أخبار - 2020.07.06

الطيب البكوش: نهايات 1982 وغرابة الأوضاع الوطنية والاقليمية (الحلقة 16)

الطيب البكوش: نهايات 1982 وغرابة الأوضاع الوطنية والاقليمية (الحلقة 16)

عاشور في بروكسيل

بعد أيام قليلة من عودتي من بروكسيل، سافر عاشور بدوره إلى العاصمة البلجكية يوم 22 نوفمبر 1982، ولم يشأ أن يذكر تاريخ عودته، مكتفيا بالقول إن له موعدا في تونس يوم 2 ديسمبر 1982 معAlain savary  (السياسي الاشتراكي الفرنسي، القريب من الأوساط النقابية والداعم لحركات التحرر الوطني). لكن الكتابة التي ضبطت الموعد أكدت أنه يوم 29 نوفمبر 1982. وأضاف عاشور أنه لا يعرف هل سيكون في تونس في ذكرى اغتيال حشاد يوم 5 ديسمبر 1982 أم لا. وتأكد لي سبب هذا التضارب عندما أعلمني محمد شقرون المسؤول عن تنظيم حفل الذكرى بصفته كاتبا عاما للاتحاد الجهوي بتونس، أن الكاتب الخاص لعاشور قال له إن هذه الذكرى ستكون فاشلة هذه المرة. فرد عليه شقرون بأنها ستكون ناجحة.

ورغم أن دعوة مزالي لحضور حفل الذكرى تمت باتفاق بين شقرون وعاشور، إلا أن الشكوك التي تحوم حول حضور عاشور أو عدم حضوره، بدت لي كأنما هي ذات علاقة بهذه الدعوة. وهو ما ستؤكده الأحداث فيما بعد.

لقاء الوزير الأول مزالي يوم السبت 20 نوفمبر 1982

في هذا اللقاء، أطلعته على تعثر المفاوضات والتلاعب بالأرقام، وقلت له:" إني أخشى أن تكون بعض الأطراف، التي ضربت مصداقية الحكومة سياسيا بالتلاعب بنتائج الانتخابات التشريعية منذ عام، تسعى اليوم إلى ضرب مصداقية الحكومة اجتماعيا بإدخالها في صدام مفتعل مع اتحاد الشغل، فأكد كلامي بحركة من رأسه تعبيرا عن الموافقة.

ثم تحدثنا عن إضراب التعليم العالي، وعن مكالمة هاتفية من وسيلة زوجة الرئيس من العمرة التي تؤديها عائدة من الهند.

وعندما كان الرئيس بورقيبة عائدا بالطائرة من صفاقس أطلعه محمد كريم على ملخص نشرته Le Temps التونسية لخطابي أمام أعوان وكالة تونس افريقيا للأنباء، وسلمه لمزالي الذي قرأه عليه، فتوقف الرئيس عند جملة جاء فيها "إن تشخيص القضايا مظهر من مظاهر التخلف"، فعبّر الرئيس عن استحسانه لهذا القول.

انعقاد المجلس المركزي للعمال العرب يومي 27-26 نوفمبر 1982

رافقني الناجي الشعري (الأمين العام المساعد المكلف بالدراسات وهو من قطاع الإعلام).
كان حضورنا من عوامل التحسين النوعي في سير أشغال المجلس، ذلك أنه كان يوجد استياء من تسيير اتحاد العمال العرب من قبل الأمين العام حميد جلود، الليبي، لأن همّه كان دائما تنفيذ تعليمات العقيد معمر القذافي، لذلك تجاهل القمة العربية الملتئمة بمدينة فاس المغربية وحاول إدانة بعض الدول العربية المشرقية، وقد طلب مني نقابيون فلسطينيون ترشيحي للأمانة العامة لاتحاد العمال العرب مكانه. لكني اعتذرت عن القبول وشرحت لهم أسباب رفضي.

إحياء ذكرى اغتيال حشاد (5 ديسمبر 1982)

اتفق عاشور مع شقرون كما ذكرت أعلاه على دعوة مزالي ومحمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية. لكن عاشور لم يحضر وبقي في النمسا. وروّج بعض المحسوبين عليه أن غيابه لعدم موافقته على حضور الحكومة، بينما حضر معه والي سوسة في إحياء ذكرى حوادث النفيضة، والوالي ممثل للسلطة بالجهة.

لم يشأ عاشور الإعلام بتاريخ رجوعه إلى تونس. وتم تنظيم مسيرة جبارة، كانت الأولى من نوعها منذ الاستقلال حسب قدماء النقابيين. كما نُظمت مسامرة ليلة السبت كانت طريفة، فيها حوار بين جميع الأجيال.

ومن التقاليد زيارة أرملة حشاد أم الخير وعائلتها في منزلها مساء الرابع من الشهر.

وفي صباح الخامس من الشهر، تتحول القيادة النقابية وممثلون عن الحكومة، وأحيانا رئيس الجمهورية بنفسه إلى الضريح بالقصبة، ثم نتحول إلى قاعة الاجتماع. في الضريح حضر معي مزالي وطلب مني توجيه الدعوة إلى أعضاء الحكومة. فقلت له": نحن نوجه الدعوة إلى الوزير الأول ممثلا عن الحكومة، وهو حر في أن يصطحب من يشاء من الوزراء. فالتفت إلى من حوله وأعلمهم بدعوتي لهم. فقال له قيقة وزير الداخلية: "أنت تدخلت لدى سي الطيب ليدعونا، فبارك الله فيك". وحضر من أعضاء الحكومة مع مزالي في الاجتماع العام الخطابي كل من قيقة والناصر وبن عصمان وبالي وجمعة وكريم.

وقد قال نجل حشاد نور الدين بعد خطابي:" هذه أول مرة تستخلص فيها العبرة من الاغتيال بهذا الشكل من التحليل، فبارك الله فيك".

لكن بعض الحاضرين لاموني على عدم ذكر الرئيس بورقيبة. والبعض الآخر لامني على عدم ذكر عاشور. فقال لي نور الدين حشاد: هناك من يملأ رأس بورقيبة ضدك لأنك لا تذكر الرئيس في خطاباتك كما يفعل الآخرون.

لكن مزالي كان مسرورا بالاجتماع وقال لي Je souscris à tout ce que vous avez dit ": أنا موافق على كل ما قلت، والرئيس بورقيبة فرح أيضا بما جرى".

بين الاتحاد والحكومة خلال فيفري 1983

بمناسبة إحياء ذكرى استشهاد النقابي الكوكي في 15 فيفري 1983 بالنفيضة من ولاية سوسة، لم يحضر عاشور ولم يعلمني بذلك الا بعد أن اتصلت به هاتفيا فقال إنه عاد من السفر متعبا وفضل إجراء اتصالات هامة قبل موعدنا مع الحكومة من الغد 16 فيفري 1983، نظرا لانعقاد مجلس وزاري مضيق حول المفاوضات في المساء.

قبل مغادرتي سوسة إلى تونس، قال لي مختار الشنيتي الرئيس المدير العام للشركة التونسية لصناعة السيارات STIA بسوسة: إن ما يروّج الآن هو أن عاشور متفهم صعوبات الحكومة ومتساهل معها، بينما الطيب البكوش هو المتصلب، وأن هذا الترويج ينسب إلى المازري شقير، المساعد الأول لمزالي. وقد أكدت لي هذا مصادر حكومية أخرى.

وبلغني أنه يحرّف الإعلام لمزالي في هذا الاتجاه، كأن ينسب لي رفض تحكيم الحكومة. وهو تشويه لقولي: إن الحكومة لا يمكن أن تكون خصما وحكما في القطاعات التي تكون فيها مشغلا، وخاصة في الوظيفة العمومية التي كانت آنذاك تشغل 60% من الأجراء. وهو كلام قلته لعاشور، وهو الذي نقله لشقير معبرا عن قبوله تحكيم الحكومة.

وقد أطلع المازري شقير عاشور على الوثيقة السرية التي قدمها منصور معلى للمجلس الوزاري المضيق، فدعاني عاشور ليلا إلى منزله للاطلاع عليها قبل إرجاعها إليه.

وروى لي الوزير محمد كريم أن معلى هاجم عاشور لدى الرئيس عندما كان في مدينة نفطة بالجنوب التونسي ،فكان تعليق الرئيس شديد اللهجة تحقيريا إلى حد القول:" ندمت على إطلاق سراحه وإرجاعه الى الاتحاد".

وكان معلى في أحد الاجتماعات معنا، توجه إلى عاشور بلهجة بين الجدّ والهزل:" اتركنا يا سي الحبيب نتفاوض مع سي الطيب ونتناقش بالحجة والأرقام وابق أنت حكما فيما بعد".

وبلغنا أن مجلس الوزراء الذي ترأسه بورقيبة بنفسه أواخر جانفي بحضور الفرجاني بالحاج عمار رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، وهي منظمة أصحاب الأعمال، عارض فيه بورقيبة الزيادات في الأجور، وغضب عندما استعمل محمد الناصر عبارة Les bas salaires  "الأجور المنخفضة" وهاجم الرئيس عاشور لأنه يريد كما  قال ": أن يبرك الحكومة بينما يطلب مني أن أعينه على تصفية المتطرفين"

وقد فهمت السلطة أن تصفية المتطرفين ذريعة يستعملها عاشور لتصفية من لا يدين له بالولاء.

ونُقل لي أن وسيلة زوجة الرئيس زارت محمد صالح بالحاج في العيادة الطبية، وهناك قالت:" إن عاشور ما عندوش فين يمشي (لا يبتعد عنا). أما الخطر فهو من ذاك الفرخ بولحية". وفهم الحاضرون أنها تقصدني.

ومن بين القضايا الشائكة في قطاع التعليم العالي قضية ربط الحكومة تحسين أجور الجامعيين بالزيادة في عدد ساعات التدريس. وقد ذكر مزالي في مجلس وزاري لدعم موقفه، أن عاشور اتصل به هاتفيا يوم 18 فيفري 1983 ليؤكد له أن الزيادة في ساعات التدريس ليست مشكلا لأن الجامعيين قبلوها منذ 1976. فعلقت على الخبر بقولي:" ألم يسأله وزير من الوزراء الحاضرين، لماذا لم تطبق إذن هذه الزيادة منذ ذلك التاريخ حتى الآن؟

وقد حضرنا معا يوم 21 فيفري 1983 جلسة تفاوض مع مزالي مرفوقا بالناصر وشقير، عبّر فيها الوزير الأول عن غضبه على الجامعيين، مقارنا سلوكهم معه ومع سلفه الهادي نويرة، فكان تعليق عاشور أن المتطرفين في الاتحاد ينتقدون السياسية الرأسمالية للحكومة، وقد زلقوا لنا أشياء وحذفنا أشياء في المجلس الوطني".

وقد تم تنقيح النص النهائي بالهاتف بيني وبين مزالي يوم 23 فيفري 1983، ثم ناقشه مجلس الوزراء من الغد مدة ساعة ونصف ولم يصادق عليه إلا بصعوبة نتيجة التراجع في زيادة الساعات بالخصوص.

ورغم أننا اتفقنا في المكتب التنفيذي على عدم نشر لائحة الوظيفة العمومية قبل عرضها على مجمع الوظيفة العمومية، فإن عاشور قال من الغد بحضور ناجي الشعري لوفد نقابي إن المكتب التنفيذي قبل اللائحة واستغرب عدم نشرها في جريدة الشعب معللا ذلك ربما بعدم الشغور في الجريدة. فبقي الشعري مبهوتا.

وتأكد لي أن عاشور اجتمع سرّا في منزله بمجموعة من النقابيين من جهة تونس، في محاولة للانقلاب على الكاتب العام محمد شقرون الذي يعتبره أقرب إلي منه، ولكنه لم ينجح في ذلك. وقال له يوما:" إذا كان الطيب صديقك فأنا أبوك الروحي"، فأكد له شقرون حرصه على التعاون بيني وبين عاشور لتكاملنا.

ولأن في ذلك مصلحة الاتحاد.

وسنرى في الحلقة القادمة تسارع الأحداث الاجتماعية والنقابية والسياسية الى نهاية عام 1983، بانقسام نقابي خطير إثر طرد نصف المكتب التنفيذي، وافتتاح السنة الموالية 1984 بانتفاضة الخبز يوم 3 جانفي 1984.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)

الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)

الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)

الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)

الطيب البكوش - بين الرئيس بورقيبة وزوجته وسيلة: تقاسم أدوار؟ (الحلقة الرابعة عشرة)

رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.