أخبار - 2020.08.03

الطيب البكوش : أزمة الخبز وملابساتها (الحلقة الحادية والعشرون)

الطيب البكوش : أزمة الخبز وملابساتها (الحلقة الحادية والعشرون)

رأينا في ختام الحلقة السابقة أننا سنتعرض إلى قضية انتفاضة الخبز ومخلفاتها.

هذه القضية لم تحدث بصفة مفاجئة. فقد كثر الحديث في نهايات 1983 عن صندوق التعويض وضرورة مراجعة الدعم. ورأينا أن الرئيس بورقيبة أثار مع عاشور مسألة كثرة الخبز في المزابل لأن سعره منخفض جدّا كما قيل له.

قضية صندوق التعويض

كان للمكتب التنفيذي الجديد، الذي تم ترميمه بعد طرد الأعضاء السبعة، لقاء مع الوزير الأول محمد مزالي. وقد تبيّن لي من النقاش أن ثمة تفاهما مسبقا بين مزالي وعاشور، كما اتضح من كلام مزالي أنه متضايق من كلامي في الموضوع في خطاب 5 ديسمبر1983 الذي ذكرته في الحلقة السابقة. واتفقنا أن نواصل النقاش من الغد.

اعتذر عاشور عن حضور اجتماع التفاوض من الغد، وحضر من جانب الحكومة  شقير والناصر وصفر، بينما حضر معي عبيد وبن رميلة  والسحباني.

واتضح أن شقير يظن أن هذا اللقاء سيناقش جزئيات التوزيع لا جوهر الموضوع المتمثل في درس انعكاس رفع أسعار الخبز والحبوب ومشتقاتها على الأجراء.

لذلك لم يُفْض الاجتماع إلى اتفاق حول المبدأ. وفي أعقاب الاجتماع قال لي شقير:" ما أصعبك؟، فأنت تعرقل عوض أن تعيننا".

هذه الجلسات كانت تمهيدية لجس النبض، وستنعقد جلسات حاسمة بعد أسبوعين.

في انتظار الحسم، تواصل النشاط العادي:

• يوم 8 ديسمبر 1983، حضرت افتتاح مؤتمر عمال فلسطين واختتمته يوم 13 ديسمبر 1983 بأملكار. بحضور أبو إياد وفاروق القادومي.

• يوم 10 ديسمبر 1983، ألقيت محاضرة في نهاية أشغال الندوة التي نظمها معهد الصحافة وعلوم الإخبار حول" وسائل الإعلام والوسط العمالي".

• وبعد زوال اليوم نفسه، شاركت مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في ذكرى اليوم العالمي حول" حقوق الإنسان الفلسطيني واللبناني".
ولقيت الكلمة صدى خاصة لدى الفلسطينيين لأني تناولت القضية الفلسطينية من زاوية حقوق الإنسان والشعوب، طبقا للمواثيق الدولية.

عودة إلى صندوق التعويض وملابساته

كانت أول جلسة تفاوضية مع مزالي يوم 21 ديسمبر 1983.

نبهته فيها إلى خطورة الإجراء الذي تنوي الحكومة القيام به، وهو حذف التعويض دفعة واحدة. وأكدت على أهمية المرحلية في الإصلاح، خصوصا أن الخبز والعجين مازالا أساس الغذاء الشعبي التونسي. لكن مزالي أصّر على موقف الحكومة. فنبهته إلى أن مثل هذا الإجراء اتُّخِذ في بلاد عربية أخرى مثل الأردن ومصر والسودان والمغرب وكانت له عواقب وخيمة، والوضع التونسي شبيه بها. فقال إن الشعب التونسي مختلف، وأن أبناءه لا يأكلون كثيرا الخبز بل يأكلون أيضا الجبن والياغرت. واعتبر أن المرحلية، قلما تفلح. وردّ بصفة غير مباشرة على خطابي يوم 5 ديسمبر 1983، وكذلك على ما ذكرتُه في حصة" صوت الاتحاد العام التونسي للشغل" بالإذاعة الوطنية. وهي حصة أسبوعية ينشطها الإعلامي منصف المؤذن. وأذكر في هذا الصدد أنه نبهني بالمناسبة إلى أن المدير قال له : "إن الرئيس بورقيبة يتابعها بنفسه، فتحمّل مسؤوليتك وحدك"، وفعلا تقرّر إيقافها إثر تدخلي فيها.

وافق عاشور في آخر اللقاء على الحذف بشرط تعويض الضرر للأجراء. وعندما قلت:" القضية لا تهم الأجراء وحدهم، بل العاطلين والفقراء وعددهم كثير، أجابني:" هذه مسؤولية الحكومة. فلنتفاوض في التعويض".

مفاوضات التعويض

عرفتْ الجلسات التفاوضية كثيرا من التمطيط وتخلّلتها جلسات نقابية.

في اجتماع الكتاب العامين للجامعات، أعلن عاشور أن الموقف المناسب هو أن تتراجع الحكومة عن قرار حذف الدعم.

لكنه لم يقل هذا من الغد في الاجتماع مع الحكومة، وواصل المطالبة برفع حجم التعويض للأجراء.

في الأثناء، انطلقت الأحداث أو الانتفاضة الشعبية بداية جانفي 1984، وتحديدا في 3 جانفي.

وأمام تفاقم الأحداث، تصلّب الموقف بالمطالبة بالتعويض الكامل، وهو ما قبلته الحكومة يوم 4 جانفي 1984.

يوم 5 جانفي، أعلمني أحد الأصدقاء من خارج السلطة أن الرئيس قد يتراجع غدا في قرار الحذف. فهاتفت عاشور في الموضوع،  فتظاهر بأنه سيسأل وسيلة، في حين أنه كان معه في منزله دريس قيقة حسب ما علمت من بعد، لكنه أخفى عني الخبر، وكثرت الإشاعات حول استقالة مزالي.

قرار الرئيس بورقيبة التراجع

التأمت يوم 6 جانفي هيئة إدارية، استمعنا فيها إلى خطاب الرئيس بورقيبة الذي أعلن فيه قراره بالتراجع في حذف الدعم قائلا:" نرجع حيث كنّا".
فتغير الموقف وأصبح نقد مزالي شديدا وكذلك شقير، وكأن الرئيس استجاب لطلب الاتحاد، بينما الواقع أن الانتفاضة هي التي دفعت إلى التراجع، في حين كان مزالي يعلن في خطبه ألّا تراجع عن القرار، وانتقدني في تصريحاته التلفزية دون التصريح باسمي، واصفا موقفي بأنه" نذير شؤم" لأني ذكّرت بالانتفاضات التي عرفتها البلدان التي اتخذت قرارا مماثلا في السابق.

وقد وجدت السلطة في اختلاف موقفي الرافض للحذف وموقف عاشور القابل بشرط التعويض فرصة للقول إن الاتحاد موافق باعتبار أن وثيقة التعويض أمضيتُها مع عاشور باسم الاتحاد.

وقد تعمّد مزالي هذا الخلط بين الموافقة والتعويض في مذكراته التي نشر فيها هذه الوثيقة بالإمضاءات. فالإمضاء هو موافقة على التعويض لا على مبدإ الحذف.

وعلمت أن شقير قال لمزالي إن عاشور كان مستعدا للإمضاء منذ أسبوع لولا تصلب الطيب البكوش.

في أعقاب الهيأة الإدارية، طلب عاشور عن طريق وسيلة، مقابلة الرئيس بورقيبة.

لقاء الرئيس بورقيبة

عندما دخلنا القصر جاء الكعلي للتسليم علينا، معبّرا بطريقة غير مباشرة عن تقديره للاتحاد الذي لم يشارك في الاحتجاجات والمظاهرات بصفة رسمية.
ثم جاءت وسيلة للتسليم علينا، فأراد أحد الأعضاء التقرب إليها قائلا: " أنت لك فضل كبير في قرار الرئيس". فقالت:" لا فضل لي، المهم مصلحة تونس". وعندما ذهبتْ قال:" إنها مناضلة كبيرة" فلم يجبه أحد.

وعندما دخل الرئيس، ارتمى عليه نفس العضو مع عاشور، ولم يتركوا له المجال للتسليم على الجميع. فقال الرئيس il a suffi de trois phrases ": (ثلاث جمل كانت كافية لإعادة الأمور إلى نصابها (. وأنا لا بأس عليّ، في صحة جيدة، لا حدبة ،لا بكيتة (عكاز)، مازلت أواصل لعشر سنين".

ثم لمحني بين رؤوس الجماعة، فاتجه نحوي مازحا:" أين تختبئ؟ عرفتك" وسلّم عليّ بحرارة بالتقبيل، ثم دعاني إلى مكتبه، وفي الطريق توقف طويلا عند صورته في البهو في طريقه إلى المنفى بجزيرة  Groix مع الحارس، ووضع يده على كتفي وهو يحدثني طويلا عن التاريخ. وهي الصورة التي نشرتها لابراس la presse وديالوق .dialogue

وكان واضحا أن الرئيس أراد بترحيبه بي، فسخ الأثر السيّء لكلامه معي يوم 5 ديسمبر 1983 في ضريح حشاد.

وعندما خرجنا من مكتبه تساءل:" أين نحن؟" وكأنه لم يعرف من أين يخرج.

وقال له حبيب عاشور عن وسيلة:" إنها وفية لك، ولا أحد أكثر منها وفاء".
بعد كل هذه الأحداث، تم الإعلان رسميا يوم 19 فيفري 1984، عن بعث منظمة نقابية منشقة عن الاتحاد، باسم الاتحاد الوطني للعمال التونسيين (UNTT) بقيادة ع ع  بوراوي.

لماذا تم اللجوء إلى الجيش وهل في الأمر مؤامرة؟

اتصل بي قيقة وزير الداخلية بالهاتف وأعلمني أنه تقرّر إنزال الجيش لوضع حدّ للفوضى، فقلت له:"وهل عجز الأمن عن ذلك؟" فقال:" نعم، وجب الاستعانة بالجيش، وأردف أنه سيطلب من الرئيس، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يصدر أمره بذلك.

يوجد إحساس لدى كثير من المتابعين للأحداث بوجود مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بحكومة مزالي، قد تكون عدة أطراف لعبت فيها دورا ما، ولا يتسنى ذلك إلّا بتضخيم القضية وإراقة الدماء، وهو ما يؤكده مزالي في مذكراته متهما بالخصوص وزير الداخلية الذي بعث إليه كاتب الدولة غديرة ليطلب منه الاستقالة. ولما أعلم مزالي الرئيس بذلك، استشاط غضبا ودعا قيقة لتأنيبه وإقالته من مهامه.

ويستشهد مزالي بوالي نابل بشير الحميدي الذي استفسره قيقة عن أسباب الهدوء في نابل دون سائر الولايات. وقد أكد لي بشير الحميدي ذلك بعد مدة، مما يجعل فرضية المؤامرة قوية وتفسر محاكمة قيقة. وقد بدا لي من عديد المؤشرات أن عاشور كان على علم بذلك، فضلا عن وسيلة.
أحكام الإعدام وتنسيقية المجتمع المدني ضدّها

أصدرت المحكمة أحكاما قاسية على بعض المشاركين في الانتفاضة التي تم قمعها، وصدرت أحكام الإعدام على عشرة شبان منهم.
اتصل بي المحامون وأمدوني بملف المحاكمة.

بادرت لأول مرة بتكوين تنسيقية للمجتمع المدني ضمت عشر منظمات، اجتمعوا في مكتبي، واتفقنا على القيام بمبادرة لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام. واتفقنا على إرسالها إلى الرئيس بورقيبة، وأمضيتها باسم الجميع. فتأثر بها الرئيس وأصدر عفوه عنهم.

شعرت باعتزاز كبير بهذه المبادرة التي يتولاها الاتحاد لأول مرة منذ الاستقلال، وتضم مثل هذا العدد الهام من منظمات تحظى بسمعة جيدة في المجتمع، وقد جسّمت ما كنت دائما مؤمنا به وعبرت عنه في عديد المناسبات بما فيها كتابيا، وهو أن يكون الاتحاد قاطرة المجتمع المدني.
وسنرى بعد هذا تواصل مخلفات الأزمة سياسيا واجتماعيا.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)

الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)

الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)

الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)

الطيب البكوش - بين الرئيس بورقيبة وزوجته وسيلة: تقاسم أدوار؟ (الحلقة الرابعة عشرة)

رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)

الطيب البكوش: نهايات 1982 وغرابة الأوضاع الوطنية والاقليمية (الحلقة 16)

الطيب البكوش: موسم الأعياد والأسفار الرسمية (الحلقة السابعة عشرة)

الطيب البكوش: صراعات في الداخل والخارج (الحلقة الثامنة عشرة)

الطيب البكوش: الخلافات ترشح في الصحافة (الحلقة التاسعة عشرة)

الطيب البكوش: موقفي وموقف بورقيبة من الانشقاق وطرد الإخوة السبعة (الحلقة العشرون)

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.