الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)
كان للأصداء الإيجابية لحواراتي مع الرئيس بورقيبة وما ذكره عني للولاة ولبعض زائريه تأثير على المواقف الإيجابية لدى الوزراء والمسؤولين عن المؤسسات العمومية والسلط الجهوية مما جعل عديد السفراء يزورون الاتحاد وبعض الوزراء من أعضاء الديوان السياسي، مما أغضب بعض زملائهم.
وسمع الرئيس بورقيبة بذلك فأعطى تعليماته للوزير الأول محمد مزالي بأن الوزير المخول له الاتصال رسميا بالاتحاد هو وزير الشؤون الاجتماعية محمد الناصر.
ولعل مرد هذا هو قرب موعد الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها والتي أراد بها محمد مزالي دعم موقعه السياسي بتجديد الإطارات السياسية والإدارية ليكون في موقع أقوى إزاء منافسيه وهم كثر.
وبديهي أن النقابيين يمثلون مخزونا انتخابيا لا يستهان به.
مقابلة مع مزالي
دعاني الوزير الأول محمد مزالي لزيارته في مقر سكناه بسكرة، بحضور نور الدين حشاد الذي دعاه كذلك معي وهي المرّة الأولى في منزله إذ أصبحت ألتقي به رسميا في قصر الحكومة بالقصبة. ولعله أراد أن يعطيها صبغة خاصة لأنني كنت في الزيارات الرسمية أصطحب أعضاء المكتب التنفيذي.
كان الحوار تلقائيا صريحا. أثرنا فيه عدة مواضيع، أذكر منها بالخصوص:
- الانتخابات التشريعية القادمة
- الحركة الإخوانية
- التعددية السياسية والحزبية.
ولتأكيد موقفه الداعم للتعددية، أشار إلى تعمّده ذكر صفة محمد حرمل كاتبا عاما للحزب الشيوعي التونسي الذي وقع حظره في سياق محاولة اغتيال بورقيبة في 1962، وعبّر عن إعجابه بموقف الأستاذ الجامعي صالح القرمادي اليساري الهوى في دائرة. le cercle du Maghreb. كما عبّر عن تأثره بكلام نورالدين بن خضر، وهو يساري سجين رأي سابقا. كما عاب على خميس الشماري نشره في صحيفة le phare صور الطاهر بن عمار وصالح بن يوسف بشكل وتوقيت رآهما البعض في السلطة استفزازا كاد ينسف جهود التفتح مما اضطر مزالي إلى إيقافها وكذلك جريدة الرأي.
كما انتقد أيضا مدير صحيفة أسبوعية أخرى ناطقة بالفرنسية في موضوع لا يستحق ذكر تفاصيله هنا.
كما أطنب في ذكر الصعوبات التي تعترض سبيله في جهوده من أجل التفتح السياسي.
أراد مزالي أن يعرف موقفي من الانتخابات التشريعية فقلت له أن الاتحاد لا يتصرف مثل حزب سياسي، ولن يقدم، كما تروج بعض الأوساط، قائمات حرة، ولن يتحالف مع المعارضة ضد حزب السلطة، ولكن النقابيين أحرار في اختياراتهم الفردية.
وأثار موضوع سجناء اليسار، فقلت له لا شك في كفاءة العديد من سجناء اليسار ولكن القطاع العمومي موصد في وجوههم ولا يجدون شغلا إلا في القطاع الخاص.
وأثرت موضوع العفو التشريعي الذي يطالب به الجميع فقال إن الرئيس قبل المبدأ ولكنه تراجع. فاقترحت عليه صيغة تمثل الحد الأدنى وهي العفو التشريعي الفردي grâce amnistiante، فإذا لم يحصل هذا، فلا أحد يمكنه الترشح فقال: "هذه حجة حسنة لإقناع الرئيس".
وأثرت معه قضية دعم الاتحاد في بناء مقره الجديد وفي برامجه في التكوين النقابي فوعد بذلك.
طلبت من مزالي السماح لي بزيارة الأخ الحبيب عاشور في منزله، فأذن أحمد بنور مدير عام الأمن الوطني بالترخيص لي بزيارته، فأمكن لي أن أزوره مرتين.
زيارة عاشور الأولى 1981-07-20
بعد الحصول من السلط على ترخيص رسمي مفتوح في كل وقت مع حرية اصطحاب من شئت، قمت بزيارة الأخ الحبيب عاشور ومعي عضوان من المكتب التنفيذي وهما الصادق علوش وعبد الحميد بلعيد، وذلك ليلا بحكم أنه شهر رمضان.
فرح عاشور كثيرا بزيارتنا وتكلم كثيرا قائلا "بودي أن يدوم اللقاء ثلاثة أيام فأنا لم أتكلم منذ مدة".
دام اللقاء ثلاث ساعات، نصفها ذكريات عن السجن وتهديدنا بنصب المشانق والمحاكمة التي طلب لنا فيها نائب الحق العام عبد العزيز الحمزاوي حكم الإعدام من القاضي بولعابة الفاطمي. وأكد أن قوتنا في صمودنا ونظافتنا رغم الإغراءات.
بعد ذلك دخلت صلب موضوع الزيارة المتعلق أولا بأن اختلافنا يكمن في اختلاف التحليل وتقييم الوضع واستراتيجية التفاوض.
ثم تحدثنا عن القواعد التي سئمت البقاء خارج حركية الاتحاد، وتريد العودة، وتطلب منا الإشراف على الانتخابات لضمان الديمقراطية.
فقال عاشور لو اتصلتم بي وتشاورنا لاتفقنا على حل. قلت له" لم يعد أحد يقبل كتابة رسائل تصبح منشورة في المقاهي، وقد حدث ذلك فعلا". وواصلت القول" المهم هو تمسكنا بالمبادئ ووحدة الصف وحرصنا على بقاءك معنا. فنحن لسنا ضدّك. لكن مواقفك تدل على أنك ضدنا. نحن لا نريد أن نترك مجالا لتفريقنا لا للسلطة ولا للذين يتاجرون باسمك ،فنحن صمدنا ونجحنالأننا على حق. وكان عليك سي الحبيب أن تثق بنا بعد كل التضحيات والتهديد بالإعدام".
فقال" تهديدنا جميعا بالإعدام يجب أن يبقي على وحدتنا".
وهنا تكلم الأخ عبد الحميد بلعيد قائلا: "لم نأت إلى هنا لتقديم شواهد الإخلاص، فنحن إخوة صرحاء" وحمّل مسؤولية تسميم الأجواء لبعض المقربين منه الذين مارسوا الشتم والثلب والافتراء.
قال:" قد يكون ثامر[ابنه] لا يبلغني كل شيء، وعندما يراني غاضبا يخرج غاضبا، وقد يشتم البعض، ولكن دون علمي ودون موافقتي، فكلكم إخوتي".
ثم تكلم الأخ الصادق علوش وقال" الأخ الطيب البكوش الذي أمامك لم يجر وراء المسؤولية، فنحن أجبرناه على قبولها. "فقال عاشور": عملتم المليح [حسنا فعلتم]. فالطيب يعرف رأيي فيه. ولن أفعل شيئا ضد الاتحاد وضدكم" ثم قال لي مباشرة: "أنت الآن أمين عام. وأنا واحد منكم، ونبقى معا صفا واحدا".
ثم أعلمته بأني لم أعوضه في "السيزل" [الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة]، وإنما اقترحت عليهم أن تبقى نائب رئيس لتكون لك صفة رسمية دولية ممثلا عن الاتحاد. فعلتُ هذا من منطلق مبدئي وتأكيدًا على وحدتنا".
وعن وضعه المالي، قلت له سندافع عن حقك في مرتب التقاعد النيابي. ومرتبك حق علينا، فقال: "على كل جاءتني إعانة لمدة كافية من السيزل".
ثم ذكرت له الصعوبات التي تعترضني مع الرئيس كلما ذكرت له قضيته. فضحك وقال" وسيلة [زوجة الرئيس] أعلمتني بأنه يريد إرجاعي إلى السجن، فأعددت حقائبي". ثم قال" أنت الآن تدافع عني أمام بورقيبة مثلما كنت أدافع عنك أمامه من قبل".
ثم أعلمته بأن الرئيس بورقيبة يفكر بعد مقابلتي معه، في مرحلة انتقالية أن تنقل إلى جزيرة قرقنة [وهي التي ولد فيها]. فقال:" قرقنة خطوة جيدة. أستريح فيها وأذهب إلى البحر وأصلح المركب الذي غرق في حادث اصطدام بسفينة صيد في ميناء صفاقس. ودعانا لأكل السمك معه في قرقنة.
ثم عرّج على قول بعض الصحف بأنه يدير الاتحاد كأملاكه الشخصية، معلقا "ولم لا"، ذلك دليل على غيرتي عليه. "ثم ختم بالقول:" وضعت نفسي على ذمة القاعدة، ولا أفرض نفسي عليها. ولست متمسكا بالمسؤولية"٠
وللحديث بقية في مقابلة ثانية مع عاشور وجلسة في قصر الحكومة ثم مقابلة الرئيس بورقيبة في حلقات قادمة.
الطيب البكوش
قراءة المزيد:
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)
- اكتب تعليق
- تعليق