الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

إثر وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، طلب مني الصديق توفيق حبيب أن أكتب له مقالا بعنوان “الباجي قائد السبسي كما عرفته".

وبمناسبة الذكرى العشرين لوفاة الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة، وأنا بصدد تعريب النص الذي نشرته مجلة جون أفريك بطلب منها، في أبريل 2000، وهو ما أعدت نشره معرّبا في صفحتي على "فيسبوك"، خطر لي أن أكتب سلسلة حلقات خلال سنة 2020 عن الحبيب بورقيبة، كما عرفته، زعيما ورئيسا، مستوحيا العنوان من اقتراح السيد توفيق حبيب مدير مجلة ليدرز في نسختها العربية، وفي ما يلي الحلقة الأولى؛

الحبيب بورقيبة كما عرفته زعيما

اهتممت بالزعيم الحبيب بورقيبة، منذ الطفولة إذ كان والدي يحدثنا عنه في السهرات الليلية بإعجاب، فكان مناصراً له، وساهم في حمايته من "الغرانطة" الذين رشقوه بالطماطم عندما جاء مدينة جمال، وهم أنصار الحزب الدستوري القديم.

وزرت تونس العاصمة أول مرة وأنا تلميذ الابتدائي لاستقبال المجاهد الأكبر كما سماه الزعيم الكبيُر صالح بن يوسف، في ميناء حلق الوادي قادما من المنفى في غرة جوان 1955.

وقد بدا لي يومها أن الشعب التونسي بأسره قد تحول الى العاصمة للترحيب بالزعيم.

ومنذ ذلك الوقت، بقيت أتابع بانتظام خطبه ثم توجيهاته.

ثم رئيسا للجمهورية

كان أول لقاء به سنة 1965 عندما أشرف في ساحة كلية الآداب بشارع 9 أفريل، على حفل توزيع الجوائز للخريجين النجباء في الجامعة، إذ سلمني مجموعة من الكتب، وهي جائزة الرئيس، باعتباري الناجح الأول في الإجازة، اختصاص لغة وآداب عربية.

ثم حصل تواصل هام غير مباشر سنة 1976، بعد أن تحملت مسؤولية أمين عام لنقابة التعليم العالي والبحث العلمي، ثم جامعة التعليم التي كانت تضم عشر نقابات. وبلغني أن وزير التربية آنذاك تضايق من دفاعي عن مصالح نقابات التعليم وفاتح الرئيس في ذلك مع العلم أن وزيرين وهما محمد مزالي وادريس قيقة تداولا على وزارة التربية خلال النصف الأول من السبعينات وأنهما تضايقا أيضا من دفاعي عن حق الطلبة في أن يكون الاتحاد العام لطلبة تونس ممثلا لهم دون هيمنة من السلطة إلى حد أن أحدهما قال لي غاضبا "أنتم معنا أو مع الطلبة" فأجبته لا معكم ولا مع الطلبة وإنما مع الحق الذي يتجسم في التمثيل النقابي الحر.

وقد يكون الرئيس فكر في إبعادي عن الاتحاد العام التونسي للشغل بإغرائي بوزارة,
بعث لي برسالة شفوية مفادها أن الرئيس يفكر في تقسيم وزارة التربية الى وزارتين تكون الجديدة خاصة بالتعليم العالي والبحث العلمي. وعرض علي تقلدها، فكان ردي شكر الرئيس على ثقته واعتذاري عن القبول لتناقض الحقائب الوزارية مع مسؤولياتي النقابية. ولا أريد أن يظن أحد أنني أنظر إلى المسؤولية النقابية وكأنما هي منطلق للمسؤوليات الحكومية.

وكان ردّي هذا هو ذاته بعد سنة من ذلك للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الحبيب عاشور، عندما عرض علي ترشيحي لمنصب وزاري باسم الاتحاد كما حصل من قبل بداية التسعينات عندما رشح الاتحاد الاستاذ الجامعي فرحات الدشراوي لوزارة الشؤون الاجتماعية في حكومة الهادي نويرة.

وأمام اعتذاري، طرح الموضوع في اجتماع الهيئة الإدارية لمناقشة الاقتراح، وقد ركزت تدخلي في الاجتماع على تحليل التناقض بين المسؤولية النقابية والمسؤولية الحكومية وكانت النتيجة رفض المقترح بأغلبية ساحقة.

وفي نفس الفترة بعد ذلك عرض علي عاشور، الترشيح للمكتب التنفيذي الذي يضم 13 عضوا ينتخبهم المؤتمر، وهو المؤتمر الرابع عشر الذي التأم في ربيع 1977.

هذا الترشح حفت به ملابسات عديدة جعلت منه قضية دولة.

• اعتذرت أولا عن القبول لأسباب عديدة يطول شرحها، نقابية وجامعية.
• ثم اشترطت موافقة أغلبية الجامعيين، وهو ما حصل في اجتماع عام، فحصلت الموافقة دون اعتراض أحد باستثناء تحفظ واحد.
• عندما أعلمت عاشور بالنتيجة، أعلمني بأن الرئيس بورقيبة عبر له عن عدم موافقته على ترشيحي بحجة أنني لا أنتمي إلى الحزب الدستوري وأني شيوعي بحسب ما قال له الهادي نويرة. فنفى عاشور انتمائي الشيوعي، بل قال له أنني من عائلة دستورية.
• وبعد فتح باب الترشح وتقديمي ترشحي اتصل بي عاشور ليعلمني أن الرئيس دعاه ليؤكد له أنه لا يرضى عن هذا الترشح، وأنه أجابه بأن القانون يسمح لي بذلك ولا حق له كأمين عام أن يمنع الترشح، وصندوق الاقتراع هو الحكم.

وعندما نجحت في المؤتمر 14، اصطحبنا الأمين العام لتقديمنا للرئيس كما جرت العادة.

في الطريق قلت لعاشور، أنك تقول أن علاقتك بزوجة الرئيس وسيلة جيدة، فأعلمها بأنني لن أسكت إن صدرت عن زوجها ملاحظة تخصني في غير محلها... فقال لي: أنت حر قل ما تشاء.

عندما قدّمني عاشور باسمي للرئيس، أظهر لي بورقيبة حفاوة كبرى لم أتوقعها، قائلا: أنت الذي يسمونك ملتهم الكتب؟ bouffeur de livres فقلت له: رفاقي في التعليم الثانوي كانوا يمزحون بذلك، ثم أخذ يسألني عن الجامعة والتدريس ويسرد بعض ذكرياته.

وكان موقف بورقيبة يعبّر عن ذكاء سياسي كبير فكأنه يقول لي: نطوي صفحة الاعتراض ونفتح صفحة جديدة من التفاهم. وقد زدت إعجابا ببورقيبة السياسي لكن دون أن يغريني ذلك بالمناصب الوزارية التي عاد عاشور إلى عرضها علي لرغبته في أن تكون له عين في الحكومة.

لقاءاتي الموالية مع بورقيبة كانت في مطلع الثمانينات، أي بعد لقائي السابق بأربع سنوات، تخللتها أحداث هامة في تاريخ تونس أبرزها:

• الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978 الذي سمي بالخميس الأسود.
• اعتقال القيادة النقابية ومحاكمتها وسجنها وتنصيب قيادة غير شرعية على رأس الاتحاد.
• أحداث قفصة ومرض نويرة وتعويضه بمزالي سنة 1980.
• اتصال بورقيبة برسالة من جامعة الصوربون بباريس تطلب الترخيص للجنة دكتوراه الدولة لمناقشتي في السجن.
• الخروج من السجن في 20 مارس 1980 والذهاب للمناقشة في باريس.
• الاتصال الرسمي بنا كقيادة شرعية أواسط 1980 لتكوين لجنة مشتركة تعد مؤتمرا استثنائيا.
• انعقاد مؤتمر قفصة وملابسات انتخابي أمينا عاما سنة 1981.
• واستقبال الرئيس بورقيبة لي مصحوبا بالمكتب التنفيذي الجديد يوم 2 ماي 81 19 وتواصلي معه رأسا بعد ذلك في مناسبات لا تخلو من مفاجآت، مكنتني من أن أعرف جوانب من شخصية بورقيبة ما كانت لتحصل لي بدون تلك المناسبات التي لم تتعد أصابع اليد وخاصة خلال السداسي الثاني من 1981.

هذه المحطات موضوع كتاب لم يكتمل بعد في صيغته النهائية.

لكنّي سأعرض في ما يلي من الحلقات لقاءاتي ببورقيبة وكيف عرفته عن كثب.

الظيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)