الطيب البكوش: الخلافات ترشح في الصحافة (الحلقة التاسعة عشرة)
لما تبين عاشور أنني أعرقل جهوده للتخلص مِمَّن يريد التخلص منهم بغير وجه حق، ولم ينجح في مجابهتي داخل الهياكل رغم تواصل دفاعي عنه لدى السلط جميعا، قرّر مهاجمتي في الصحافة بما فيها الصادرة في الخارج، واضطرني إلى الردّ عليه بالحجة والبرهان لما تضمنته أقواله من قلب للحقائق بشكل لا يليق بمن كان في مقامه.
فقد صدر له يوم 24 أوت 1983 حديث في أسبوعية جون أفريك (عدد مزدوج 1180-1181)، فاتصلت بي الأسبوعية "الرأي" والأسبوعية "المغرب" وحاورني منها عمر صحابو ورشيد خشانة وسهام بن سدرين ومصطفى التليلي لتوضيح موقفي.
ثم أرسلت ردا بالفرنسية إلى جون أفريك نشرته في عددها بتاريخ 7 سبتمبر 1983 ص 43، توضيحا للواقع بكل لياقة، وختمته بالقول:"إذا كانت هناك خلافات فيجب مناقشتها داخل هياكل الاتحاد لا في الساحة العامة. والأخ الحبيب عاشور، رئيس الاتحاد، يجدر به أن يكون أحرص الناس على ذلك".
وللتعبير عن تأثره بهذا الردّ قال لخير الدين الصالحي: "أيعجبك ما نشره الطيب؟" فأجابه: "لم يعجبني ما نشرته أنت ولا ما نشره الطيب".
• وكنا معا يوم 31 أوت 1983 في اجتماع لجنة المتابعة مع محمد الناصر والفرجاني بالحاج عمار، رئيس اتحاد الصناعة والتجارة، فقال أمام الجميع: "الفرجاني أقرب إلي من بعض النقابيين". وأعلن أمامهم عن عزمه التحول إلى ليبيا وإنشاء بنك شعبي مشترك مع أطراف ليبية رسمية، دون أن نكون على علم بذلك.
ومثل هذه المبادرات الفردية سوف تضر بالاتحاد وبالعلاقات التونسية الليبية فيما بعد. وقد علق دريس قيقة لنورالدين حشاد على تصرفات عاشور بقوله بالفرنسية: "مع عاشور، كل شيء يرجع إلى قضية أشخاصavec Achour tout se ramène à une affaire de personnes"
• وقد أعاد الصادق بن جمعة لقيقة ما قاله له عاشور: "الجماعة (يقصد المكتب التنفيذي) سأضربهم جميعا".
عيد الأضحى متزامنا مع ذكرى صبرا وشتيلا (17 مارس 1983)
أثناء تهنئة الرئيس، قدمني عبد المجيد القروي سهوا باسم الهادي البكوش، فلم يستوقفني الرئيس حتى لا يضطر لإصلاح خطأ مدير مراسمه، ولكنه كلف كاتبه الخاص علالة العويتي بأن يتصل بي في القاعة حتى أنتظره. وفعلا دخل القاعة وتوقف لحظة مع الحبيب شيخ روحو، مدير دار الصباح، وذكرّه بأنه كان مع صالح بن يوسف ضده، ثم توقف مع وزير الإعلام عبد الرزاق الكافي، ثم اتجه نحوي، وبجانبي مصطفى الغربي، وقال لي: "الآخر أين هو؟" فقلت: "في مهمة بالخارج". فقال: "عندما يدعو رئيس الدولة أحدًا، تلبيةُ دعوته أولى من السفر، فأنا لم أره منذ مدة". فقلت:"سأبلّغه ذلك". فقال: "قيل لي إنه ذهب إلى لندن. لكنه لا يعرف الإنجليزية!". فأجبته باسما: "توجد الترجمة في مثل هذه المناسبات". فابتسم ثم غيّر الموضوع قائلا: "أنتم راضون الآن بالضغط على الأسعار؟ حبيب عاشور وصف ذلك بأنها معجزة". فقلت: "الحكومة بذلت مجهودا كبيرا في ذلك". فقال: "يجب أن تعينوها إذن؟". فقلت: "نحن نتحاور ونتعاون على ما فيه مصلحة بلادنا". فقال: "أنا رئيس الدولة وأحرص على مصلحة العامل والعرف (أي صاحب أو رئيس المؤسسة)". فقلت: "بالطبع، رئيس الدولة هو رئيس جميع التونسيين". فقال:"بارك الله فيك وأعانكم الله".
إثر هذا الحوار مع الرئيس، انحنى مزالي وأسرّ في أذني: "قيل لي إنه هنا، عاد من الخارج ولم يحضر". فقلت له دفاعا عن عاشور كعادتي: "إنه يعود يوم الأحد على حد علمي". قلت هذا رغم أنه لم يعلمني بتاريخ عودته.
وحوار الرئيس معي أمام الحاضرين، قصد به التأكيد على أن الاتحاد ممثل بأمينه العام رغم غياب رئيس الاتحاد، خصوصا أنه اطلع دون ريب على السجال الصحفي بيننا.
وحدثني الطاهر بالخوجة بعد يومين عن سفر الرئيس يوم 19 سبتمبر1983 مصحوبا بابنه وزوجته الى ألمانيا في نطاق التصالح العائلي، واحتمال تعويض مزالي بالابن على رأس الحكومة، مما جعل البعض، كما قال، يتقرب إلى الابن.
تواصل محاولات الانقلاب على بعض الهياكل النقابية
بمناسبة انعقاد الهيئة الإدارية بسوسة سعى عاشور جاهدا إلى حلّ المكتب التنفيذي وتنظيم مؤتمر استثنائي، موصيا أربعة أعضاء بالاستقالة تمهيدا لذلك. ولما كان داخلا، اعترضه بعض المطرودين، فقال لهم: "مكتبكم لا يصلح، وسوف يخرج من مؤتمركم مكتب جديد قادرعلى الدفاع عنكم".
حاول مرارا خرق القانون، فمنعته من ذلك، فقال لي غاضبا: "أي قانون! خلينا نخدمو (أتركنا نشتغل)".
كلامه هذا جعل عددا كبيرا يتمسك بالمكتب الحالي مع الدعوة إلى المصالحة بين أعضائه، وذلك رفضا للوصاية. ولم تبق إلاّ أقلية تريد حل المكتب.
وإثر الهيئة الإدارية بسوسة بدا عليه انهيار المعنويات، فقال لناجي الشعري "أنت لست قرقنيا (أي أصيل جزيرة قرقنة مثله)، فأنت تحب الطيب البكوش أكثر مني لأنه مثقف، وأنا "زُلاطْ" (أي جاهل)".
وبمناسبة انعقاد مؤتمر مدنين يوم غرة أكتوبر 1983، تساءل عديد النواب بقلق عن الخلافات في القيادة، فقال عاشور، "أنا قلت كلاما، والطيب رأى أنه ليس كذلك، فردّ، ومن حقه ذلك ولا أستطيع منعه. والآن نحن أخوان نعمل معا ولا بأس علينا".
لكن هذا لم يمنعه من إظهار غيرته حتى مع الصحفيين، إذ غضب على سارة عبد المقصود التي استجوبتني لجريدة الصباح إثر الاجتماع مع مزالي والأطراف الاجتماعية حول الطرد ومقاييس الإنتاج.
وقد استدعى عاشور فرنسيس بلانشار، المدير العام للمكتب الدولي للشغل يوم 12 أكتوبر 1983 بتونس ولم يدعني كما تقتضي الأعراف والعادة.
لكن بمناسبة عودة الرئيس من ألمانيا، طلب مني عاشور أن نذهب معا لاستقباله، فرفضت، وذهب وحده. طلب مني ذلك لأنه يشعر بالحرج لتغيبه في المناسبات السابقة.
وقال لي بعد عودته إن الرئيس حدثه عن الخبز الذي أصبح يلقى في المزابل ويُعطى علفا للحيوانات لانخفاض ثمنه.
وواضح أن هذا الكلام تحضير لقرار رفع سعره الذي سيكون كارثة على البلاد. وقال لي إنه أجاب الرئيس بقوله " هذه مسألة يهتم بها سي محمد (مزالي) وسي عزوز (الأصرم). فكان تعليق وسيلة حسب رواية عاشور: "لكن الرئيس يهتم بكل شيء". وكأنه أحس بأنها "مرقته" (أي عارضته).
ويوم 18 أكتوبر 1983، اختتمتُ الندوة الدولية للمصالح العمومية ISP
وحضرنا معا يوم 29 أكتوبر 1983 المؤتمر الاستثنائي لقطاع النسيج، الذي غاب عنه خير الدين الصالحي، مسؤول النظام الداخلي، وهو المؤتمر الذي بذل فيه عاشور جهدا كبيرا لإنجاح هيأة موالية بخرق القانون. وعندما منعته من تصرف غير قانوني، شتم القانون كما رأينا في حلقة سابقة.
كل هذا دفع بعاشور إلى حرق المراحل لإحداث أزمة عميقة ستكون لها نتائج كارثية، بمناسبة اجتماع مكتب تنفيذي يوم 10 نوفمبر1983، وهو اجتماع غريب فاشل، نتائجه لم تكن في الحسبان كما يتضح في ما يلي.
رأينا أعلاه في اجتماع سوسة أن عاشور لم ينجح في الحصول على العدد الكافي من الاستقالات في المكتب الجهوي لعقد مؤتمر استثنائي.
لكنه عاد إلى الموضوع وأعلمنا باستقالة العضو الخامس، وهو لا يخفي فرحه بذلك. وقال إنه بعث ببرقية إلى سوسة يعلم بحل المكتب. فنبهته إلى أن الحل غير قانوني لأن النظام الداخلي الجديد ينص في حالة شغور الأغلبية (5 على 9) على عقد مجلس جهوي للبت. فتشبث بالحلّ، وعندما استأنفنا الاجتماع في الغد، بلغنا أن العضو المستقيل، تراجع لأنه استقال بضغوطات. لكن عاشور رفض هذا التراجع في برقية ثانية بدون استشارتنا، في حين أعلمت أنا سوسة بالانتظار ريثما نبث في الأمر في المكتب التنفيذي. وتقرر إرسال عضوين من المكتب التنفيذي إلى سوسة. وكان عاشور غاضبا على ناجي الشعري لأنه أيد موقفي المستند إلى القانون.
لكن العضوين المقترحين وهما خير الدين بوصلاح والصادق علوش رفضا، فزاد غضب عاشور رغم أن الصادق بسباس تطوع للتعويض.
ولما التفت ناجي الشعري إلى خليفة عبيد قائلا : "أنت رجل مسن يقدرك الجميع فاذهب إلى سوسة"، تظاهر عاشور بأنه المقصود برجل مسن "شايب" ورد على الشعري بكلام عنيف مفرط في البذاءة والفحش. فرد الشعري مستغربا باستياء "ما هذا الكلام، لا أسمح لك بإهانتي". فهدده عاشور بقوله "اسكت وإلا أخرجتك، في مقدوري أن أمنعك من دخول الاتحاد في المستقبل".
فرد الشعري : "إذن لن أخرج من هنا". فقام عاشور غاضبا وذهب إلى مكتبه، وقام الشعري غاضبا يريد الخروج، فأمسك به خير الدين الصالحي قائلا : "لا يا ناجي، هو بمثابة أبيك"، وانفض المجلس.
وبعد الاندهاش مما حدث التحقت، ومعي عبيد، بعاشور وقلت له : "أنت الآن متوتر الأعصاب، فاذهب إلى البحر لتغيير الجو" ثم ذهبت إلى مكتبي.
كان واضحا أن عاشور اصطنع هذه الزوبعة لافتعال أزمة". بعد ساعة، هاتفني عاشور ليطلب مني مواصلة الاجتماع يوم السبت.
لما أعلمت الجماعة رفضوا وطلبوا مني عدم الحضور تضامنا. فبررت حضوري بالوفد الفلسطيني الذي سيزورنا في ذلك اليوم.
واجتمعنا بعد ذهاب الوفد الفلسطيني، وكنا ستة بغياب بوصلاح والسبعة الآخرين ونظرنا في قضية سوسة.
لُمت عاشور على البرقية الثانية الرافضة للاستقالة وقلت له : "كان من الواجب أن نناقش الموضوع معا قبل أي قرار". وتم الاتفاق على إرسال عبيد والعلوش وبن عاشور إلى سوسة.
سافرت بدوري إلى سوسة وسافر عاشور إلى صفاقس وتعرض إلى حادث مرور.
ذكرت هذه التفاصيل لأنها تبين تعقد الأجواء، بل تعفنها، في الاتحاد نتيجة تصرفات عاشور غير المقبولة. وسنرى في الحلقة القادمة قرار السبعة، وهم نصف المكتب التنفيذي، مقاطعة الاجتماعات مع عاشور وإصدارهم بيانا في الصحافة لتفسير موقفهم، وقرار الهيأة الإدارية طرد السبعة، مما دفعهم إلى تأسيس منظمة منشقة بتشجيع من السلطة، وهي مرحلة من أعقد المراحل التي واجهتني في مسيرتي النقابية، وغيرت العلاقة بيني وبين الرئيس الحبيب بورقيبة.
الطيب البكوش
قراءة المزيد:
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)
الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)
الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)
الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)
الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)
الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)
الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)
الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)
الطيب البكوش - بين الرئيس بورقيبة وزوجته وسيلة: تقاسم أدوار؟ (الحلقة الرابعة عشرة)
رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)
الطيب البكوش: نهايات 1982 وغرابة الأوضاع الوطنية والاقليمية (الحلقة 16)
الطيب البكوش: موسم الأعياد والأسفار الرسمية (الحلقة السابعة عشرة)
الطيب البكوش: صراعات في الداخل والخارج (الحلقة الثامنة عشرة)
- اكتب تعليق
- تعليق