلياليها في ثكنة القرجاني، وهي التي نصبت فيها محكمة أمن الدولة في محاكمتنا سنة 1978. وهي مجاورة للمعهد الأعلى للتكوين المتواصل الذي كنت في تلك الفترة أدرّس به فأسمع جرس الدخول والخروج من الأقسام وأصوات طلبتي في أوقات الراحة، فيثير فيّ ذلك مشاعر شتى، وأنا شاعر بضعف الاتحاد ويأس النقابيين وتناقص حماسهم نتيجة الأخطاء الفادحة لقيادتهم في أعلى مستوى.
وأطلق سراحنا ليلة العيد.
وقد عبر لي محامي السيزل الذي حضر بعض المحاكمات عن ضعف التضامن الخارجي مقارنة بأزمة 1978 مبررا ذلك ب:
1- القمع المقنع
2- الشكوك حول علاقة حبيب عاشور بليبيا القذافي.
وقد أعلمني إنريكو فريزو بقرار السيزل مقاطعة مؤتمر "الشرفاء" المنصبين من السلطة وإعلام منخرطيها بذلك. واقترح علي التحول إلى بروكسيل، مصحوبا بالصادق علوش بمناسبة اجتماع المكتب التنفيذي للسيزل أيام 1986-05-16-14 ووعد بالتدخل عبر سفارتهم لإرجاع جواز سفري المحجوز، لكن السلطة تمادت في الرفض ولم تسمح بالسفر الا لصادق علوش وخليفة عديد.
-عقب ذلك صدر لي حوار في مجلة حقائق، نتج عنه تشديد الحراسة. وقد لاحظ لي نور الدين حشاد، وزير الشوون الاجتماعية، أن السلطة تعتبر بأنني أتحرك كثيرا وأنني اقتربت من الخط الأحمر حسب عبارة زين العابدين بن علي الذي اعترف له بأنني أنشط بذكاء يدعو إلى الإعجاب.
وقد علقت على ذلك بأنني أحترم القانون ونشاطي منسجم مع أفكاري التي أعبر عنها علنا في الصحافة وهي عمل استراتيجي. فنصحني بأن أوضح ذلك للمسؤولين فقلت له:" إنني لا أطلب لقاء أحد ولكنني لا أرفض الحوار مع أي مسؤول يطلبني".
الرئيس بورقيبة يستهدف حبيب عاشور
بمناسبة الاحتفال بعيد الشغل في غرة ماي 1986 أراد الرئيس بورقيبة أن يبين أن مشكلته ليست مع الاتحاد وأنها مع حبيب عاشور الذي أوهمه ،كما قال، محمد المصمودي بأنه الأقدر على خلاقة بورقيبة.
يوم 24 ماي اتصلت هاتفيا بفرنسيس بلنشار رئيس المكتب الدولي للشغل حول الوضع وعبّر لي عن أمله أن يراني في جنيف في شهر جوان(06) بمناسبة انعقاد الدورة السنوية للمنظمة للتحدث باسم القيادة الشرعية للاتحاد في هذا المحفل الدولي المهم.
وفي يوم 27 ماي 1986 صدر الحكم الاستئنافي في قضية الاتحاد وحبيب عاشور بتأكيد الحكم الابتدائي بسنتين سجنا.
استرجاع جواز السفر وسحبه من جديد
في يوم 02 جوان 1986 اتصلت بي السيدة Denise من السيزل لتقترح علي القدوم إلى جنيف ضمن وفد السيزل. ومن الغد وصلتني برقية من السيزل تدعوني للمشاركة ضمن وفدها إلى جنيف. فخاطبت هاتفيا زين العابدين بن علي لإعلامه بالبرقية، فدعيت إلى وزارة الداخلية واسترجعت الجواز في مكتب خالد قلالة بحضور حبيب عمار آمر الحرس الوطني. لكن بعد أقل من 48 ساعة، تم افتكاكه مجددا في المطار.
إقالة الوزير الأول محمد مزالي
كما كنت متوقعا وحذرت محمد مزالي منه عن طريق فرج الشاذلي، قرّر الرئيس بورقيبة إقالة محد مزالي في 08 جويلية 1986 وتعويضه برشيد صفر. وهو ابن مناضل دستوري قديم هو الطاهر صفر. ومن عادة بورقيبة استخدام أبناء من قضوا من رفاقه في النضال، وتعيينهم في مناصب مهمة.
و سبق له أن أقال نور الدين حشاد من وزارة الشؤون الاجتماعية يوم 23 جوان 1986 إثر وشاية. أعلمني بذلك الشريف الماطري في المطار يوم 29 جوان 1986. ولم يدعه إلى مقابلته كما جرت العادة.
أما المازري شقير المقرب جدّا من محمد مزالي فقد دعي ولكنه فضل الهرب إلى النمسا، وكذلك الشأن بالنسبة إلى أحمد بنور مدير عام الأمن الوطني الذي غادر إلى روما. وإثر منع محمد مزالي من السفر يوم 19أوت 1986 فرّ إلى روما عن طريق الجزائر.
عزلة الرئيس بورقيبة ثم عزله
بطلاق الرئيس بورقيبة لزوجته وسيلة يوم 11 أوت 1986 ثم بطرد ابنه، مستشاره الخاص، تم بطرد كاتبه الخاص الملازم له منذ عقود قبل الاستقلال، ثم بالخصوص تعيين الجنرال زين العابدين بن علي وزيرا أول مكان رشيد صفر، نزع الرئيس الحبيب بورقيبة عن نفسه جميع الدروع الواقية، فأصبح معزولا، فاقدا لأي سند، مما جعل زين العابدين بن علي يكتفي بشهادة أطباء أمضوا على وثيقة شيخوخة بورقيبة وعجزه عن ممارسة مهامه بصفة طبيعية، لينقلب عليه ويطيح به وينتصب مكانه في رئاسة الجمهورية وقصر قرطاج، ويبقى في السلطة عقدين ونيّف، إلى الانتفاضة التي أطاحت به بدوره وبعثت به إلى المنفى، والتي ما زلنا نعيش اليوم على وقع ارتدادات موجاتها المتعاقبة.
الطيب البكوش
قراءة المزيد
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)
الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)
الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)
الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)
الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)
الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)
الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)
الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)
الطيب البكوش - بين الرئيس بورقيبة وزوجته وسيلة: تقاسم أدوار؟ (الحلقة الرابعة عشرة)
رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)
الطيب البكوش: نهايات 1982 وغرابة الأوضاع الوطنية والاقليمية (الحلقة 16)
الطيب البكوش: موسم الأعياد والأسفار الرسمية (الحلقة السابعة عشرة)
الطيب البكوش: صراعات في الداخل والخارج (الحلقة الثامنة عشرة)
الطيب البكوش: الخلافات ترشح في الصحافة (الحلقة التاسعة عشرة)
الطيب البكوش: موقفي وموقف بورقيبة من الانشقاق وطرد الإخوة السبعة (الحلقة العشرون)
الطيب البكوش : أزمة الخبز وملابساتها (الحلقة الحادية والعشرون)
الطيب البكوش: تونس ومخلفات أزمة الخبز (الحلقة الثانية والعشرون)
الطيب البكوش - تونس : أحداث أوت 1984 (الحلقة الثالثة والعشرون)
الطيب البكوش: أزمة الشعب وملابساتها (الحلقة الخامسة والعشرون)
الطيب البكوش: مضاعفات أزمة الشعب (الحلقة السادسة والعشرون)
- اكتب تعليق
- تعليق