الطيب البكوش: صراعات في الداخل والخارج (الحلقة الثامنة عشرة)
القضية الفلسطينية في المؤتمر الثالث عشر للسيزل (الكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة ومقرها بروكسيل بلجيكا)
التأم هذا المؤتمر في العاصمة النرويجية أسلو، في 23 جوان 1983.
كان عاشور مسرورا بالعمل التحضيري الذي قمت به بمعية الصادق العلوش، مسؤول العلاقات الخارجية، وخاصة الخطاب الذي تولى إلقاءه عاشور واللائحة الخاصة بقضية الشرق الأوسط، وعند العودة قال مازحا لخير الدين الصالحي مسؤول النظام الداخلي:" المثقفون يفيدون كثيرا ويصلحون للعمل، لا للقيادة" وهذا المزاح يكشف عن الرغبة الدفينة، وكأن الجهل هو الصالح للقيادة.
كان عاشور متضايقا من كونه لا يستطيع الكلام في لجنة اللوائح لأنني كنت العضو القار فيها بينما كان هو العضو القار في لجنة النظام (règlement)
مشروع اللائحة الخاصة بالشرق الأوسط التي أعدتها قيادة السيزل للمؤتمر لا يمكن أن نقبلها لأنها تضع الفلسطينيين في قفص الاتهام.
تقدمنا بمشروع بديل، فحاولوا رفضه شكلا ولكننا قدمناه في شكل تنقيح، فتقدمت الهستدروت (النقابات الإسرائيلية) بمشروع آخر.
فأعدت إدارة السيزل مشروعا ثانيا أحسن من الأول لكننا رفضنا الفقرة الأولى منه ورفضته الهستدروت وحلفاؤها، فأعدت إدارة السيزل مشروعا ثالثا فارغا، فاقترحت التشيزل الايطالية تنقيحا يتضمن "حق جميع شعوب المنطقة في الأمن وتقرير المصير". فقبل رئيس المؤتمر الهولندي ذلك أول الأمر بتأثير منا ولكنه تراجع أمام إرفينك براون ممثل AFLCIO الامريكية في أوروبا، فاقترح ممثل FGTB البلجيكية أن تكون الحقوق طبقا لمبادئ السيزل فرفض اقتراحه. فاحتججنا على خرق مبادئ المنظمة وقانونها الأساسي.
وفي الجلسة العامة لاحظنا كثيرا من التلاعب، وتم التصويت على لائحة لا تنص صراحة على حقوق الشعب للفلسطيني فقاطعنا المؤتمر وقررنا علنا تجميد عضويتنا في المنظمة.
ذكرت بعض التفاصيل عما نعانيه في بعض المحافل الدولية دفاعا عن القضية الفلسطينية، لأننا كنا وحدنا من بين النقابات العربية بينما لإسرائيل ونقابتها حلفاء كثيرون.
بداية القطيعة بين الرئيس وزوجته وسيلة
رأينا في الحلقة 17 أن عاشور سأل الرئيس بورقيبة عن أحوال "الماجدة" وسيلة التي تعالج في باريس.
وأمام طول غيابها اغتنم مزالي الوزير الأول الفرصة ليقول للرئيس " أن إزاحة محمد الصياح قد تساهم في شفاءها، فغضب الرئيس وقال:" كيف! ما هذا الكلام! الرجل يعمل ليلا نهارا ويسهر إلى الثانية صباحا يكتب لي كتابا، وتقول هذا ! أما وسيلة فإذا أرادت أن تذهب إلى دار أبيها فلتذهب". قال هذا لأنه غضب عليها إثر مكالمة هاتفية شتمته فيها وهددته بالطلاق والذهاب إلى دار أبيها عند عودتها من باريس. والسبب أنه لم يعد يستمع إليها ويلبي رغباتها في تعيين المقربين منها في بعض المناصب الهامة.
يوم 12 جويلية 1983، في مكتب تنفيذي انعقد في صفاقس، قال عاشور لشخص يثق في أنه ينقل الكلام إلى وسيلة زوجة الرئيس:" ان لم تبعث وسيلة برقية تهنئة للرئيس فلن أذهب في غرة جوان إلى القصر. ومعنى ذلك أنه يقاطع القصر إذا قاطعته وسيلة، وفعلا لم يحضر عاشور في عيد الفطر.
واقترح مزالي في الديوان السياسي للحزب إضافة عضوين، عبد الرحمان التليلي وزكرياء بن مصطفى بالإضافة إلى المازري شقير. لكن سعيدة ساسي, ابنة أخت الرئيس التي بدأت تتدخل في غياب زوجته وسيلة، دعمت ترشيح زكرياء بن مصطفى..
عزوز الاصرم ومنصور معلى
انتقد عزوز الاصرم منصور معلى، متهما إياه بالدمغجة لأنه كما قال:" يتنبأ بالكوارث في كل مرة، حتى إذا ما حدثت، قال:" ألم أقل لكم؟ c’est facile( هذا سهل). وهو في نظره صاحب الزيادة ب 11%وينتقد الزيادة في الأجور. وأضاف:" قلت هذا للرئيس .
مثل هذه الملاحظات تدل على ضعف الانسجام في الحكومة.
سعيدة ساسي واللحية في عيد الفطر
بينما كنت أتحدث في القصر مع وزيرة الصحة سعاد اليعقوبي التي أعرفها من الجامعة، جاءت سعيدة ساسي للتسليم عليها. ولما رأتني هللت فرحا وفاجأتني بالقول": ع السلامة يا ولدي، والله أقولها صراحة:" أنت زين زين malgré la barbe (رغم اللحية). أنا voyante(أتنبأ). كنت دائما أقول:" اللي عندو bagage هنا (أي عنده علم وفكر، مشيرة بإصبعها إلى الدماغ)، لا خوف عليه، فمن عنده bagage، ويقرأ التاريخ يعرف. أليس كذلك؟...
فعلقت اليعقوبي: “إنها تقصد لحية الخوانجية ، فقلت لها مازحا: "ليس لها نفس الشكل" فقالت ضاحكة: "هي لا تفرق".
عيد ميلاد الرئيس في 3 أوت بقصر سقانص بالمنستير
بادرني الرئيس بقوله:" باقي تعطل في الأمور بالاضرابات؟" - أجبته:" الوضع الاجتماعي عادي ولا يبعث على القلق. والاتحاد حريص دائما على مصلحة البلاد" فقال:" بارك الله فيك". والواقع أن ملاحظته ليست لوما كما قد يظن، لكنه يريد أن يعرف مني مقياس الوضع، لأنه يعرف صراحتي، فاطمأن بالجواب، خصوصا أني علمت أنه اتصل بمآت البرقيات من توزر إثر إضراب "الخماسة"، فكان غاضبا لذلك. وهدأ بجوابي.
• عاشور لم يحضر لا في عيد الفطر ولا في 3 أوت، رغم رجوع وسيلة يوم 2 أوت. كان يظن أنها لن تحضر. فقلت له من بعد:" ألم أقل لك إنها لن تغيب عن عيد ميلاد الرئيس؟ فقال لي:" ماذا تريد، المازري شقير أكد لي أنها لن تعود قبل 14 أوت.
قضية المجلس الاقتصادي والاجتماعي
وكنت التقيت في القصر بالمازري شقير، فقال لي كالمعاتب:" ستقاطعون المجلس الاقتصادي والاجتماعي ؟ ". فقلت له": لماذا تحرجون الاتحاد ؟ وتخلقون أسباب الخلاف والتأزم مع الحكومة. ما دخل الحزب الحاكم في نص دستوري ؟ ولماذا لم تستشيرونا كمنظمة قبل عرضه على مجلس النواب؟ فاختلى بي وقال همسا:" أقول لك بيننا أني أعدت النص الأول بدون الحزب، لكن المنجي الكعلي سامحه الله أثار الموضوع متسائلا:" لماذا حذف اسم الحزب في حين كان من قبل موجودا في القانون السابق منذ 1970؟ هل أصبحنا نستحي من ذكر الحزب؟ فلم يجرؤ أحد على مناقشة الموضوع.
أجبته :" لكن على الأقل كان من الضروري تنقيح النص بعد سحبه في المرة الأولى من الجلسة العامة لعرضه على اللجنة من جديد. أمّا أن يعرض حرفيا فهذا تحدّ لا مبرر له ولا يمكننا قبوله. وقد جاراكم ممثلو الاتحاد عن حسن نية فأضررتم بهم أمام القواعد".
وفعلا انعقدت هيأة إدارية يوم 29-7-1983 خاصة بموضوع المجلس الاقتصادي والاجتماعي. كان تدخل عاشور في افتتاحها عنيفا وهو يعرض ملابسات التصويت على القانون.
أما عبد العزيز بوراوي الذي ترأس وفد التفاوض في الموضوع وقبل مع رفاقه النص كما قال لي المازري شقير، فإنه كان واعيا بالغضب السائد في الاتحاد، فكانت كلمته دفاعية متحملا المسؤولية واصفا عاشور بأنه أب الجميع القادر على التوحيد. وحتى عبد الرزاق غربال قال:" حتى إن أخطأنا يجب حفظ ماء الوجه.
كان واضحا أن عاشور مصر على إدانة الجماعة مهما كانت التكاليف، فقد وجدها فرصة للتخلص منهم، فاتبع تكتيك عرض لائحتين:
الأولى تعتبر نص القانون يمس من استقلالية الاتحاد مع قرار مقاطعة المجلس الاقتصادي والاجتماعي حتى يحوّر الفصلان 5و6.
والثانية لائحة داخلية تقترح تقديم الجماعة إلى لجنة النظام.
كان واضحا أن الأغلبية تساند المقاطعة وهو موقفي أنا، ورأيت أنه يمكنني تجنيد الأغلبية ضد العقاب والطرد وهو حل وسط.
وقد جرى نقاش طويل حول كيفية التصويت والاختيار بين التصويت السري أوالعلني. وأراد صالح الزغيدي دعم اقتراحه بالتصويت العلني مذكرا بأنني طلبت العلنية في المسائل الهامة ليتحمل كل مسؤوليته التاريخية. فقلت له:" مازال هذا موقفي. لكن المطالبة بالسرية تبقى حقا لمن يريده".
وطالب العاشوريون بالتصويت الاسمي، vote nominal فضاع عاشور بين الصيغ الثلاث. وبعد ساعة من الجدال تم التصويت برفع الأيدي. وكانت النتيجة هي الحل الوسط الذي أيدني فيه محمد شقرون مع الأغلبية. فغادر عاشور إثره الاجتماع غاضبا لأنه لم يحصل على الطرد، ولأن الذين ترشحوا للجنة النظام سحبوا ترشحهم إثر التصويت فلم يحصل النصاب.
ومن الغد، أي اليوم الثاني من الاجتماع، حرص عاشور على استرجاع سيطرته بعد هزيمة أمس، بطرد صالح بالكيلاني لأنه احتفظ بمحضر الجلسة، وعرض الطرد على التصويت، فرفضت مبدأ التصويت لأن المعني بالأمر لم يحضر بعد، فكأنه حكم غيابي لا يليق.
قضية توزر والخماسة
بينما كنت أهم بالخروج من القصر، اعترضني وزير الداخلية ادريس قيقة قائلا:" منذ حين وأنا أبحث عنك" فقلت له ساخرا:" وهل حدث في البلاد أمر خطير؟" فقال" علمت أنكم قررتم التحول إلى توزر جميعا. وأنت تعلم أن الفلاحة حساسة"، فأجبته:" أولا لم نقرر هيأة إدارية وإنما مكتبا تنفيذيا بتوزر، باستدعاء. ثانيا ماذا يقلقكم من ذلك إذا تحولت حتى هيأة إدارية إلى توزر؟
فقال:" لو زار ليبيا 12 وزيرا، هل هو مثل وزير واحد؟ يوجد فرق في المعنى" .وتظاهر بأنه يجهل قضية الخماسة. فقلت له:" أظن أن الأخ الحبيب عاشور اتصل بك هاتفيا في الموضوع، وكنت أظن أنك ملم به"، فقال:" صحيح اتصل بي ولكن لم نتعمق في الموضوع.
هذا الحوار مع قيقة جعلني أربط غياب عاشور عن عيد ميلاد الرئيس لأول مرة، لا بغياب محتمل لزوجته وسيلة، وإنما بإضراب الفلاحة في توزر، فخشي أن يحرجه الرئيس أمام الناس كما حاول أن يحرجني.
كل ما سبق، جعلني أتأكد فيما بعد أن عاشور مصمم على طرد مخالفيه بأي ثمن ولو كان تقسيم الاتحاد كما سنرى في الحلقات القادمة.
الطيب البكوش
قراءة المزيد:
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)
الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)
الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)
الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)
الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)
الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)
الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)
الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)
الطيب البكوش - بين الرئيس بورقيبة وزوجته وسيلة: تقاسم أدوار؟ (الحلقة الرابعة عشرة)
رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)
الطيب البكوش: نهايات 1982 وغرابة الأوضاع الوطنية والاقليمية (الحلقة 16)
الطيب البكوش: موسم الأعياد والأسفار الرسمية (الحلقة السابعة عشرة)
- اكتب تعليق
- تعليق