الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)
أشرت في الحلقة السابقة (11) إلى أن الرئيس سارع بدعوتي بعد فشل لقاء الجمعة 27-11-1981، إذ لم نتفق فيه على شيء ،إلى لقاء آخر من الغد السبت 28-11-1981 ومعي وفد المكتب التنفيذي، لأنه فهم أنني سأعلن في المجلس الوطني عن رفع الاستثناء نقابيا عن عاشور.
لقاء بورقيبة يوم السبت 28-11-1981
فتح الرئيس الجلسة قائلا:" طلب مني سي الطيب أمس بإلحاح العفو عن حبيب عاشور. لا أرى مانعا، بشرط ألا يعود إلى المسؤولية وأن يبقى شرفيا.
لم نشأ أن ندخل معه في نقاش هذا المقترح، وإنما اكتفينا باقتراح اجتماع آخر يوم الاثنين بحضور عاشور، فوافق وهاتف وزير الداخلية ادريس قيقة وأمره بالسماح لعاشور أن يأتي من قرقنة إلى تونس.
بعد يومين من انعقاد المجلس الوطني المقرر في مؤتمر قفصة ضمن لائحة رفع الاستثناء التي تلوتها في المؤتمر، وحددت أجلا بستة أشهر،.تم الاتفاق، باقتراح من عاشور، على ترك المجلس مفتوحا حتى لا يصدر أي قرار يفسد اللقاء مع الرئيس .
عندما وصل عاشور تونس قادما من قرقنة زرته ليلا في منزله. فترك بعض الأقارب والضيوف في قاعة الاستقبال واختلى بي في غرفة خاصة حيث تحدثنا طويلا عن استراتيجية اللقاء مع الرئيس.
نبهته إلى ما أتوقّعه من محاولات تفريقنا واتفقنا على طريقة إدارة الحوار بيننا.
ومن الغد صباحا، خرجنا معا من منزله متجهين إلى القصر الرئاسي بقرطاج.
اللقاء مع الرئيس بورقيبة يوم الاثنين 30-11-1981
- حضر اللقاء معنا محمد مزالي الوزير الأول وادريس قيقة وزير الداخلية.
من البداية حاول بورقيبة كما كنت أتوقع بث الفرقة بيننا بجميع الوسائل.
بعد استعراض بعض الذكريات التاريخية قال:" بعد أن أفقت من مرضي وجدت أن عاشور قد حكم عليه بعشر سنوات. ولما أعلمني الطبيب بحالته أخرجته من السجن إلى منزله حتى لا يموت فيه".
فقص عاشور قصة ليبيا والمصمودي وأكد على وطنيته وبراءته وأن من حقه أن يعود إلى الاتحاد مع أصحابه. فقال الرئيس:" لكن يوجد الآن أمين عام شرعي اعترف به العالم والسيزل (CISL) والامريكان". فتدخلت بسرعة وقلت:" ليس هذا هو المشكل"، فقال الرئيس:" تريد إن يأخذ مكانك؟" فقلت" مادام رفاقي يثقون بي فاني أبقى أمينًا عاما والأخ الحبيب عاشور معنا". فقال بورقيبة:" كيف؟ لا يكون إلا شرفيا!".
- قلت له:" يمكن أن يكون رئيسا فعليا وضبط الصلاحيات مسألة داخلية تهمنا".
فغضب بورقيبة وقال بالفرنسية:" أنا رئيس الجمهورية وأنا رئيس الدولة، ولي كلمتي في الموضوع".
فقلت له:" نعلمك بالحل الذي نتوصل إليه ولن يكون إلا في صالح الاتحاد والبلاد".
فقال:" لكنه سيأخذ مكانك!".
وقبل أن أجيب تدخل عاشور قائلا:" الطيب أقرب إلي منك". وعبّر عن رفضه للصيغة الشرفية.
فقال الرئيس:" إذن أنا خرجت من الطرح"[من اللعبة]، إذن أنتم متفقون؟ " فقلت له:"نعم"، فقال:" إذن مبروك"، الاتحاد اتحادكم، دبروا أموركم بأنفسكم".
تدخل أحد الحاضرين قائلا:" عاشور هو الأقدر على مقاومة الشيوعيين"، فتجاهله الرئيس وواصل كلامه.
سأله عاشور عن"للاّ وسيلة" فخرجت من وراء الباب حيث كانت تتابع خلسة ما يدور، وعانقت عاشور وسلمت علينا.
- عندما قمنا، إلتفت إلي الرئيس وقال" والله بدأت استأنس بك" وضغط بلطف على ذقني.
وعلمت فيما بعد أنه قال لبعض خاصته:" والله لم أفهم هذا الشاب، الطيب البكوش. لم يكفه أني أهديته رأس(محجوب) وأزحته من مؤسسة الكنفور، وهو دائما يطالب بالعفو عن عاشور الذي يريد إزاحته وأخذ مكانه".!
في المجلس الوطني
انتقلنا من القصر الرئاسي إلى مكان اجتماع المجلس الوطني الذي بقي مفتوحا، فدخلنا معا وصعدنا المنصة وقد اتحدت يدانا إلى أعلى فاستقبلنا الحاضرون استقبال الأبطال. وعندما أحاط مراسلو الصحف الوطنية والأجنبية بعاشور قال لميشيل دوري مراسل لوموند الفرنسية, Taieb a fait du bon travail"الطيب قام بعمل جيّد".
تصوري للعمل النقابي في ظل المحن
ورغم أني كنت عرضة لتهجم جائر طوال الوقت وحتى بعد المجلس الوطني ممن يسمّون العاشورين وبعض الانتهازيين من مشارب متنوعة، فإني شعرت بسعادة كبرى وراحة ضمير لثباتي على المبدإ وعملي بقاعدة "أنجز حرّ ما وعد". وأضيف إلى الأسباب التي ذكرتها في الحلقات السابقة أن تصوري للعمل النقابي كان غير مفهوم من الكثيرين الذين تعوّدوا على الاحتراف لا على المسؤولية المحدودة في الزمن، وتعودوا على التفرغ التام بدل التجذر في المهنة التي دفعتهم إلى المسؤولية النقابية. فأصبح النموذج الذي يقتدى به هو الذي يمتهن العمل النقابي ويصبح طموحه أن لا يتقاعد وأن يموت متشبثا بالكرسي النقابي رغم أنه غير مريح لمن كان نظيفا.
ففي النقابات العصرية في البلدان المتقدمة من يتفرغ ويمتهن النقابة هو الخبير المختص في القانون أو الاقتصاد والمالية، تنتدبه النقابات ليكون موظفا يعد الدراسات والملفات التي يعتمدها المسؤولون النقابيون في المفاوضات مع الوزراء والحكومة أو أرباب الأعمال في القطاع الخاص أو المسؤولين عن مؤسسات القطاع العمومي. وقد عبرت عن هذا التصور كتابة أو في تدخلاتي في المؤتمرات والمجالس الوطنية ، وعممت رؤيتي هذه على المسؤولين في جميع المستويات، في الدولة كما في المنظمات, وأكدت مرارا أن لا يبقى المسؤول أكثر من دورتين، وفي جميع الأحوال لا يتجاوز عشر سنوات ، وأني سأطبق ذلك على نفسي. ومن المفارقات أن النقابيين لم يطبقوا ما نصحتهم به إلا أخيرا في مؤتمر الاتحاد في جربة (أي بعد أربعين عاما). ومع ذلك توجد محاولات الردة والتراجع إلى الوراء. فالعادات السيئة لا تتغير بسهولة.
الاتحاد "برأسين"
بينت لي الأحداث منذ البداية أن كثيرين من الذين تعودوا على المسؤول النقابي الأوحد قياسا على رئيس الحزب الأوحد، لم يهضموا الثنائية الجديدة، خاصة أن الدعوات في المناسبات الرسمية أصبحت توجّه إلى الرئيس والأمين العام معا.
وفي أولى هذه المناسبات، يوم 7 جانفي 1982 ، ذهبنا معا إلى القصر الرئاسي بقرطاج.
كنا في طليعة المسلمين على الرئيس بورقيبة، وتعانق الرئيسان، ولاطف بورقيبة عاشور بجعل كفه تلامس خدّه قائلا:" تتذكر كيف سلمتك مفتاح مقرUTT؟، [أي الاتحاد التونسي للشغل الذي انشق في عهد أحمد بن صالح، قبل إزاحته وتعويضه بأحمد التليلي، ثم توحدا من جديد كما ذكرت في الحلقة السابقة]، فردّ عاشور:" استرجعنا هذا المقر الآن". وفعلا، انتقلنا معا إلى نهج اليونان وتركنا مقر ساحة محمد علي الحامي للاتحاد الجهوي بتونس. ونرى في ملاحظة بورقيبة حرصه المتواصل على التذكير بفضله على عاشور، وتدخله في شؤون المركزية النقابية على غرار جميع المنظمات الوطنية الأخرى.
وكنت أشعر أن الرئيس بورقيبة لم يهضم فشله معي فيما تعود عليه من النجاح في المناورات التي يحذقها، ولم يهضم ما فرض عليه من استقلالية القرار النقابي لأول مرة. وسوف ينتظر الفرصة لردّ الفعل.
وفي الحلقات القادمة أستعرض بعض هذه الفرص التي استغلت لضرب الاتحاد مجددا.
الطيب البكوش
قراءة المزيد:
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)
الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)
الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)
الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)
الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)
الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)
- اكتب تعليق
- تعليق