أخبار - 2020.05.10

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

في غرة شهر أوت 1981، في قصر سقانص بمدينة المنستير، لقيني الوزير الأول محمد مزالي وأعلمني "أن الرئيس بورقيبة وافق على العفو التشريعي كما طلبته منه".

وأمام مزالي سألني أحد الوزراء هل أعلمت سي محمد مزالي بمن زار عاشور في منزله غيرك؟

فقلت له: "لا أريد إقحام المسؤولين في الحكومة في أمورنا النقابية الداخلية".

ثم أعلمت مزالي بأن حبيب عاشور لا يريد الذهاب إلى قربص فقال: “إذن يبقى مدة أخرى في منزله فنحن لا نريد إرغامه على ذلك.

مع الرئيس بورقيبة

عندما لمحني الرئيس بورقيبة في الوقت الذي ذكر فيه مدير التشريفات، عبد المجيد القروي، اسمي قال مجاملا “أهلا وسهلا، مرحبا ولدي، زارتنا البركة".

وبانتهاء تبادل السلام، وأثناء خروجي، مررت قرب الوزيرين الطاهر بالخوجة ومنصور معلى، فقال لي معلى:" هيّا أقعد معنا سي الطيب نتحدث عن "الخوانجية ".

عندها اندفع الوزير محمد الصياح من خلفي ووقف أمامي بجانب معلى، فقلت وأنا أنظر إليه" أنتم شجعتموهم بدعوى مقاومة المعارضة اليسارية"، فقال" لماذا يتهمني الجميع بذلك وأنا بريء، فقد كنت سفيرا بجنيف، وأنا ضد ما وقع من تشجيع"، فقلت له:" أنا لم أقل أنت، بل قلت أنتم"، فضحك الحاضرون وارتاح الصياح لتوضيحي.

ثم قال لي منصور معلى، "يجب أن نتحدث معا سي الطيب". وعندما ذهب، اختلى بي محمد الصياح وقال لي: “لم نتعارف من قبل الا عن بعد. وأنا أكن لك كل تقدير. وأسمع عنك بفضل عبد القادر المهيري [الذي كان عميدا بكلية الآداب ومسؤولا في الحزب الحاكم]. ثم واصل:" أود أن نلتقي ونتحادث، وأنا أفهم موقفكم ضد الاعتقالات، فهذا طبيعي من رجل مثلك".

وعندما افترقنا، لقيني محمود المسعدي فبادرني بالقول بالفرنسية "Est- ce que l’esprit revendicatif a cédé la place à l’esprit constructif?» [هل فسح الفكر المطلبي المجال للفكر البنّاء؟]

فبدا لي أن الفكر الحكومي لديه تغلب على الفكر النقابي. وهو أمر منتظر من رجل تقلد المسؤوليات النقابية في بداية الخمسينات قبل الاستقلال. فقلت له:" إن ذلك كما تعلم يتم تدريجيا".

مع الرئيس بورقيبة ثانية

وعدت ثانية إلى القصر الرئاسي بعد يومين أي 3 أوت، وهو يوم ميلاد الرئيس، لتهنئته رسميا. فصافحني طويلا بحرارة وهو يقول" سمعت أمس حصتك في الإذاعة [صوت الاتحاد العام التونسي للشغل التي كان ينشطها منصف المؤذن] حول الطرد التعسفي، فأعجبني كلامك لأنك طرحت الموضوع على أساس التضامن بين المواطنين التونسيين لا على أساس الصراع الطبقي. “شيء يعمل الكيف [يبعث في النفس السرور]" ثم أردف الرئيس "ذكروا لي أنكم وضعتم عنوانا على الصفحة الأولى من جريدتكم [جريدة الشعب]" لا إكراه في الدين" لقد أعجبني ذلك كثيرا. أعانكم الله".

ثم التفتت إلي زوجته وسيلة التي كانت إلى جانبه من خلف وقالت:" شنوة سي الطيب، انت لم تزرنا بعد! يجب أن تزورنا وتفطر معنا. فقلت لها: إن شاء الله، بارك الله فيك. وواصلت السير حيث يتجمع الضيوف.

اعترضني وزير الداخلية ادريس قيقة وأعلمني أنه تم إعلام حبيب عاشور بقرار الرئيس بنقله إلى قربص. ولما طلب منه أن يمضي أنه يرفض، أبى أن يمضي وقال:" لا أرفض ولكن أريد حماية البوليس". وعلق وزير الداخلية مازحا وهو يروي لي ذلك:" إذن يجب أن يدفع لنا ثمن حراسته".ثم أردف: وقد اشترط دارا بعينها، فهو يعرف المكان جيدا. وسوف يبقى هناك إلى نهاية الشهر فقط ثم ينقل إلى جزيرة قرقنة كما يريد". ثم سألني بدهاء:" هل توجد علاقة بين زيارة بن قدور لعاشور وما أظهره في الأول من تصلب؟ فقلت له: " قد يكون ذلك محض صدفة".

وسألني عن موقفنا من الانتخابات التشريعية القادمة، فقلت له: " رأيي الشخصي ضد ثلاثة احتمالات مطروحة على الساحة الوطنية:

قائمة خاصة بالاتحاد.
تحالف مع المعارضة.
تحالف مع الحزب الحاكم.

ثم واصلت: يبقى احتمال رابع أحبذه شخصيا وهو حرية النقابيين فرديا في الترشح حيث شاءوا دون استعمال الاتحاد. فقال: موقف معقول.

دعوة خاصة من مزالي

في خضم هذه الأحداث واللقاءات دعاني الوزير الأول محمد مزالي إلى منزله حيث دار حوار حول المواضيع التالية:

أكد لي أن الرئيس بورقيبة قبل اقتراحي بإصدار قانون عفو grâce amnistiante في القضايا النقابية والسياسية وسيضبط صيغته النهائية قريبا.

قال لي مزالي :" لم أشأ أن أعلم الرئيس برفض عاشور الذهاب إلى قربص حتى لا يقرر إرجاعه إلى سجن برج رومي. و أكد لي أن الرئيس استجاب لطلبي الإفراج عن عاشور ولكنه أراد أن يكون ذلك تدريجيا.

اعترف بنقص الإعلام في قضية “تنظيم الإخوان" وبخطأ المسؤولين في قضية نزل Club- Med بقربة.

ذكر أن الرئيس برّر له تعيين الوالي عمر شاشية في إدارة السجون بالرغبة في اختباره بعد أن حكم عليه بالسجن في قضية التعاضد وليرى هل تغيّر. واعتبر أن هذه الخطة يصلح لها شخص عرف السجن من الداخل.

تحدث مزالي عن أحمد بن صالح والصداقة التي جمعته به. وكيف عزل من الحكومة لأنه أهدى بن صالح كتابا يومين قبل عزله.

وذكر أن بن صالح التقى في العراق بأحد التونسيين وذكر له أنه لا يحمل شيئا ضد الرئيس بورقيبة أو الحكومة التونسية، وكذب ما أشيع من أنه سعى لإفساد العلاقات مع الحزب الاشتراكي الفرنسي. وعبّر له عن رغبته في العودة إلى بلاده لخدمتها لولا أنه مهدد بالقتل بعد فراره من السجن [إذ حوكم وسجن أواخر الستينات بعد أن تم تحميله مسؤولية فشل سياسة التعاضد في تلك العشرية]. كما عبر له عن شكه في نجاح تجربة حكم محمد مزالي لوجود أناس في صلب السلطة يعملون ضد هذه السياسة.

أما عن تنظيم "الإخوان" في تونس فذكر لي مزالي أن الرئيس قال له بالفرنسية ما تعريبه " أحب التحديات وهذا هو التحدي الأخير في حياتي لأريحكم منهم. "

إحياء ذكرى أحداث 5 أوت 1947 في صفاقس

قررت التحول بعد يومين إلى مدينة صفاقس لإحياء ذكرى أحداث 5 أوت  التي جدت إثر الإضراب الذي قاده حبيب عاشور عندما كان كاتبا عاما للاتحاد الجهوي وأطلقت قوات الاستعمار الفرنسي النار على المضربين فاستشهد وجرح كثيرون و من بينهم عاشور.

وقد كان قراري هذا تحديا لكثرة من نصحوني بعدم التحول إلى صفاقس معقل أنصار الحبيب عاشور منذ أن كان يمثل الجهة نقابيا. وقد لاحظت أن بعض هؤلاء تم تشجيعهم بمعاداتي وأنهم عاجزون عن فهم أنني لا أعتبر نفسي خصما لعاشور لأنني في موقع المدافع عنه. و هم لا يفهمون لأنهم تعودوا على المكائد والدسائس والانقلابات، فكيف يفهمون أنني من طينة أخرى، خارج عن هذه القوالب المألوفة؟ لذلك أقدمت على هذا التحدي، لا بمنطق الربح والخسارة وإنما بمنطق القيام بالواجب مهما كان الثمن. ولا أريد أن أذكر أسماء الذين كانوا في المقاهي يحثون الناس على مقاطعة الاجتماع، فأنا أعرف الكثيرين منهم بالاسم، احترامًا لعائلاتهم.

بعد قراءة الفاتحة في روضة الشهداء دخلت قاعة الاجتماع فإذا بها قد غصت بالحاضرين والبعض منهم بقي واقفا وفيهم كثير من الشباب.
ألقيت بالمناسبة خطابا دام ساعتين، جزء أول تاريخي للعبرة من الماضي وجزء بعده عن حاضر العمل النقابي ومستقبل الاتحاد العام التونسي للشغل. وهذا الجزء تجاوب معه الحاضرون وصفقوا طويلا.

وبلغني أن الوالي الطاهر بوسمة الذي كان متخوفا ويفضل عدم عقد الاجتماع، قد شعر بالارتياح. ويصفه النقابيون بالطيبة والقرب من النقابيين.

وقبل مغادرة صفاقس، زرت بعض المعامل وخيام المضربين في بعض المؤسسات لمعاينة أحوالهم.

وسنرى في الحلقة الثامنة القادمة أسلوب الرئيس بورقيبة في التعامل مع القضايا بما فيها قضية حبيب عاشور، وكيف يطبق طريقته المعروفة بسياسة المراحل في كل شيء، وهي ذات الطريقة التي استعملتها معه في حل قضية مؤسسة الرفاهة وإضراب النقل، فضلا عن تنفيذ وعدي والتزامي برفع الاستثناء عن عاشور.

 

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.