أخبار - 2020.06.22

الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)

الطيب البكوش: هشاشة الاستقرار الحكومي والنقابي (الحلقة 13)

اشرت في آخر الحلقة السابقة (12) إلى أن الرئيس بورقيبة كان معنا لطيفا وإن كان ذكّر عاشور بفضله عليه وتسليمه مفاتيح مقر نهج اليونان.

وعندما صافحته في ذلك اللقاء قال لي:" الله يعينك، الله يعينكم على المتطرفين الذين دخلوا الاتحاد لتقويض النظام وهم شيوعيون" وفي هذا رجع صدى لما يقوله بعض النقابيين للسلطة، والبعض منهم انكشف للسلطة نفاقهم لأنهم كانوا مع القواعد النقابية يشعلون النار ويتظاهرون بإطفائها.

بعد أيام من مقابلة 7-1-1982 وتحديدا يوم 13-1-1982.أعلمني عاشور أن وسيلة بورقيبة زارته في منزله وأعلمته أن الرئيس سيسافر من الغد إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتداوي وأن الدعوة لتوديعه في المطار قد أرسلت وطلب مني مرافقته.

فقلت له إني لم أتعود الذهاب في مثل هذه المناسبات. فقال:" إذن لا نذهب". فقلت له:" من الأفضل أن تذهب أنت لأنك تعودت من قبل على الذهاب في هذه المناسبات، خصوصا أنه مسافر للعلاج ولك به علاقات تاريخية، فغيابك يمكن أن يؤول. أما أنا فقد تعودوا على غيابي في مثل هذه المناسبات ولا أحضر إلا المناسبات الوطنية الرسمية". وبعد عودته من المطار قال لي إن الرئيس وزوجته فرحا به كثيرا.

مع مراسلَيْ "لوموند"

يوم 18-1- 1982 زارنا في مقر الاتحاد مراسلا صحيفة لوموند ميشال دوري وبول بالطا. وعندما دخلنا مكتب عاشور وجدنا عنده أحد النقابيين من أعضاء الهيئة الإدارية عن قطاع التعليم. وكان عاشور في ردّه على أسئلة الصحافيين يسرد التاريخ على طريقة الرئيس. واستأثر النقابي الحاضر بالحديث خاصة عن قطاع التعليم بحماقة أحرجت حتى عاشور.

وعند الخروج بعد انتهاء اللقاء التفت عاشور إلى الصحافيين قائلا" هل تريدان معرفة أخبار أحمد بن صالح؟ فهنا في الغرفة المجاورة مبعوث منه، فدخل بول بالطا الغرفة ثم خرج. وعلمت أن من كان بها هو سالم الشفي الذي سافر وقابل بن صالح ثم عاد، فقدمه عاشور على أنه مبعوث بن صالح.

ذكرى تأسيس الاتحاد

احتفالات 20 جانفي 1982

تقرر أن يشرف عاشور على احتفالات هذه الذكرى في مدينة قفصة (التي شهدت المؤتمر الاستثنائي الذي حرم من حضوره) ومنها ينتقل إلى قابس. كما تقرر أن أشرف على الاحتفالات في تونس العاصمة التي كان النشاط النقابي فيها كثيفا بإدارة كاتبها العام محمد شقرون ورفاقه. (وشقرون من النقابيين الذين عذبوا تعذيبا مبرحا إلى حدّ الاشراف على الموت إثر إضراب 26 جانفي 1978، وكان أنذاك يمثل نقابة السبائك المجمعة التي تمت في ما بعد خوصصتها).

بلغني أن تعليمات أعطيت من محيط عاشور بإفشال اجتماع تونس. وقد لاحظت بعض المؤشرات على ذلك. لكن الاجتماع نجح نجاحا باهرا وغصت القاعة بالحاضرين وبقي كثيرون في الساحة ودام خطابي ساعة ونصف.

ثم علمت أن عاشور أطرد في قفصة أحد مبعوثي جريدة الشعب، لسان الاتحاد، وقال لزميله فتحي العياري:" الشعب لا تعجبني" فسأله:" هل تقرؤها؟" فأجاب:" لا" فقال له": كيف تحكم عليها إذن!!" فلم يتماسك عن القول لزملائه بالفرنسية c’est le règne de l’ignorance [إنه حكم الجهل].

وإثر هذه المؤشرات السلبية، بدأ يسود الاعتقاد لدى النقابيين بأن ثمة لدى مناهضي مؤتمر قفصة، رغبة في فسخ نتائجه وتقسيم النقابيين على هذا الأساس.

بل إن الحكومة نفسها باتت منقسمة في مواقفها. إلى حدّ أن وزير الشؤون الاجتماعية محمد الناصر اقترح في مجلس الوزراء العودة إلى العادة القديمة وهي التشاور رأسا مع عاشور قبل الاجتماعات المشتركة  فرد عليه الوزير الأول محمد مزالي بقوله حسب ما رواه بعض الحاضرين:" إذا كان منكم من يريد أن يتقرب من عاشور فهو مخطئ، فعاشور هو أحد قادة الاتحاد وليس الأوحد. ونحن نعرف كيف يتصرف، فهو يجمع حوله بعض النقابيين ويطلب أحد الوزراء بالهاتف ويخاطبه بلهجة مهينة أمامهم. فعليكم بالمحافظة على هيبة الدولة."

وعندما عاد عاشور من جولته الجنوبية زرته يوم 27-01-1982 في منزله (وكنا كثيرا ما نتزاور بحكم الجوار في السكن)، ولمته على صمته عندما تهجم بعض أصحابه على قياديين كانوا معنا في السجن ونعت أحدهم وهم حسن حمودية بالميليشيا. فاستغربت ردّه علي بقوله:" كان عليه أن يأتي لاستقبالي في سيارة المعتمد عوض المجيء في الحافلة التي تقل النقابيين".

خلافات تطفو على السطح

أعلمني مصطفى الغربي، عضو المكتب التنفيذي أن ادريس قيقة يرغب في مقابلتي. ولم أعد أذكر المناسبة التي دعاني فيها إلى منزله مع عدد كبير من الضيوف من بينهم سفير فرنسا بحضور أحمد بنور مدير الأمن الوطني، فاستفسره السفير عن الخلافات بيني وبين عاشور، فأجابه قيقة:" هذه مناقشات الدبلوماسيين. كنا في ألمانيا نفعل نفس الشيء في خصوص علاقة شميدت وبراندت. أما الطيب البكوش وحبيب عاشور فلا خلاف بينهما ".

بدايات الصدام

في أول هيئة إدارية جمعتنا، خلافنا جلب الانتباه حول المراقبة المالية وكانت اللائحة الصادرة موافقة لموقفي.

فالإجراءات المالية والرقابية الجديدة التي أدخلتها للاتحاد قبل التحاقه بنا ضايقته كثيرا لأنها شفافة.

أذكر نماذج من هذه الخلافات في المواقف:

لأول مرة في تاريخ الاتحاد أوكل إلى مكتب دولي محايد في التدقيق "أوديت" يشتغل بين تونس وفرنسا ليضبط ممتلكات الاتحاد وآثاثه.

وقد اكتشفت أن للاتحاد أراضي على الشياع في رواد وجربة وغيرها لا يعرفها النقابيون ويستغلها الأجوار في غياب تقسيم واضح. وهذا الضبط يحمل المسؤولية لكل من يتسبب في اختفاء آلات أو أجهزة أو أثاث أو أموال.

كما أني كنت أعترض على جمع الأمين العام بين صفته النقابية وصفته مسؤولا أول في إدارة مؤسسات الاتحاد، في حين يقتضي المنطق أن يكون رئيس مجلس الإدارة لا المدير العام المسؤول أو كذلك تعيين الأبناء على رأس مؤسسات الاتحاد.

وقد حدث مرات أن وقف عاشور أمام المحاكم كصاحب أعمال وهو ما يتناقض مع الصفة النقابية.

هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن راضيا عن تكوين "لجنة المرأة العاملة" في الاتحاد، فهو يرى أن العمل النقابي للرجال دون النساء رغم تزايد أعدادهن في جميع القطاعات. وكان يسمّي بسخرية عضواتها " نساء الطيب".

وقد لمت عاشور إثر الهيئة الإدارية بقولي:" إنك تؤكد للناس ببعض أقوالك وتصرفاتك وجود خلافات، وتحطم جميع الجهود التي أبذلها لتكذيب الشائعات حول خلافات وهمية أحيانا. فقال لي:" أودّ أن نتحدث معا في المستقبل قبل إثارة المواضيع الهامة أمام الآخرين."

وقد بلغني يوم 6-3-1982 أن عاشور والطاهر بالخوجة التقيا في الحجاز، فسأله عمّا يشاع من خلافات بيننا، فنفى أي خلاف معي ولكنه أضاف بقوله:" ثلاثة أشخاص لا أسامحهم، هم عبد العزيز بوراوي و نور الدين حشاد ومحمد كريم".

وواضح أن الأمر يهم علاقتهم بمؤتمر قفصة الاستثنائي الذي كان من المفروض والمتوقع أن يخرج منه بوراوي أمينًا عاما.

ذكرت بعض هذه التفاصيل لأنها مؤشر على بداية دخول تونس، اجتماعيا وسياسيا في منطقة اضطرابات، ستؤدي كما سنرى لاحقا إلى انقسام النقابيين وطرد نصف المكتب التنفيذي وتكوين الاتحاد التونسي للشغل سنة 1983 مما أضعف الاتحاد والحركة النقابية التونسية.

وفي هذا الإطار حدث صدام عنيف بيني وبين الرئيس بورقيبة أمام ضريح فرحات حشاد في 5-12-1983 بحضور إطارات نقابية ومسؤولين في الدولة.

كما ستؤدي اجتماعيا الى انتفاضة الخبز في سنة 1984 وإقالة وزير الداخلية ادريس قيقة.

وسيصل الأمر إلى سجن عاشور وضرب الاتحاد ومحاصرة قيادته مجددا ثم إلى إقالة الوزير الأول محمد مزالي وتغيير الحكومة.

وقد بدأ المرض يستفحل بالرئيس بورقيبة إلى أن انقلب عليه وزيره الأول زين العابدين بن علي في  7-11-1987.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)

الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)

الطيب البكوش: الرئيس بورقيبة والمناورة الكبرى الأخيرة (الحلقة الثانية عشرة)


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.