أخبار - 2020.07.02

رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)

رسائل الرئيس بورقيبة المشفرة وأجواء نماذج معبرة من الاجتماعات واللقاءات (خريف 1982) - (الحلقة 15)

‎1982-9-23: اجتماع مكتب تنفيذي

في كلمتي لمحت إلى الذين يسيئون إلى الاتحاد من داخله دون ذكر أحد بعينه، وذلك في إطار الحديث عن الوضع النقابي العام والصعوبات الاقتصادية وضرورة التضامن وتلاحم الصفوف وتجنب العذر ونصب الفخاخ من نقابيين لنقابيين مما يحبط عزائمهم ويلهيهم عن العمل النقابي المفيد.

فقال لي محمد شقرون كاتب عام اتحاد تونس معلقا بعد ذلك:" أنت كنز للاتحاد. وكنت أرى عاشور متضايقا من كلامك، يود لو يقاطعك".

من الغد 24-9-1982 هيئة إدارية

قال فيها محمد شعبان، كاتب عام اتحاد صفاقس: “لولا عودة حبيب عاشور لذهب الاتحاد إلى الهاوية" فأجبته:" لو عكست لأصبت، فلولا قوة الاتحاد، لما عاد عاشور. وقد تدرج من الضعف إلى القوة منذ محنة 26 جانفي 1978، إلى الهيئة الوطنية، إلى مؤتمر قفصة، ثم المجلس الوطني الذي تم فيه رفع الاستثناء".

1981-10-12: مكتب تنفيذي وانكشاف النوايا
حصل فيه صدام بيني وبين عاشور من أجل عقد مؤتمر التعليم الابتدائي بصفاقس بأمر فردي من عاشور رغم رسالة النظام الداخلي ضد عقده لعدم توفر الشروط القانونية. وحين لمته على هذا التصرف الفردي قال:" إما أن تسقط كلمتي أو كلمة خير الدين الصالحي [مسؤول النظام الداخلي]". فأجبته:" لا هذا ولا ذاك. وإنما يجب التنسيق والتشاور بيننا واحترام القانون".

واشتد الخلاف حول الدعوة التي وجهها بمفرده لعقد مجلس جهوي بالقيروان في حين اتفقنا سابقا على عقد هيئة إدارية تدعو بدورها إلى مجلس جهوي كما ينص عليه القانون.

فقال: " عندي الحق في عقده، وسأذهب، ومن شاء فليلتحق". فعبرت عن رفضي لهذه الطريقة في العمل لأنها فردية لا ديمقراطية. فقال لي:" أنا فاهمك وأنت فاهمني" فأجبته:" أنا لم أفهمك ولا أظنك فهمتني فتصرفك غير طبيعي ويمسّ من مصداقية المكتب التنفيذي، ولا يمكن أن نعمل معا على هذا الأساس". فقال:" لا يمكن أن نعمل معا ويجب التصفية من الأسفل لتصفية الأعلى".

وهكذا فهم الحاضرون ما كشفه بوضوح لأول مرة عن النوايا الحقيقية من تصرفاته الفردية غير القانونية.

وتكررت هذه الخروقات في عديد الجهات منها سوسة والقيروان ونابل التي حضرت فيها معه. فقد هالني ما رأيت من فوضى وإرادة فرض أقلية على الأغلبية بالقوة.
حاول عاشور التأثير على الهيأة الإدارية الجهوية لتوجيهها حيث يريد، لكنني أجبرته على التصويت وأجبرته على إعلان النتائج أمام الجميع. ولم تكن كما كان يريد، وذلك بفضل إخلاء القاعة من الغرباء عن الهيئة القانونية والذين قدموا للتصويت بغير وجه حق.

هيئة إدارية يوم 27-29 أكتوبر 1982

شعر عاشور أن الأغلبية لا تساير رغباته وأصبح مناصروه في موقف دفاعي بعد أن كانوا يبادرون بالهجوم على غيرهم. فقال عاشور بالفرنسية j’ai jamais vu un bordel pareil [لم أر قط مثل هذا ال.../هذه الفوضى]. لأنه لم يعد يسيّر الأمور على هواه. ففي مناسبة أخرى في مؤتمر نقابة النسيج، منعته باسم القانون من تصرف مخالف للقانون فقال غاضبا:" لعن الله أبو هذا القانون".

تقييم السلطة للوضع

نقل لي شاهدان أنه قال للرئيس في إحدى المناسبات:" إني أريد تصفية الاتحاد من المتطرفين، لكن يعرقلني الطيب البكوش وعبد العزيز بوراوي ومصطفى الغربي وخير الدين الصالحي". وأقر بذلك للرئيس بعجزه وكأنه يطلب دعمه.

وقد نُقل لي عن بعض المقربين من وزير الداخلية ادريس قيقة أن النتيجة التي وصلوا إليها في أوساط الداخلية هي أن عاشور لم يعد يتحكم في الاتحاد وأن مصيره مرتبط بمدى تعاونه مع الطيب البكوش.

وعندما نقل وزير الشؤون الاجتماعية للرئيس قول عاشور لقادة منظمة الفيوم العالمية [نقابة المعادن] أن الحكومة تبالغ في الأزمة لكي يخفّض الاتحاد طلباته، قال له الرئيس بورقيبة " compris et il ne comprendra jamais rien   mais achour n’a rien  [عاشور لم يفهم شيئا ولن يفهم شيئا أبدًا]".

وأعاد الرئيس هذا الكلام أمام محمد الصياح وجان روس [محام وسياسي فرنسي]، وأوصى بالحذر من عاشور.

- من نتائج هذا الوضع النقابي أن الحكومة أصبحت تنزع إلى إصدار القوانين في الوظيفة العمومية دون تشريك الاتحاد كما فعلت في قطاع التعليم العالي. وعندما طلبنا يوم 2-11-1982 اجتماعا مع الحكومة للغرض، قدموا لنا وثيقة حول الأزمة الاقتصادية لندرسها ونتناقش فيها.

وقد دعاني عاشور ليلا إلى منزله يوم 7-11-1982، وعنده خالد المنوبي، للنظر في ردنا على وثيقة الحكومة حول الأزمة الاقتصادية.

- وانعقدت من الغد 8 -11-1982، جلسة مع وفد حكومي ضم محمد الناصر ومنصور معلى والمازري شقير. وقد ألح معلى على خطورة الوضع وتأزم العلاقات في المؤسسات. وادّعى لنا محمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية، أن إضراب التعليم العالي سياسي للاختبار fer de lance [رمح الاقتحام]، بل إن قياديا نقابيا ردّد القول ذاته تقربا من السلطة.

نماذج من رسائل بورقيبة المشفرة أو الحيل (التي يسميها الشباب التونسي اليوم"فازات")

- عندما زار الرئيس بورقيبة مدينة صفاقس في نوفمبر 1982  إثر الفيضانات وأوصى بحماية المدينة منها مستقبلا، قدم عاشور وجلس بجانب الرئيس، فدار الحديث حول فرار بورقيبة من جزيرة قرقنة إلى الشرق ليواصل مقاومة الاستعمار الفرنسي من الخارج لاشتداد القمع والتهديد بالاغتيال، فأسرّ عاشور للرئيس عن السبب الذي جعله لا يعلم شاكر بالأمر، فتفطن الرئيس إلى أن الحاضرين توهموا أن طريقة عاشور في التحدث إلى الرئيس دليل على ألفة كبيرة. وعندما قاموا من مجلسهم، جاء الملاّح الذي هرّب الزعيم بورقيبة بحرا، فرحب به الرئيس وأعاد القصة متناسيا اسم عاشور وتلعثم بعد ذكر حبيب... مما جعل كاتبه يكمل الاسم. وكأن الرئيس أراد فسخ الانطباع الأول من أذهان الحاضرين بتناسي لقب عاشور. وكثيرا ما يستعمل بورقيبة هذا الأسلوب غير المباشر.

ثم التحق به عاشور وقدم له صكا، مساهمة من الاتحاد في [إغاثة المتضررين من الفيضانات، قائلا للرئيس:" أنا دائما وراءك"، ثم استدرك: "دائما معك في خدمة مصلحة البلاد، ولا شك أن سي محمد (مزالي) وسي منصور (معلى) يقولون لك ذلك". فأجابه الرئيس: “سي صفر (رشيد) والكعلي (المنجي)، كلهم يعملون لمصلحة البلاد".

- ويبدو أن الرئيس يستعمل هذا الأسلوب أحيانا حتى مع زوجته وسيلة بشكل آخر. فهي تقول لأصحابها المقربين منها:" أصبح الرئيس هذه الأيام لا يسمعني، وكلما كلمته في أمر تهرّب متعللا بأن رأسه يؤلمه وأنه أصبح لا يحتمل سماع المشاكل".
ولعل من أسباب ذلك، استفحال الحرب بينها وبين الوزير الأول محمد مزالي، فقد استجوبتها مجلة جون أفريك وردّ عليها مزالي بطريقة غير مباشرة في خطابه أمام مجلس النواب منتقدا "أهل المخزن". هذه الإشارة الاستهجانية غير المباشرة لشخصها أثرت فيها إلى حد البكاء.

- ذكر لي محمد شقرون الكاتب العام للاتحاد الجهوي بتونس أن عاشور اجتمع بنفر من اليسار النقابي ومن بينهم محمد صالح الخريجي واشتكى من أنه أصبح أقليا في المكتب التنفيذي وحتى في القاعدة، وأن الطيب البكوش لا يعينه. فعلق عليه الخريجي بقوله:" ولماذا لم تضع يدك في يده؟"

- في اجتماع مع الحكومة يوم 2-11-1982 أكد عاشور على وطنيته وعزمه على اجتناب كل ما من شأنه أن يفلس البلاد.

وعندما أخذ الكلمة عبد العزيز بوراوي قال لي عاشور في أذني:" أنا مسرور بكلام بوراوي لأنه يقدم الدليل أمام الحكومة أننا غير منقسمين.

وقد يكون هذا راجعا إلى رغبة عاشور في تهدئة الأجواء ظرفيا. فعندما سافرت إلى بروكسيل، ودعني عاشور بنفسه إلى قاعة الانتظار بالمطار.

ولكن بعض المحسوبين عليه روجوا بكل صبيانية أن المودع الوحيد كان شقرون. فهؤلاء ساهموا في تسميم الأجواء النقابية بغياب الشعور بالمسؤولية وغلبة الانتهازية على طباعهم.

دعوة من منظمة الحيطة الاجتماعية (PS) ببروكسيل 15-11-1982

تلبية لدعوة هذه المنظمة الاجتماعية الكبرى البلجيكية المكملة لعمل النقابات ، سافرت ضمن برنامج مكثف بما فيه زيارة للكنفدرالية الدولية للنقابات الحرة (سيزل  CISL) ومقرها بروكسيل، والاتحاد العام التونسي للشغل عضو فيها من عهد فرحات حشاد، وقد قوبلت بحفاوة كبيرة من قبل القيادات الموجودة بالعاصمة البلجيكية.

- وعندما قابلت جوني فاندرفيكن jony vanderveken مدير الكونفدرالية النقابية العالمية (سيزل) أكثر من ساعتين،  )وهو يتميز برصانته وحكمته (، حدثني عن مساعيه لإقناع أوتو كيرستن الألماني Otto kersten الأمين العام وصديق عاشور، بالتخلي عن تجديد ترشحه لأنه كان يتردد خوفا من المستقبل.

لكنه اقتنع عندما فهم أن جل الوفود ضده لكثرة سكره وسوء سلوكه وخاصة في اليابان والمكسيك. وقال لي جوني :"حتى أوسكار فيتر Oscar vetter رئيس  DGB (الكنفدرالية النقابية الألمانية)، طلب من كيرستن التخلي. وصادف أنه حين اقتنع وحرر رسالة في الغرض، تعرض لكسر من الغد.

هذه النماذج تعطي صورة عن الأجواء السايدة في تلك الفترة سياسيا و نقابيا في جميع المستويات.

سنرى في الحلقة القادمة بالخصوص ذكرى اغتيال الشهيد فرحات حشاد.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)

الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)

الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)

الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)

الطيب البكوش - بين الرئيس بورقيبة وزوجته وسيلة: تقاسم أدوار؟ (الحلقة الرابعة عشرة)


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.