أخبار - 2020.06.03

الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)

الطيب البكوش: رفضي الترشح للانتخابات التشريعية وتصلب الرئيس بورقيبة (الحلقة العاشرة)

ذكرت في آخر الحلقة السابقة (9) أنني سأخصص هذه الحلقة (10) للضغوط المسلطة علي من أجل الترشح للانتخابات التشريعية وبالخصوص المقابلة الساخنة مع الرئيس الحبيب بورقيبة.

رسائل شفوية من السيدة وسيلة بورقيبة

حدثتني السيدة سهير بالحسن عما دار بينها وبين زوجة الرئيس، وسيلة بن عمار، حول ترشحي، وسألتها عما قررتُه في هذا الشأن، فأجابتها سهير "أظن أنه لا ينوي الترشح" فقالت لها وسيلة:" ترشحه دعم لنا وله. ويجب أن يساعدنا على تجاوز هذه العقبة. فالحبيب عاشور يشن عليه حملة، ومع ذلك يواصل الطيب البكوش الدفاع عنه، ولا يريد تقوية موقعه بالترشح. ولا أدري من يؤثر عليه في مواقفه". فقالت لها سهير: "أنت لا تعرفين الطيب البكوش، لا يتأثر في مواقفه بغيره. ولماذا لا تستدعيه وتتحدثين معه مباشرة؟". فقالت وسيلة:" الظرف غير مناسب. أنوي ذلك بعد الانتخابات".

وبعد أيام زارتني السيدة سهير وأعلمتني أنها تقابلت مرة أخرى مع وسيلة فسألتها:" أما زال الطيب البكوش مصرا على عدم الترشح؟" فأجابتها: "لقد تأكدت من هذا. فهو مصمم على عدم الترشح، ولا فائدة في الإلحاح عليه، لأن ترشحه يتناقض مع موقفه من الانتخابات".

حوار مع الوزير الطاهر بالخوجة

طلب الطاهر بالخوجة مقابلتي. وبادرني بالقول:" كان من الواجب أن أكون أول من يقابلك. ولعله يقصد بذلك أنه يمثل التيار المتفتح في الحكومة. ثم تولى تحليل الوضع السياسي بالبلاد ليخلُص إلى ضرورة ترشحي لدعم التفتح الديمقراطي، وقطع السبيل أمام الشق المتصلب الذي قد يلجأ إليه رئيس الجمهورية إن فشلت التجربة الديمقراطية.

ولاحظت أن تحليله للنظام السياسي وخصائصه فيه كثير من التشاؤم إلى حد اعتبار البلاد مهددة بالتفكك والانحلال. فقلت له:" أنا أقل منك تشاؤما". فقال:" إن الجبهة تفقد معناها بدون ترشحك أنت. ولك الخيار بين المنستير أو رئيس قائمة بتونس. فنحن في حاجة إلى وجه جديد لا الوجوه القديمة".

جميع هذه الضغوط لم تؤثر في موقفي المبدئي من الانتخابات والترشح.

اجتماع المكتب التنفيذي للاتحاد في منزلي

كان الهدف من هذا الاجتماع بعيدا عن الأنظار مزيد الضغط علي من أجل الترشح.

وصل الأمر إلى حدّ التهديد بالانسحاب الجماعي من الانتخابات إذا لم أترشح. وقال أحدهم وهو من القدامى المسيسين:" لا نريد أن يكون الأمين العام في السماء والمكتب التنفيذي في الحضيض، أو العكس، وإنما معا في السراء والضراء".

حلّلت لهم حججي، ومنها عدم تشتيت جهودي والحفاظ على وحدة النقابيين الذين لهم مواقف مختلفة من الانتخابات. وطلبت منهم مزيد التفكير.
 ومن الغد، اجتمعوا وأخذوا برأيي، وقرّر عبد العزيز بوراوي سحب ترشحه حتى لا يحصل انقسام على أساس المواقف ليترشح الذين صوتوا للجبهة فقط، ولذلك تراجع عن الترشح ما لا يقل في الجملة عن خمسة.

وسيكون لموقفي هذا أثره في علاقتي بالرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان حريصا على أن أترشح للانتخابات التشريعية.

لقاء الرئيس بورقيبة يوم الثلاثاء 13-10-1981

قبل دخول مكتب الرئيس وجدت زوجته وسيلة في انتظاري في البهو. صافحتني مرحبة ثم دخلت وحدي على الرئيس، وأظن أنها كانت خلف أحد الابواب تتابع اللقاء.

ولم يقع إعلامي بالموعد الا صباح اليوم نفسه. فقد ذكر لي مدير المراسم الرئاسية عبد المجيد القروي معتذرا:" لم أتمكن من إعلام الرئيس إلا بعد التاسعة صباحا. ورغم كثرة مواعيده قال لي: ليتفضل في كل وقت حتى الآن".

كان آخر زواره قبلي حسيب بن عمار.

أثرت مع الرئيس ثلاثة مواضيع، وبدأت ب:

المحاكمات السياسية

ألححت على التناقض في محاكمة "تنظيم الإخوان" بين التصريحات الرسمية المتعلقة بالعنف والصبغة السياسية المحض للمحاكمة، وقلت له: "إني تابعت المحاكمة في وسائل الإعلام، فلم أر من التهم إلا المناشير والاجتماعات السرية. وهما في نظري من الحريات العامة. ونحن كنقابيين حوكمنا محاكمة سياسية في 1978. ولا نريد أن نرى في بلادنا محاكمات سياسية للطلبة أو لغيرهم من أجل الأفكار والرأي المخالف".

فغضب وشتم "الخوانجية" وأيديولوجيتهم وتعصبهم والخميني...

قلت له :" نحن المنظمة الوحيدة التي أخذت موقفا واضحا ضد العنف والتعصب. وكنّا عرضة للتهجم، لكننا لا نرضى بالمحاكمات السياسية".

فقال: " لقد شتموا رئيس الدولة. والعنف موجود في ملف الاستئناف".

كنت أظن أنه لا يهتم بالجزئيات، فتبين لي أنه يتابع الأمور بتفاصيلها.

وعندما قلت له إن لي موضوعا ثانيا، قال لي": هل جئت في موضوع الحبيب عاشور؟ قلت نعم. لقد وعدتني في مقابلة سابقة (12 جوان 1981) بإطلاق سراحه، ثم رأيت من الصالح تحقيق ذلك على مراحل (نقله إلى قربص ثم قرقنة). وقد آن الأوان لإنجاز المرحلة الأخيرة وهي رفع التضييقات نهائيا. فغضب وعاد إلى إثارة المسائل التي يعيبها على عاشور وشتمه بعبارة فرنسية، ثم قال:" لن أخرجه أبدًا، بل كنت أنوي إرجاعه إلى سجن برج الرومي، لأنه يربط علاقات مع خصومي، ذاكرا منهم أحمد المستيري. فقلت له:" إن ثلاثة إخوان من المكتب التنفيذي زاروه أخيرا ونفى لهم ذلك". فقال:" عندي معلومات وأدلة، وأنا أعرفه أكثر منك. لقد خرج من بين يديّ مثل أحمد بن صالح وأحمد المستيري، ربيتهم بيدي وأعرفهم أكثر منك فلا تدافع عنه.

ثم عاد إلى الاضراب العام في 26 جانفي 1978 مرددا:" قرّر إضرابا بثلاثة أيام!!" قلت له: "قررنا إضرابا بيوم واحد".

قال: "لا، بل ثلاثة أيام: الخميس والجمعة والسبت"، فأكدت له مرة أخرى أننا قررنا إضرابا بيوم واحد، وقلت له:" كنتُ آنذاك مسؤولا وأنا اليوم مسؤول، وأؤكد لك أننا قررنا الإضراب ليوم واحد". فقال غاضبا:" أتكذبني! لقد سمعته بأذني. لعلك لا تعلم، ولعلك كنت آنذاك في السجن".

فقلت له:" ذكرت أنك كنت مريضا. ربما كذبوا عليك". فسكت قليلا.

فقلت في نفسي مستغربا: إما أنه يصرّ على الخطأ أو أنه وقع إسماعه تسجيلا مزيفا لمحادثة هاتفية. وعندما ألححت عليه قال لي: "إذا ألححت فإني سأرجعه إلى سجن برج الرومي".

وعندما قلت له لإغرائه: إنني أعتزم المشاركة في الحملة الانتخابية، ويحرجني كثيرا ألا يكون عاشور حرّا. ولا يمكن أن يكون مسؤولا إلا إذا كان حرّا حتى لا يتاجر به أحد.

فاغتنم بورقيبة الفرصة ليقول لي: “لماذا لا تترشح معنا في الانتخابات التشريعية في نطاق الجبهة؟" فقلت: "إن مصلحة الاتحاد ووحدة الصف النقابي والتفرغ للمسؤولية النقابية تفرض علي عدم الترشح". فقال وهو غير راض:" على كيفك، على كيفك"[كما شئت، كما شئت].

وتأكدتُ من هذا الحوار أن رفض الترشح هو السبب في تصلبه في قضية الافراج عن عاشور، بالإضافة الى ما بلغه من متاجرة "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" بزعامة أحمد المستيري بقضية عاشور التي اعتبرها بورقيبة تحالفا ضده.

ولعل عاشور فهم أن تصلب بورقيبة ضده وتراجعه سببه تصلبي في موقفي وظن أن تهجمه علي قد يجعل بورقيبة يفرج عنه ليلعب على خلافنا كما كان يفعل عادة.

ثم أثرت معه الموضوع الثالث.

قضية عتبة الخمسة في المئة

أثرت هذا الموضوع لأؤكد له موقف الاتحاد المدافع عن الاعتراف بالأحزاب الأخرى لتحقيق التعددية ودعم المسار الديمقراطي. وأشرت إلى انعكاس مشاركة الاتحاد في الجبهة الوطنية مع الحزب الحاكم على الاتجاهات السياسية الأخرى، لأنه لا يدعم التوجه التعددي الديمقراطي.

وتخلّلت الحوار عدة مواضيع وملاحظات منها:

ذكره لتفاصيل إزاحة أحمد بن صالح عن الاتحاد العام التونسي للشغل عندما كان أمينا عاما له مطلع الاستقلال، وكيف عبر له مدير ديوانه آنذاك عبد الله فرحات (وقد كان نقابيا في الأصل) عن تخوفه من تقسيم الاتحاد. وكيف كتبت له صفية زوجة عبد الله فرحات تلومه على تقسيم الاتحاد. وكيف ردّ عليهما بورقيبة بقوله:" لا تخشيا شيئًا، فالانقسام لن يدوم وسيعاد توحيد الاتحاد بسرعة" ثم علق بورقيبة بقوله لي:" وهو ما تم فعلا وأصبح عاشور أمينًا عاما".

والواضح أن بورقيبة أراد أن يبين لي أنه صاحب القرار حتى في اتحاد الشغل.

ولا أدري هل أخطأ في سرد الأحداث أم أراد الاختزال: فالذي أصبح أمينًا عاما بعد إزاحة بن صالح ليس عاشور وإنما أحمد التليلي الذي انقلب على بن صالح بإيعاز من بورقيبة بينما كان بن صالح في مهمة بالمغرب تتعلق بالاتحاد النقابي المغاربي. أما عاشور فقد انشق عن الاتحاد قبل إزاحة بن صالح وأسس "الاتحاد التونسي للشغل" بإيعاز من بورقيبة. ثم تم التوحيد من جديد بتدبير من بورقيبة.

وما لم يدركه بورقيبة في هذا اللقاء، وهو يريد إقناعي بالتعويل على مساندته لي ضد عاشور، هو أنه زادني إصرارا على عدم تمكينه من إعادة هذه السيناريوهات معي مهما كانت التكاليف.

وقرأ علي بورقيبة رسالة وردت عليه في اليوم ذاته (كما قال) من المستشار النمساوي برونو كرايسكي يطلب فيها من الرئيس العفو عن أحمد بن صالح، واصفا إياه بالصديق، وأعاد قراءة العبارة بالفرنسية notre ami" باستهزاء. ثم قال بغضب: " سيبقى إلى أن يموت". فقلت له:" بصراحة أرى أن عفوا تشريعيا عاما هو في مصلحة البلاد. وبن صالح يكفيه من الغربة". فعاد بورقيبة إلي وقص علي قصته كاملة إلى أن فرّ من السجن. ثم قال:" لو عاد لما استطاع أن يفعل شيئا. فقلت له: "من باب أولى وأحرى، فلماذا لا يعود إلى وطنه؟"

تعرض أيضا مرارا إلى أحمد المستيري بكثير من الحنق والشتم قائلا بالفرنسية tu verras", il ne passera pas [ سترى أنه لن ينجح]. لن تنجح إلا قائمتنا نحن، الجبهة الوطنية، لأنه ضدي" فقلت له:" الواقع أنه يعتبرك فوق الأحزاب" فقال:" لا بل يعمل ضدي. أنا أعرفه أكثر منك".

تعرض أيضا إلى زيارة حسيب بن عمار له قبيل دخولي قائلا:" يريد دخول الجبهة مع أصحابه".
ثم أردف:" قلت له أنا أعرفك أنت ولا أعرف أصحابك، فإن شئت، أدخل معنا وحدك، تفضل"، فأجابني:" إلّي تعمل مبروك"[لكن حسيب بن عمار لم يترشح وترشح صديقه حبيب بولعراس. ولا أدري خلفية ذلك].

في نهاية اللقاء، قلت له وأنا لا أخفي غضبي وخيبة أملي:" أخذت كثيرا من وقتك" فقال: كم الساعة؟ نظرت إلى ساعتي فأدركت أني دخلت منذ ساعة ونصف. وما إن ذكرت الوقت حتى صاح:" أوه!! فات وقت الغذاء والدواء".

وعلمت أنه استضاف للغذاء الرئيس الموريتاني ولد دادة وزوجته.

ولما توجهت إلى الباب، لحق بي إلى الباب ووضع يده على المقبض وقال:" je sais que vous êtes sérieux [أعرف أنك جدّي] لكنني رئيس دولة وأفكر في مصلحة البلاد التي ضحيت من أجلها".

ولاحظت أنه كان يغيّر لهجته عندما يلاحظ أن غضبه وتهديده لا يؤثران في موقفي، بل يأخذ أحيانا في البكاء وهو يتحدث عن تضحياته من أجل تونس.

فخرجت دون تعليق مني على كلامه الأخير، فلحق بي إلى الرواق وقال من خلفي أمام المصورين والصحافة وكاتبه الخاص ومدير المراسم:" أعرف أن جماعة عاشور يضايقونك. لا يستطيعون فعل شيء، فواصل عملك وبورقيبة معك". فواصلت السير غاضبا دون الردّ عليه.

وفي الباب الخارجي اعترضني مراسل وكالة "تونس إفريقيا للأنباء" فقلت له بحدة" no comment” [لا تصريح]. وواصلت سيري.

وأعتقد أن بورقيبة أدرك بخروجه خلفي وتليين لغته أنني لن أتردد في ردّ الفعل على إخلافه الوعد. وكأنما قرأ ما يدور في خلدي فعلا في تلك اللحظة.

وسنرى في الحلقة القادمة (11) مفاجأة بورقيبة في لقائي به مرة أخرى بعد خمسة أسابيع.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكّوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته, من لقاء مزالي إلى زيارة عاشور (الحلقة الخامسة)

الطيب البكوش: بين قصر الحكومة وقضية الإخوان (30-07-1981) وزيارة عاشور الثانية (1981-07-31) (الحلقة السادسة)

الطيب البكوش: من عيد ميلاد الرئيس بورقيبة بالمنستير إلى ذكرى حوادث 5 أوت بصفاقس (الحلقة السابعة)

الطيب البكوش: الرئيس الحبيب بورقيبة يقرر نقل الحبيب عاشور إلى قربص ومعالجة أهم الإضرابات (الحلقة الثامنة)

الطيب البكوش: انتخابات ومحاكمات... (الحلقة التاسعة)
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.