أخبار - 2020.06.05

عامر بوعزة: حوار الطرشان تحت قبة البرلمان

عامر بوعزة: حوار الطرشان تحت قبة البرلمان

ترتكب حركة النهضة في مواجهة الحزب الدستوري الحرّ جملة من الأخطاء المنهجية على مستوى الخطاب السياسي واستراتيجيات الحجاج، ما يجعلها تخسر نقاطا ثمينة في معركة أضحت مفتوحة على كل الاحتمالات. من بين هذه الأخطاء اعتماد المنّ والوصم والتخوين.

المنّ ونعني به أن خصوم عبير موسي لا يفوتون أي فرصة لإعادة التذكير بأن وجودها في البرلمان هو من فضائل الديمقراطية التي أتت بها الثورة. ويتمادون في هذا الاتجاه ليتبنوا هم الثورة وينفوها جملة وتفصيلا عن كل من انتمى إلى التجمع الدستوري الديمقراطي. وهذا في الواقع مجانب للصواب، فقد أثبت أستاذ علم الاجتماع المولدي الأحمر في دراسة عنوانها «انهيار معادلات التبادل في سوق سياسية محلية مزيفة» أن حوالي 25 % من المنخرطين في التجمع شاركوا في احتجاجات ديسمبر 2010 وقد بلغت هذه النسبة في القصرين 33% فيما لم تتجاوز في سيدي بوزيد 18% ، وهؤلاء هم من العاطلين عن العمل وذوي الوظائف الهشة، وهذه النسب تدل على مدى انحلال الانضباط الحزبي داخل هذا الكيان السياسي عشية الثورة، حيث كان يعاني خللا حادّا في معادلات السوق السياسية التي أنشأها، إذ لم يعد الانتماء إلى التجمع ضامنا لأي امتياز اجتماعي! أما الاستنتاج الأهم في هذه الدراسة المنشورة في كتاب صادر عن مركز الأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «الثورة التونسية: القادح المحلي تحت مجهر العلوم الانسانية» ، فيتعلق بالهوية السياسية لمحركي الاحتجاجات، إذ يقول الباحث: «إن الضعف التنظيمي والايديولوجي للمعارضة غير الإسلامية وتردّد الإسلاميين حتى اللحظة الأخيرة في أخذ القرار بالمشاركة جعلا من المنتمين إلى الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية الأولى في البلاد قلب الرحى التنظيمي وسط كتل المحتجين». وهكذا تؤكد هذه الدراسة العلمية ما يعرفه الجميع من أن الأحزاب السياسية لم يكن لها دور يذكر في الاحتجاجات التي أدت إلى إسقاط النظام ولا يمكن لأحد أن يمنّ اليوم على الآخر بشيء!

الوصم، نعني به اعتماد القوالب الجاهزة في الحجاج، فالنهضة تعتبر نواب الدستوري الحرّ رموزا للاستبداد والديكتاتورية والإقصاء، في المقابل تعتبر عبير موسي النهضة فرعا لمنظمة الإخوان المسلمين في تونس وتنفي عنهم بذلك أي انتماء للدولة الوطنية وتنسف أدبياتهم المستحدثة كالفصل بين الدعوي والسياسي واعتبار الإسلام مرجعية لحزبهم المدني الديمقراطي. وهنا نقف على معضلة حقيقية في تفكير قادة النهضة وأتباعها، فهم يقرّون بأن حركتهم تطورت في ضوء متغيرات الواقع السياسي الوطني والعالمي، لكنهم ينفون عن غيرهم إمكانية التطور ويتعاملون مع ظاهرة عبير موسي كما لو كانت رمزا أبديا للاستبداد، فيناقضون القول بأن الدستور هو الضامن للحريات، وأن الثورة بعد عشر سنوات لا شيء يهددها، وأن آلة الزمن تسير دأبا إلى الأمام. إن وصم الخصم أداة ضعيفة متهافتة وحمّالة لمتناقضات شتى سرعان ما تنقلب على حاملها، وهي لا تصلح إلا للتعبئة الحزبية بالتخويف وإثارة الرعب، وهو أسلوب معروف لدى النهضة التي تتهم كافة خصومها الراديكاليين من اليساريين والدساترة بأنهم إقصائيون استئصاليون، ولا تريد أن تمحو من ذاكرة أنصارها إمكانية العودة إلى السجون والمنافي. وهذا التصلب من الجانبين يفسر انحراف الخطاب السياسي من منطق الحجة إلى استخدام العنف اللفظي في صراع لا ينتفع منه المشهد السياسي بأي شيء.

التخوين يتعلق في هذا السياق باعتبار النهضة الحزب الدستوري الحر ذراعا للمحور الإماراتي في معركة مطاردة الإخوان المسلمين، وهي المعركة التي يسميها المنصف المرزوقي دائما بالثورة المضادة في ربط ضمني مجاني وتطوعي بين الثورة والإسلام السياسي، وفي غياب حجج مادية قابلة للاستخدام أمام القضاء يظل هذا الخطاب ضمن دائرة نظرية المؤامرة وجزءا من المعركة الإعلامية الدائرة رحاها إقليميا ودوليا والتي تتخذ حاليا من ليبيا ساحة للوغى، وهذه الحجة هي أضعف الحجج التي يمكن أن تستخدمها النهضة في مواجهة عبير موسي لأن ارتباطها هي بالمحور التركي أثبتُ، وأقوى حجة عليه الديبلوماسيةُ البرلمانية التي يفسر بها راشد الغنوشي نشاطاته الخارجية المثيرة للجدل، بدءا من لقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصولا إلى تهنئته الهاتفية لرئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا بعد استعادة السيطرة على القاعدة العسكرية بالوطية.

المنّ والوصم والتخوين وغيرها من الأدوات التي تستخدمها النهضة في مواجهة خصومها جزء من خطاب يعتمد التخويف من الفوضى والاستبداد، وهو خطاب يتناقض مع اعتبار الانتقال الديمقراطي أهم منجز كسبته تونس من ثورتها، تلك الحجة التي تُعتمد عادة لتبرير البؤس والفقر والإفلاس. أما الخطأ الأبرز في سياق الحوار البرلماني فهو التجاهل، ففي جلسة الحوار الأخيرة عن الديبلوماسية البرلمانية ظل السؤال الذي طرحته عبير موسي في بداية مداخلتها معلقا، وهو سؤال هام عن الغاية من نشر النهضة في الحملة الانتخابية وثيقة الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي للاتجاه الإسلامي، فهذه الوثيقة يفترض أن تكون جزءا من تاريخ الحركة لا حاضرها أو مستقبلها بدليل قول الغنوشي ذاته في أحد المؤتمرات «لقد أنشأنا حركة شمولية، شمولية الإسلام، ولكنْ تغيّر الزمنُ، وإنّ جوانب كثيرة في حركتنا تحتاج إلى الإصلاح والتعديل حتى نكون أكثر التصاقا بالواقع» وقد دشن المؤتمر العاشر للحركة مرحلة جديدة يفترض أن تكون قد تخلت فيها نهائيا لا مؤقتا عما جاء في تلك الوثيقة المرجعية التي تؤكد على أن «وظيفة الخلافة تقتضي القيام على شريعة الله في الأرض» وأنّ « تقدير الصلاح والفساد راجع إلى الشريعة نفسها»!

عامر بوعزة
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.