أخبار - 2020.05.19

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

كنت أشرت في الحلقة السابقة (7) إلى ملابسات نقل عاشور من منزله إلى المركز الاستشفائي بقربص، وكيف رفض أول الأمر. وعندما طلب منه الإمضاء على الرفض تراجع وقبل الذهاب.

كان واضحا عندي أن توخي بورقيبة أسلوب المرحلية قبل السراح النهائي هو أنه يريد أن يقيّم كل مرحلة ليرى هل يواصل التقدم في الاستجابة لطلبي الإفراج عن عاشور نهائيا أم لا.

وكان جل الإخوة الذين يزورونه في قربص بكل حرية يعلمونني بالحوار الذي يجريه معهم.

كان سعيدا جدا بإقامته في قربص للاستشفاء ولسهولة زيارة النقابيين له لقربها من تونس (أقل من 70 كم).

ومن خلال ما كان يصلني من أخبار، تبين لي بتقاطع الروايات، أنه كان يستعمل لغة مختلفة حسب نوعية الزائرين.

للبعض يعبّر عن رضاه عن مؤتمر قفصة ونتائجه وعن الوضع الراهن في الاتحاد.
للبعض الآخر (وفد سوسة مثلا) يقول : لا شرعية الا للمؤتمر الرابع عشر [الذي التأم في ربيع 1977].
للبعض الآخر، الموقف غامض، لا يفهم منه بوضوح أنه مع أو ضد مؤتمر قفصة.
وللبعض الآخر، يقول إنه سيتقابل قريبا مع الرئيس بورقيبة ليوضح الأمور معه، معتبرا أنه وقعت مغالطة بورقيبة، ويكفي أن يستقبله لترجع الأمور إلى مجاريها.

وهنا يطفو على السطح عاشور القديم الذي يعتمد على سلطة بورقيبة لدعم موقعه في الاتحاد.

وهكذا بدأت ترشَح بعضُ وسائل الإعلام الخاصة بمثل هذه الأخبار المتضاربة، واستغلت بعض الأطراف ذلك لبث الفتنة بين النقابيين.
فقد نشرت على سبيل المثال جريدة "الأنوار" الأسبوعية التونسية  مقالا نسبت فيه لعاشور قوله إنه يعتبر مؤتمر قفصة والقيادة المنبثقة عنه غير شرعية [رغم أنها انتخبت بمشاركة 77 في المئة من المؤتمرين].

لكن جاءني مؤسسها بشير سالم بالخيرية للاعتذار، ثم جاءني من الغد (25-8-81) حبيب بن سلامة وصلاح الدين العامري واعتذرا، مؤكدين أن أحد النقابيين حرّر المقال وتم نشره خطأ، وأن المستقبل سيبين موقف الجريدة المساند للاتحاد.

ومن بين الوفود التي زارته، كلف عاشور ثلاثة إخوة وهم الحبيب قيزة (اتحاد قابس) ومحمد الكافي العامري (اتحاد القصرين) وعبد السلام جراد (جامعة النقل) بإبلاغي أنه مستاء من بعض تصريحاتي في جريدة الشعب حول أحداث قفصة. وادعى أن له ردّا مكتوبا ولكنه لم يقرر نشره الا بعد التثبت من قصدي. لكن بعد أن وضحت لهم رأيي، عاد إليه الكافي العامري [وهو من خيرة النقابيين الجديين النزهاء الذين عرفتهم]، فوجده كما قال "غير مستعد للسماع والحوار"، فندم على زيارته وقال لي: “كنت أحترم عاشور، أما الآن فقد انتهى".

وعندما زاره وفد من مكتب النقابة الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي التي أنتمي إليها، (درة محفوظ والمهدي عبد الجواد وجنيدي عبد الجواد)، اتهمني بالتحالف مع الحكومة ضده، ولوّح لهم بورقة، رفض اطلاعهم عليها قائلا " مازلت لم أقرر نشرها لأني مازلت أتشاور فيها".

فصدموا بكلامه، لأنهم أعلم الناس بما أقوم به من أجله. ولعله ينتظر التشاور مع محمد المصمودي الذي تردد عليه بعض النقابيين، ومنهم من كرر التردّد.

-وبعد أن زاره اثنان من قادة جماعة جريدة المستقبل، نشرت الجريدة مقالا يوم 24-8-81 فيه تهجم على شخصي. وقد نقلت عنها Le Maghreb   فقرة أدمجتها في مقال عام. ثم اتصل بي حسيب بن عمار الذي كان يدير جريدتي "الرأي" و "démocratie"، لتوضيح ما نشرته "المستقبل" بكثير من التجني والانحياز، وكأنه أراد بذلك إحداث التوازن، لما يتميز به حسيب بن عمار من اعتدال.

والغريب أن عاشور يتهمني، فيما نشرته المستقبل، أنا وعبد العزيز بوراوي وخير الدين الصالحي بالتدخل لدى مزالي لينقله إلى قربص بدل جزيرة قرقنة. وهو كلام لا يصدقه  عاقل. وكنت أشجع النقابيين على زيارته ليسمع من الجميع.

وقد حاولت أن أفهم الدوافع العميقة لمثل هذا التذبذب في المواقف والتناقض الذي يلامس ما يعرف في علم النفس بالكلبية، لا بمفهومها الفلسفي القديم، وإنما بمفهومها الجاري اليوم في الاستعمال، نسخا للغات الأجنبية. Cynisme

وبدا لي أن السر قد يكمن في نوعية العلاقة بين عاشور وبورقيبة. فعاشور يعرف جيدا بالممارسة، منذ مطلع الاستقلال، أن بورقيبة تعود ضرب القيادات النقابية رأسا برأس (وخاصة الثالوث الحبيب عاشور وأحمد التليلي وأحمد بن صالح) ، ليحافظ بفرقتهم على هيمنته وتدخله في الشؤون النقابية، باسم الوحدة الوطنية. ولأول مرة يجد بورقيبة أمامه أمينًا عاما يدافع عن سلفه ويسعى جاهدا لرفع الاستثناء عنه. فأصبح عاشور يعتقد أن دفاعي عنه يجعل بورقيبة يؤجل الإفراج النهائي عنه، لأنه لا يريد أن يفعل ذلك تحت الضغط، وإنما بمنة منه. كما ان عاشور لا يريد ربما  أن يكون مدينا لي بسراحه، ظنا منه أن ذلك يعزز موقعي في الاتحاد، لأنه لا يراني، بحكم تكوينه، إلا منافسا لا داعما أو مناصرا.

لأجل ذلك كثف هجومه علي باطلا، مما اضطرني أحيانا للردّ مكرها، قصد توضيح الأمور وإرجاع الحقيقة إلى نصابها، مما جعل خلافاتنا تخرج إلى العلن وتقسّم النقابيين، وتضعف الاتحاد. وسيظهر ذلك جليا بمناسبة الانتخابات التشريعية وبعدها.
لكن ذلك لم يثنني عن القيام بواجباتي النقابية كاملة، وخاصة مساندة الإضرابات المشروعة لإضفاء الشرعية عليها، كما حدث على سبيل المثال مع جامعة النقل ونقابة الرفاهة التي أثارت اهتمام السلطات وانزعاجها.

إضراب النقل

كثفت الاتصال هاتفيا بمحمد الناصر، وزير الشؤون الاجتماعية، والصادق بن جمعة، وزير النقل، ومحمد مزالي، الوزير الأول، للتوصل إلى حل، دون جدوى. وأراد محمد الناصر استعمال الحجة القانونية ضد الإضراب، وهي الإعلام المسبق بعشرة أيام. فقلت له:" أنا الذي حجزت البرقيات القانونية عندي لأن ثلاثتكم كنتم غائبين، ولم أشأ أن أتفاوض معكم تحت ضغط برقية الإضراب.

وأعلمني الصادق بن جمعة أن الجيش سيتولى قيادة الحافلات. فحذرته من مغبة هذا الإجراء الخطير باعتباره تكسيرا لإضراب مشروع، وهو محدود بيوم واحد، وأنا أسانده، ولن أسكت عن تكسيره بالقوة.

فاجتمع مجلس الوزراء المضيق الذي انعقد خصيصا لهذا الغرض، وقرّر اجتناب الصّدام، فجرى الإضراب بنظام لم يسبق له مثيل.
وقد أكد لي عبد السلام جراد، كاتب عام جامعة النقل، إكبار أعوان النقل لموقفي حول البرقيات والتصدي لمحاولة كسر الإضراب. وقد كان مزالي متضايقا جدّا منه، وعبّر لنور الدين حشاد عن ألمه من مساندتي للإضراب، وقال لحشاد "كيف يقول سي الطيب أن "النقل و"الرفاهة اختبار للحكومة؟"

إضراب مؤسسة الرفاهة le confort

طال الإضراب قرابة العشرين يوما واستنزف رصيد صندوق الإضرابات، وأصبح بالنسبة إلي تحديا، لأن الرءيس المديرالعام  (م بن ع) لم يطبق أوامر الرئيس بإرجاع المطرودين وواصل خرق القانون بكل صلف، فاتصلت بوزير الداخلية إدريس قيقة، لأنه حضر حديثي في الموضوع مع بورقيبة (أنظر الحلقة الرابعة). فقال لي: هذا موضوع يتجاوزني، عليك بالوزير الأول، فاتصلت به فكان جوابه مماثلا لسابقه. فسألته:" إذن من يحل المشكل؟" فأجابني مزالي" لا أحد غيرك أنت مع الرئيس بورقيبة". فطلبت موعدا معه. فاستمع إلي بانتباه، ولاحظت أنه كان متجهما، لمكانة (م بن ع) لديه منذ عهد مقاومة الاستعمار.

بعد المقابلة بقليل أعلمني وزير الداخلية قيقة أن الرئيس قرر عزل ال ر م ع قريبا. انتظرت أياما. وعلمت من المضربين أن ال ر م ع انتدب أعوانا جددا بصفة غير قانونية لكسر الإضراب. فاتصلت يوم4-9-81 بوزير الداخلية قيقة وأعلمته أنني قررت تركيز فريق اعتصام piquet de grève لحماية الإضراب، وحّذرته من تدخل الشرطة التي تعود إليه بالنظر.

بعد ذلك بقليل أعلمني أن الرئيس قرّر إقالة ال ر م ع. وعلق قائلا بالفرنسية ما معناه" أن الرئيس بورقيبة قد قدم لك هدية هامة".
وسنرى في الحلقات القادمة متابعة قضية رفع الاستثناء عن عاشور وقضية الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها ومحاكمة "تنظيم الإخوان".

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.