أخبار - 2020.06.03

نورالدين كريديس: ما وراء الكورونا أو البجعة السوداء

نورالدين كريديس: ما وراء الكورونا أو البجعة السوداء

نورالدين كريديس كاتب و أخصائي نفساني- تنبأ نسيم نيكولا طالب و هو كاتب أمريكي من أصل لبناني  بإمكانية انتشار وباء خطير منذ سنة 2010 "كلما سافرنا على هذه الأرض, كلما كانت الأوبئة أشد. و تكون هناك مجموعة من الجراثيم من بينها سيسيطر عدد قليل وأن من يتوصل من بينها ان يقتل سينتشر بنجاعة أكبر...مرة أخرى , أنا لا أريد أن أقول أنه يجب إيقاف العولمة و منع الناس من السفر, بل يجب علينا فقط أن نكون واعين بالانعكاسات الثانوية و بالتنازلات اللازم القيام بها. و لكن عددا قليلا من الناس واعون بذلك... واني أستشعر خطرا قادما لفيروس عنيد و غريب جدا سينتشر بسرعة حول العالم."  On Robustness and fragility

ان غياب الوعي بهذه المخاطر الكامنة في نوعية الحياة التي نعيشها على هذه الأرض وكذلك غياب سلوكات الحذر و الحيطة  جعل من الكورونا حدثا مفاجئا بعثر بسرعة المنظومات الصحية و الاقتصادية و الاجتماعية في سائر أنحاء العالم.

"البجعة السوداء"

ومن غرائب الصدف أن نفس الكاتب تناول هذه الفكرة في كتاب آخر وهو كتاب "البجعة السوداء" قوة اللا متوقع. وهو كتاب مترجم من الانقليزية الى الفرنسية The black swan the impact of the highly improbable  بعنوان : Le cygne noir la puissance de l’imprévisible .... وصدر الكتاب عن  دارles belles lettres  في طبعة خامسة سنة 2019. ولا علم لي بوجود ترجمة عربية. ويقوم هذا الكتاب الضخم الذي ورد في 603 صفحة على فكرة استحالة التعرف على المستقبل رغم محاولات العلم وأدواته الإحصائية المعروفة مثل انحناء قوس Gauss والمتطورة جدا أحيانا. ويطلق الكاتب على هذه الأحداث غير المتوقعة والتي لم تكن في الحسبان صفة "البجعة السوداء" وهناك بجعة سوداء إيجابية وتحمل أشياء سارة وبجعة سوداء سلبية وتحمل أشياء غير سارة ويتضمن الكتاب كيفية الاستعداد والتوقي من هذه الظواهر النادرة التي يتسم بها المستقبل غير المؤكد. وكانت البجعة السوداء في وضعنا الحالي هي بروز "الكورونا" بشكل مفاجئ وغير مسبوق بحيث فاجأ جميع المجتمعات والحكومات من السند الى الهند كما يقول المثل. وأصبحت جميع الاستراتيجيات المعهودة أمام الكوارث غير مناسبة و غير ملائمة مع الوضع وما نعيشه اليوم هو نتيجة فكرنا بأن المستقبل يشبه الماضي ولا شيء جديد تحت الشمس....لذلك نامت جميع المجتمعات وخاصة الغربية على فكرة السيطرة في كل شيء وعلى الرفاه وعلى قدرة الطب وقدرة العلم واليقين به ونسيت ما تخبئه لها الأيام من مفاجئات ...سارة وغير سارة ويوصي نسيم نيكولا طالب بعدم الافراط في التمسك بالحقائق وتفضيل دروس الواقع والعودة الى حكمة القدامى والتواضع المعرفي وأن الزمن هو المقياس الوحيد والحكم الأخير امام تنبؤاتنا.

حكاية العالم الروسي

ككل الناس أدخل فيروس كورونا وتبعاته علي قلقا . لكني كنت أنسى في ردهات كبيرة من اليوم أننا نعيش في هذه الأزمة , اذ كنت أنغمس في نشاطي العادي مثل القراءة والكتابة والتواصل مع أشخاص في اطار العمل عبر شبكة الأنترنت ومشاهدة بعض الأفلام والمشي وكنت  ولا زلت اقتصر على نشرة وحيدة للأخبار على الساعة الثامنة مساء  .... وأنا دائما أتذكر حكاية العالم الروسي الذي نجا بأعجوبة من الدمار الشامل الذي لحق مدينة ستلينقراد أثناء الحرب العالمية الثانية وكان ما أنقذه هو أنه يستيقظ كل صباح من كل يوم ويقوم بنفس الأشياء ويذهب الى مخبره أو ما بقي منه في المبنى المدمر. ويقضي يومه هكذا وكأنه يوم عادي ثم يعود الى بيته في اخر النهار وهكذا كل يوم وقد أنقذه هذا الروتين من مواجهة الرعب الذي كان يخيم على المدينة المحطمة.
مواجهة الأوبئة

في الحقيقة لم تكن مواجهة الأوبئة شيئا جديدا على الإنسانية. وقد تناول مثلا المؤرخ الفرنسي جان د ليمو jean Delumeau في كتاب ممتاز عنوانه :"الخوف في الغرب (من القرن الرابع عشر الى القرن الثامن عشر) :مدينة محاصرة" كيفية مواجهة المجتمعات الغربية للأوبئة وما انجر عنها من مخاوف وتغيرات اجتماعية ولعل الرجوع الى هذه الوثائق التاريخية يساعد على وضع انتشار الأوبئة في اطار زمني عام واطار جغرافي واسع يمكن من وجهة نظر نسبية.

أغدا ألقاك؟

لا أحد يمكن له أن يتعرف على المستقبل ولا ما يخفيه قادم الأيام فهناك أشياء مجهولة ويمكن أن تدخل على الخط  ان إيجابية أو سلبية-لا أحد يدري- ولكن أعتقد بصفة عامة أن الناس سيعودون الى سائر سلوكاتهم اليومية...وعند الناس قدرة غريبة في التجاوز لأنها الضامن في تواصل الحياة... لكن الصدمة التي تلقتها البشرية ستزيد حتما من سلوكات الوقاية والحذر والحيطة التي قد تستمر لمدة طويلة من الزمن حتى بعد القضاء عل فيروس الكورونا... لأنه لا شك أن فيروسات أخرى ستعبث بالإنسانية في مناسبات قادمة لان هذه الثغرة فتحت ولن تنسد بسهولة. يجب على الناس التعود على أن عناصر قاتلة في المحيط تتربص بهم.  من المحتمل أن سلوكات التخوف و التثبت و المتابعة وربما الانغلاق على النفس ستنتشر وكذلك بالنسبة للمجتمعات.

فالعناد والتعنت مثل الخوف واليأس ليس الحل أمام هذه الأزمات وكذلك محاولة تفسير كل شيء و التشبث بالتفسير الذي يبدو مقنعا و مريحا...ولى زمن اليقين وحل زمن اللامحدود واللا مؤكد وهذه تجربة جديدة نعيشها جميعا ومعا... الأطفال والشيوخ والنساء والرجال في جميع القارات...و تذكر بأن الانسان واحد والخوف واحد وردود الفعل هي هي ...ولعل الرجوع الى تاريخ هذه المحن انارة للسبل. لكن ليس كل الأشخاص قادرين على خوض هذه التجربة والخروج منها باقل الأضرار لذلك وجب الاحتياط والحذر وأخذ جميع الاحتياطات اللازمة لمرافقة الذين هم في حاجة الى ذلك وتقديم الاعانة والنصيحة والمتابعة واستباق المخاطر كما هو الحال أحيانا في بعض البلدان وبعض الجهات (هاتف أخضر للرعاية النفسية والاجتماعية مثلا) وتطويق ما بعد الأزمة بالقدر المستطاع.

نورالدين كريديس
 كاتب و أخصائي نفساني


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.