أخبار - 2022.02.23

على أطلال قرطاج...

على أطلال قرطاج...

تعريب علي الجليطي - اطلعنا في الأعداد الماضية على حلقات من محاضرة الطبيب السويسري الدكتور بول لوي لادام  (Paul Luis Ladame) الذي زار تونس ربيع سنة 1896 في إطار مشاركته في مؤتمر قرطاج الذي عقدته الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة. وبعد عودته إلى سويسرا قدم الطبيب خلاصة حول مسار رحلته  أمام أعضاء جمعية الجغرافيا بجنيف في جلستها المنعقدة يوم 9 افريل 1897 تحت عنـــوان: تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة.(1)
واليوم نواصل  الاطلاع على أحوال تونس في عهد ولى وانقضى بعيون أجنبية لا تفوتها شاردة ولا واردة مثل هذا الطبيب الرحالة، مع لفت انتباه القارئ الكريم إلى ما تضمنته هذه المحاضرة من مواقف وعبارات قد تبدو في بعض الأحيان سلبية وربما حتى عنصرية، ولكن وضع النص في موقعه وفي سياق وإطاره التاريخي، قد يخفف من تلك النظرة المعادية والمتعالية. وعلاوة على بعض الملاحظات التي أضفتها أسفل الصفحات لمزيد التوضيح والبيان، فاني أعوّل على ذكاء القارئ وفكره الثاقب لترك الشوائب وفرز الغث من السمين والخروج من المحاضرة بما يفيد منها.

على مقربة منا وفي نفس الاتجاه، نرى على اليمين بحيرة تونس التي يطلق عليها العرب اسم البحيرة أو "البحر الصغير"، والتي يفصلها عن خليج قرطاج شريط برّي تبرز في نهايته البيوت البيضاء لحلق الوادي. وفي قاعدة شبه الجزيرة هذه، تلمع بركتان من المياه والتي تمثل على حافة البحر كل ما تبقى اليوم من الموانئ القديمة لقرطاج.

تعتبر إحدى البركتين، وهي تقريبًا في شكل دائرة حيث يمكن رؤية جزيرة صغيرة في منتصفها، آخر بقايا الميناء العسكري البونيقي الشهير (أو كوثون)، والذي لا يمكن الولوج إليه إلا بالمرور عبر الميناء التجاري. في تلك الجزيرة وقف الأميرال، أو سوفيت البحر(2)، قائد البحرية القرطاجية.  ووفقًا للوصف الذي قدمه المؤرخ أبين (Appien) والمذكور من قبل السيد جاستون بواسييه (Gaston Boissier) في كتابه الممتع عن إفريقيا الرومانية، فان قصر قيادة البحرية كان عاليا جدًا بما يمكّن من مراقبة ليس فقط الموانئ ولكن البحر أيضًا.

ويشكل المنفذ التجاري شريطا بيضاوي الشكل ممتدًا إلى حد ما. ولازال ممكنا للمرء أن تتجلى له في البحر بقايا كبيرة نسبيا من الرصيف الذي كان يحمي مدخله من الرياح الشرقية الأكثر عنفًا في هذه المنطقة. ويتكون الرصيف من كتل كبيرة من الجرانيت والخرسانة موضوعة على شكل مروحة على بعد حوالى مائة متر أمام مدخل الميناء. ويعتقد بعض المؤلفين أنه يمثل الحاجز الذي بناه سيبيون لسد منفذ قرطاج من جهة البحر.

في حي قريب من البحر، يسميه العرب درمش، توجد أطلال كبيرة يبدو أنها تنتمي إلى الحمامات الحرارية التي بناها أو أعاد بناؤها أنتونينوس التقيّ (Antonin le pieu)، وفق ما يفيده نقش تم العثور عليه هناك سنة 1885. وغير بعيدة عنه، توجد صهاريج البرج الجديد التي تتصل عبر مجاري تحت الأرض بالحمامات الحرارية. وقد تم بناؤها بالكامل برصف حجري مغطى بالإسمنت بقوة شديدة لدرجة أنه لم يتأثر إطلاقا بمرور الزمن. وتنقسم هذه الصهاريج،  التي تتسع لـ25 ألف متر مكعب من المياه، إلى 18 خزّانًا مقببًا بعمق 9 أمتار. وقد قامت إدارة الأشغال العامة مؤخراً بترميم هذه الخزانات التي تمد بمياه الشرب سكان حلق الوادي وقرى الكرم وخير الدين. وتترك هذه الصهاريج انطباعًا مذهلا حيث تُسمع منها أصوات مياه قناة زغوان التي يردّد صداها من بعيد، تحت الأقبية المظلمة، خريرا مهيبا. فأطلق عليها العرب اسم "آبار الشياطين". هذا هو المعلم الأكثر فضولًا في آثار قرطاج. وعندما نصعد على الجانب الآخر من الهضبة، توجد صهاريج قديمة أخرى من أصل بونيقي، أقيمت فوق أقبيتها قرية المعلقة العربية، وباتت إلى حد كبير بدون شكل أو ممتلئة بالتربة. وكانت تتألف من 24 خزانًا كبيرًا في شكل متواز. ولا يزال بإمكاننا اليوم تمييز بقايا 14 منها فيما اختفت الخزانات الأخرى تماما. وبالقرب من القرية، لا يزال المسرح الروماني، الذي اختفت جميع الأحجار منه، على شكل حفرة بيضاوية الشكل بعمق 4 إلى 5 أمتار. وقد نصب الكاردينال لافيجيري عمودًا وسط هذا الموقع يعلوه صليب تخليداً لذكرى العديد من الشهداء المسيحيين الذين رووا بدمائهم ترابه. وفي هذا الموقع أيضا، إلى جانب مسائل أخرى، تم يوم 7 مارس 202 إلقاء القديستين "بيربيتوا" و"فيليسيتي" كفريستين للوحوش.

حذو بيرصا، نجد هضبة جونو عشتروت(3) (Junon l'Astarté)، حيث الإلهة العظيمة تانيت للقرطاجيين. وعلى منحدرات هذا التل، تم العثور على بقايا أقبية أوديون التي تم بناؤها، وفقًا لما ذكره ترتليان (Tertullien)، تحت ولاية فيتيليوس أو فيجيليوس صاتيرنينوس (Vitellius Saturninus)(4) سنة 180 بعد الميلاد. وقد سلطت أبحاث الأب دلاتر الضوء على أنقاض كنيسة ضخمة من زمن قرطاج المسيحية، تُعرف بـ"داموس الكاريطا". وأدت الحفريات التي أجريت في هذه الآثار إلى اكتشاف عدد كبير من البقايا التي تهم حصرا النقوش وآثار العصور الأولى للمسيحية. ومن المفترض أن القديستين فيليسيتي وبيربيتوا قد دفنتا في هذه الكنيسة.

انتهت رحلتنا إلى قرطاج بزيارة متحف بيرصا الثريّ الذي أسسه الكاردينال لافيجوري سنة 1875 ويديره اليوم الأب ديلاتر. ويتم إثراء هذا المتحف كل يوم باكتشافات جديدة. وهو يحتوي بالفعل على العديد من القطع المثيرة للاهتمام للغاية والتي تنقسم إلى ثلاث فئات: قرطاج البونيقية، قرطاج الرومانية، قرطاج المسيحية. ويوجد في حديقة الكنيسة متحف خارجي حقيقي يضم أربعة أقسام تم فيها ترتيب تيجان وتماثيل وأجزاء من الأعمدة والجِرار ونقوش عادية وأخرى بارزة وفسيفساء وأكوام من قذائف مدفعية تركية وحتى أحجار الرحى وساعات شمسية عتيقة.
بعد استكشاف موقع قرطاج، أتينا لأخذ القطار نحو المرسى حيث يقع القصر الصيفي للباي والمقيم العام وسفراء القوى العظمى. شكلت المرسى جزءًا من الضاحية العظيمة لقرطاج، المسماة ميغارا(5)، والتي كانت مليئة بالحدائق المفصولة بقنوات عميقة وسياج من الصبار الشائك حيث لم يجرؤ سيبون / سكيبيو على ولوجه مع جيشه بعد أن توغل دون مقاومة كبيرة في ضاحية ميغارا. وحتى اليوم توجد حدائق جميلة وأشجار زيتون و أوكالبتوس.

قمنا إذن بزيارة كل المساحة التي كانت تحتلها سابقًا قرطاج، وهي واحدة من أهم وأكبر مدن العصور القديمة. واليوم فهي صحراء تنمو فيها الأشواك والقرّاص (الحرّيقة). ولا توجد شجرة واحدة يمكن رؤيتها، فقط بضع حقول هزيلة من الشعير والفول زرعها عرب الصهاريج. وحولها البرْوَق الحزين وهو نبات تختص به الخرائب والمقابر، وحواجز الصبار التي تظهر من هنا وهناك ثمارها الحمراء، ذاك التين الشوكي الذي يتغذى منه العرب، ونبات الفربيون، وقليل من شقائق النعمان، والخيميات الصفراء، وبقلة الملك، وحشائش الكلاب، تلك هي النباتات التي تعرّفت عليها أثناء تنقلي فوق هذه الأرض القديمة. ومع ذلك، لم نواجه أي أثر لكائنات حية، باستثناء راع عربي صغير بائس يطارد، بالقرب من المعلّقة، اثنتين أو ثلاثة من الماعز الهزيلة كانت ترعى نُتفا من العشب المتناثرة التي تنمو في هذه الأرض البائرة بالكامل تقريبًا.

تعريب علي الجليطي

(1) نشرة عدد 1 مقتطف من محاضر جلسات الجمعية/ دورة 1896-1897/جلسة 9 أفريل 1897 برئاسة السيد إذ. دوفرين Dr Ed. DUFRESNE المرجع: المكتبة الوطنية الفرنسية/ مجلة الكرة الأرضية (LE GLOBE) صحيفة جغرافية- لسان حال جمعية الجغرافيا بجنيف/المجلد السادس والثلاثون الحلقة الخامسة.

(2) سوفيت او شوفت أو شوفط هو لقب قديم معناه القاضي، وأصله سامي قديم أستخدم اللقب في فينيقيا  و قرطاج.

(3) جونو هي زوجة جوبيتر كبير الآلهة في الأساطير الرومانية وبصفتها تلك فقد كانت كبيرة الآلهة وأكثرهم  نفوذاً. وقد أدَّت الدور نفسه الذي أدتًّه الإلهة هبرا في الأساطير الإغريقية.

(4) اسرة فيتيليوس منحدرة من روما القديمة التي أشرفت على الإمبراطورية الرومانية . وقد تولى الولاية في البداية اوليس فيتيليوس عم الإمبراطور فيتيليوس. 

(5) جاء ذكر "ميغارا' في الرواية  التاريخية "صلامبو" للكاتب غوستاف فلوبار التي تدور أحداثها في قرطاج إبان ثورة المرتزقة 241-237 قبل الميلاد  وتنطلق الرواية (بحفل انتظم في ضاحية قرطاج  بميغارا وسط حدائق اميلكار).

قراءة المزيد

رحلة الدكتور السويسري "بول لوي لادام" إلى تونس ومداخلته سنة 1897 أمام جمعية الجغرافيا بجنيف

تونس زهرة الشرق...

تونس: جولة في المدينة العتيقة...

جولة في ضواحي مدينة تونس...


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.