الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يناور بشكل مفاجئ (الحلقة الحادية عشرة)
بعد شهر من لقائي بالرئيس بورقيبة 13-10-1981 سافرت إلى نيويورك بدعوة من المنظمة النقابية الأمريكية (AFLCIO) بمناسبة انعقاد مؤتمرها.
سافرت أواسط 1981، ويوم الأحد51-11-1981، صدرت كبرى الصحف الأمريكية نيويورك تايمز New York Times الصفحة 19، بمقال عن تونس، خصتني فيه بفقرة قدمتني فيها كمرشح محتمل للرئاسة التونسية.(رابط المقال أسفل الصفحة).
وكانت قد أصدرت يوم الثالث من الشهر ذاته في الصفحة 12، مقالا آخر خصصت فيه فقرة للحديث عن رفضي التحالف مع الحزب الحاكم لأن هذا يؤثر على وحدة النقابيين (رابط المقال أسفل الصفحة).
ومن نتائج هذا الاهتمام الإعلامي، أن كانت الحفاوة بي في المؤتمر متميزة.
وعندما عدت إلى تونس يوم 21-11-1981 وجدت أن مقابلة مع الرئيس بورقيبة قد تم إعدادها في غيابي، ليوم الجمعة 27-11-1981 على الساعة التاسعة صباحا.
وفي قاعة الانتظار، دخل وزير التربية فرج الشاذلي. فاستغربت الأمر وسألته عن موعده مع الرئيس، وكانت المفاجأة الأولى أن لنا موعدا في نفس الوقت. وكانت تربطني به علاقة طيبة. فعبر مثلي عن استغرابه.
وعندما جاء مدير المراسم عبد المجيد القروي، قال:" تفضلا" فقلت له:" المواضيع التي سأتحدث فيها مع الرئيس لا تهم وزارة التربية. ولا أرى مانعا من قراءة كتاب في انتظار خروج الأستاذ فرج الشاذلي". فارتبك القروي وعاد إلى الرئيس صامتا ثم رجع وقال:" تفضل سي الطيب".
بادرني الرئيس بالسؤال، وهو يعرف الجواب:" هل فرح بك الأمريكان؟" ثم أخذ يقص علي من جديد قصة زيارته إلى نيويورك سنة 1951 حيث كان يوجد هناك الزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد، مدافعا عن القضية الوطنية مستعينا بالنقابات الأمريكية والدولية.
ودون إطالة، رفض الاستجابة لطلبي العفو عن عاشور الذي وعد به ثم تراجع لرفضي الترشح في الانتخابات التشريعية كما كان يريد. وكأنما هي مسألة مقايضة سياسية لا دخل فيها للمبادئ.
كانت أمامه جريدة الشعب، لسان الاتحاد العام التونسي للشغل التي كنت بصفتي أمينًا عاما، مديرها المسؤول.
قرأ الرئيس الافتتاحية ثم قال:" لا حديث فيها إلاّ عن الاتحاد. ولا ذكر للوطن أو للرئيس".
ثم تحدث عن الإضرابات والخصاصة والتعاسة، ملحا على أن الذي له شغل محظوظ. وطالب بتجميد الأجور والأسعار مدة خمس سنوات.
ثم أخذ يعدد مزايا النظام التونسي قائلا:" ستندمون عليه لأنه نظام لا مثيل له في إفريقيا والبلاد العربية والعالم الثالث، سافروا وقارنوا. شاركوا معنا في الحكومة وقسموا الأموال كما تشاؤون. بعد موتي افعلوا ما شئتم. تريدون نظاما عسكريا يقتل الناس كما في تركيا؟".
ثم طلب إدخال وزير التربية بعد 45 دقيقة من الجدل والمناورة المحبكة من قبل، ذلك أن وزير التربية تحدث بدوره عن الإضرابات في قطاع التعليم. فبكى بورقيبة عدة مرات وهو يتحدث.
ولما اغتنم الرئيس فرصة ذكر الوزير إضرابات قطاع التعليم ليعود إلى شجب الإضرابات، أجبته بأني أساند الإضرابات المشروعة، وأنه من الضروري حسن التصرف والعدل وعدم التبذير لتوفير الأموال وتوزيع الثروة بعدالة. فالتفت إلي وزير التربية قائلا:" كلام كبير الذي يقوله!" فقلت له:" إذا كان غيري يجاملك ، فأنا أقول لك الحقيقة".
واغتنمت الفرصة للإشارة إلى الانتخابات التشريعية التي شابتها نقائص عديدة وتزييف نتائج حسب التقارير التي وصلتني، وأعلنت عنها في ندوة صحافية، وبين يدي ملف ضخم في الموضوع. وتعرضت مع الرئيس إلى ما تركته الانتخابات من غضب شعبي، فتظاهر بعدم السماع ولم يعلق على كلامي بل واصل حديثه، مما يدل على أنه كان على علم بذلك وبندوتي الصحافية فاجتنب الخوض معي في الموضوع.
و فجأة وقف، ومدّ يده لوزير التربية إعلانا عن انتهاء اللقاء. ثم مد يده لي، فقلت له:" أطلب منك دقيقة بمفردنا فما زال عندي ما أقول". فضغط على يدي وهو ينظر إلى الباب تعبيرا عن الرغبة في انتظار خروج الوزير. وعندما أغلق الباب خلفه قلت له:" لقد وعدتني بإطلاق سراح عاشور في 3 أوت 1981،ثم بدا لك أن تتريث على مراحل. وقد أعلمت رفاقي في الهيأة الإدارية للاتحاد بذلك. ولا أحب أن تطيح كلمة بورقيبة أو كلمتي في أعين النقابيّين".
ويبدو أنه تأثر بكلامي هذا، فتغيرت لهجته وسحنته وقال بصوت خافت:" هذه مسألة صعبة. ولا أريد أن أقرر فيها وحدي. يلزمني التشاور مع سي محمد [الوزير الأول مزالي] الذي سيعود مساء اليوم من المغرب، ومع الحكومة. وعلى كل حال، أعدك بسراحه[عاشور] في 1982"، فرفضت، فقال قبل نهاية هذا العام. فقلت:" أفضل أن يقع هذا في أقرب وقت".
في المساء، اتصلت بي الرئاسة طالبة مني الحضور صباح السبت وأن أصطحب ثلة من أعضاء المكتب التنفيذي.
هذه السرعة في الاستجابة، لم أستغربها، لسببين: أولا إلحاحي بحزم أن يتم ذلك في أسرع وقت. ثانيا: أنني جمعت في ذات اليوم المكتب التنفيذي بنزل أملكار، [وهو على ملك الاتحاد] الذي لا يبعد إلا أمتارا عن قصر قرطاج، وهو مراقب عن كثب لأن جل اجتماعاتنا النقابية تلتئم فيه.
وفي هذا الاجتماع أكدت على ضرورة رفع الاستثناء عن عاشور نقابيا. وهو ما كان يخشاه بورقيبة فتضيع هذه الورقة الهامة من بين يديه، وفهم أنني جادّ في ذلك.
وما المساومات والمزايدات والوعود والتراجع إلا مناورات سياسية يتقنها بورقيبة إتقانا لا مثيل له.
ولا شك عندي أنه اطلع على كلامي في هذا الاجتماع وقرر المبادرة بالدعوة مساء ذات اليوم.
اتفقنا أن يصحبني عبد العزيز بوراوي وخير الدين الصالحي وحسين بن قدوروخليفةعبيد.
واقترحت الرئاسة أربعة من بينهم محمد عز الدين.فزدت الصادق العلوش. وبذلك أصبحوا ستة أعضاء معي.
في الموعد المحدد، يوم السبت28-11-1981 كان بورقيبة قد أعدّ مناورته الأخيرة بإتقان. وسيكون ذلك الاجتماع الحاسم الفريد من نوعه، موضوع الحلقة الثانية عشرة القادمة.
الطيب البكوش
قراءة المزيد:
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)
الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)
الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)
الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)
الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)
- اكتب تعليق
- تعليق