أخبار - 2020.05.25

الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)

الطيب البكوش: :  انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)

كنت أشرت في خاتمة الحلقة السابقة، وهي الثامنة، إلى أن الحلقات القادمة سوف تتركز على ثلاث قضايا متداخلة في الزمن، وهي تواصل المساعي لرفع الاستثناء عن عاشور، والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، ومحاكمة تنظيم الإخوان الذي عرف باسم "حركة الاتجاه الإسلامي" الذي غير اسمه فأصبح حزب "حركة النهضة" في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، الذي خلف الرئيس الحبيب بورقيبة.

هذه القضايا شغلت الطبقة السياسية والنقابية والرأي العام التونسي في الفترة الممتدة من أوت إلى نوفمبر 1981، وهو الشهر الذي قرر مؤتمر قفصة عقد مجلس وطني فيه لاستكمال ما بقي منقوصا، طبقا للائحة “رفع الاستثناء" التي تلوتها بنفسي في ختام المؤتمر، وصادق عليها بإجماع الحاضرين.

قضية الانتخابات التشريعية والجبهة الوطنية

في بداية شهر سبتمبر اتصل بي الوزير المنجي الكعلي بالهاتف ليقترح علي اجتماعا بين وفد من الديوان السياسي للحزب الحاكم، “الحزب الاشتراكي الدستوري"، ووفد من المكتب التنفيذي للاتحاد، في الدار المغربية بقرطاج. (بحيث يحضر مع الوزير الأول محمد مزالي: المنجي الكعلي، والباجي قايد السبسي ومنصور معلى والطاهر بالخوجة والمازري شقير وادريس قيقة) ، فاشترطت أن يكون المشاركون وزراء لا مجرد أعضاء ديوان سياسي، لأني أتفاوض دائما مع حكومة، ومشكلي ليس مع حزب سياسي.

فلم يعجبه كلامي وقال “الله يهديك". ومن الغد أعلمني بالقائمة الرسمية، وأعلمني أن الرئيس الحبيب بورقيبة حريص على مشاركتي شخصيا في الانتخابات التشريعية لأنه كما قال لا يتصور ألا يكون الأمين العام للاتحاد مترشحا كما جرت العادة منذ الاستقلال.

حضر الاجتماع إلى جانب مزالي، الوزراء ادريس قيقة والمنجي الكعلي ومنصور معلى ومحمد كريم ورشيد صفر والمازري شقير والطاهر بالخوجة.
عرض علينا مزالي مشروع الجبهة الوطنية التي كانت موجودة في جميع الانتخابات منذ الاستقلال.
ثم أحال إلي الكلمة، فقلت: يجب وضع القضية في إطار أشمل من مجرد قضية انتخابات معزولة عن الوضع العام في البلاد بكل خلفياته، وأريد أن أذكر منها ما يلي:

• أولا مازالت مخلفات أزمة 26 جانفي 1978 قائمة والحواجز النفسية موجودة رغم الجهود والمبادرات الايجابية.

ثانيا ثمة تناقضات تعرقل الانفتاح الديمقراطي، من ذلك طبيعة محاكمة جماعة الاتجاه الإسلامي التي اكتست صبغة سياسية تتناقض مع التصريحات الرسمية حول العنف وحرق مقرات واحتجاز عميد كلية، الخ.

ثالثا ارتفاع الأسعار يتناقض مع التصريحات والوعود بتجميدها إلى نهاية العام.

رابعا لا يمكن إعادة صيغة الجبهة الوطنية كما كانت في بداية الاستقلال.  فالاتحاد لا يقبل أن يكون جرما يدور في فلك حزب سياسي إلى جانب منظمات أخرى يتحكم فيها هذا الحزب.

ثم عرضت عليهم مواقف النقابيين المختلفة:

البعض يؤيد الجبهة مع الحزب (وهم غالبا ممن عاشوا من قبل هذه الصيغة وكانوا نوابا).

البعض الآخر يؤيد صيغة الترشح الحر.

والبعض يدعو لعدم الترشح والمقاطعة.

والبعض الآخر يدعو لقائمات نقابية مستقلة.

وعلّق ادريس قيقة على الصيغة الاخيرة بأنها أخطر من أزمة 26 جانفي، لأن الاتحاد سيتصرف في هذه الحالة كأنه حزب سياسي معارض.
أما عدم الترشح فهو في نظره موقف عدائي.
- وعن محاكمة حركة الإخوان، قال مزالي إن السيد ادريس قيقة وزير الداخلية أقدر مني على الإجابة.

فقال قيقة: هناك " العائلة المفتوحة "، وهي سياسية وقادتها معروفون. وهناك “العائلة الملتزمة"، وهي سرية وتمارس العنف دون أن توجد علاقة في الظاهر.
وأضاف: المحكمة أخذت ذلك بعين الاعتبار وشددت العقاب.
قلت: "هل نفهم من هذا أن محاكمة أخرى آتية للعائلة الملتزمة؟

فقال: توجد ملفات في هذا الشأن ومتهمون في حالة فرار، وسيحالون على محكمة جنائية من أجل العنف والحرق وغير ذلك من قضايا منفصلة.
انتهت الجلسة بدون اتفاق على شيء، وإنما مجرد إعلام واستفسار وسبر آراء.
ولم يكن الوفد الحكومي راضيا لأنه لم يحصل منا على ما يريدون.

يوم 03-09-1981، زارتني صديقتنا سهير بلحسن مراسلة “جون أفريك" للتهنئة بميلاد ابنتي الصغرى هالة (وهي الآن طبيبة ،أستاذة مبرزة في الطب). وبالمناسبة اعتذرت عن عدم تمكنها من تنظيم اللقاء الذي طلبهُ منها الباجي قايد السبسي والحبيب بولعراس معي. وقد سبق للحبيب بولعراس أن زارني قبل أسبوع مرفوقا بفريد  مميش.

وكانت زيارته لي للتشاور في شأن الانتخابات التشريعية والتعبير لي عن الرغبة في جبهة وطنية.

وعلمت بالمناسبة أن الباجي قايد السبسي، حين بلغه رفضي للجبهة، هدد بأن الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، سيكون منظمة نقابية أخرى إذا رفضنا جبهة معه، وأن الباجي يقول إثر رفض الجبهة" إن محمد مزالي هو الوحيد في السلطة الذي مازال يدافع عن الطيب البكوش ويأمل في إقناعه بالجبهة.

ولعل مرد هذا الكلام هو ما بلغني عن مداولات الديوان السياسي، الذي قال فيه مزالي:" يجب أن نتفهم موقف الطيب البكوش الذي يخضع لضغوطات عديدة متناقضة في الاتحاد. ثم أردف: سي ادريس قيقة وزير الداخلية يعرف هذا جيدا حتى من خلال الاتصالات الهاتفية.

بعد أيام من ذلك دعاني محمد مزالي إلى منزله لتجنب الحرج. وقد بادر بذلك نور الدين حشاد الذي كان يرغب في أن أقنع مزالي بوجهة نظري حول حرية الترشح الفردية.

بعد أن حللت له مجددا وجهة نظري، بدا متفهما، ولكنه قال: أنت تعرف الرئيس، فهو يعتبر الجبهة دعما لسياسة التفتح التي أنتهجها، ورفض الجبهة يعني موقفا ضدي. و الرئيس يعتبر رفض الاتحادbelli   casus، "إعلان حرب". وقد يرد الفعل بقوة ويغير الحكومة والاتجاه السياسي ضد الديمقراطية. وعدّد لي بعض الأمثلة من مواقف وقرارات لا يستشيره الرئيس فيها مثل إعادة عمر شاشية إلى المشهد وتوسيمه بعد أن حوكم وسجن.

وشكرني مزالي على أني عرفت كيف أقنع الرئيس وأؤثر فيه في شأن حبيب عاشور. واعترف لي بأنه لما فاتحه في الموضوع غضب الرئيس وقال له إنه نهر زوجته وسيلة" فوشكها " حين فاتحته في شأن عاشور.

والخلاصة أني عبرت لمزالي عن عزمي جمع هيئة إدارية تبت في موضوع الجبهة الذي هو خلافي في قيادة الاتحاد.

وفعلا، طلبت من أعضاء الهيأة الادارية أن يجمعوا هيآتهم القطاعية والجهوية وأن يأتوا إلى اجتماع الهيأة الادارية الوطنية بموقف واضح مرقّم، وخاصة من  مع" ومن  ضد" ومن يحتفظ. وهي أول مرة يجري فيها مثل هذا الاستفتاء بصفة ديمقراطية في الاتحاد .

عندما اجتمعت الهيأة الإدارية برئاستي، سجلت بيدي جميع المواقف. وكانت النتيجة %51 مع الجبهة، و%49 بين ضد ومحتفظ. وهي أغلبية ضعيفة لكنها أغلبية ديمقراطيا.

ولا شك عندي أن أغلبية أعضاء المكتب التنفيذي الراغبين في الترشح كما كان الشأن من قبل، قد قاموا بحملة إقناع، نجحت ولكن بأغلبية ضعيفة.

وقد عبرت عن موقفي الثابت مع حرية الترشح الفردي. ولكن موقفي الاقلي قد يحملني في ظروف عادية على الاستقالة أو ممارسة نوع من حق الاعتراض. ولكن أوضاع الاتحاد الهشة لم تكن تسمح بذلك. فأعلنت قبول هذه النتيجة ولكن بشروط ، بدونها أستقيل:

1- لن يكون الاتحاد في جبهة على غرار ما كان من قبل، أي إحدى المنظمات الأربع التي تدور في فلك الحزب الحاكم الذي عليه أن يدمج مرشحي المنظمات الثلاث الأخرى (أرباب الأعمال والفلاحين والمرأة) كالعادة. والاتحاد مقابل الحزب على قدم المساواة.

2- عدم تدخل السلطة في اختيار مرشحي الاتحاد.

3- أن الجبهة لا تكون لخمس سنوات وإنما ليوم واحد وهو يوم الانتخابات.

4- أن نواب الاتحاد يكونون كتلة نيابية مستقلة لها ناطق رسمي وتدافع في المجلس عن مصالح الشغالين.

5- أننا ننظم في نهاية الاقتراع وبعد إعلان النتائج ندوة صحفية نقيّم فيها الانتخابات ونتائجها بكل أمانة وشفافية.

6- ألا أكون ضمن المترشحين.

بدون هذا لن أقود هذه العملية ولن أتحمل نتائجها إن أردنا المحافظة على وحدة الاتحاد.

وهدد بعض أعضاء المكتب التنفيذي بعدم الترشح بدوني. لكن إصراري جعل كامل الهيأة الإدارية تقبل بشروطي.

ولم أتدخل مطلقا في اختيار مرشحي الاتحاد لا من قريب ولا من بعيد.

وسنرى في الحلقة القادمة (10) تواصل الضغوط علي من عديد الأطراف في السلطة (حكومة ورئاسة) ، واللقاء الطويل الساخن مع الرئيس بورقيبة طيلة ساعة ونصف الساعة يوم 13 أكتوبر 1981.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.