جولة في ضواحي مدينة تونس...
تعريب علي الجليطي - اطلعنا في الأعداد الماضية على حلقات من محاضرة الطبيب السويسري الدكتور بول لوي لادام (Paul Luis Ladame) الذي زار تونس ربيع سنة 1896 في إطار مشاركته في مؤتمر قرطاج الذي عقدته الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة. وبعد عودته إلى سويسرا قدم الطبيب خلاصة حول مسار رحلته أمام أعضاء جمعية الجغرافيا بجنيف في جلستها المنعقدة يوم 9 افريل 1897 تحت عنـــوان: تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة(1).
واليوم نواصل الاطلاع على أحوال تونس في عهد ولى وانقضى بعيون أجنبية لا تفوتها شاردة ولا واردة مثل هذا الطبيب الرحالة، مع لفت انتباه القارئ الكريم إلى ما تضمنته هذه المحاضرة من مواقف وعبارات قد تبدو في بعض الأحيان سلبية وربما حتى عنصرية، ولكن وضع النص في موقعه وفي سياق وإطاره التاريخي، قد يخفف من تلك النظرة المعادية والمتعالية. وعلاوة على بعض الملاحظات التي أضفتها أسفل الصفحات لمزيد التوضيح والبيان، فاني أعوّل على ذكاء القارئ وفكره الثاقب لترك الشوائب وفرز الغث من السمين والخروج من المحاضرة بما يفيد منها.
دعنا الآن نغادر مدينة تونس للقيام بزيارة باردو وأطلال قرطاج وميناء بنزرت. كان باردو قصرًا سابقًا للباي، وقد تم هدمه جزئيًا فيما خصص جزء آخر لمتحف الآثار التي عُثر عليها في الايالة. يحتل المتحف العلوي الحريم السابق للباي الذي تم افتتاحه يوم 7 ماي 1888 وما انفك يتطور منذ ذلك الحين. تحتوي المجموعات على أشياء من مصادر متنوعة للغاية، ونقوش بارزة، وتماثيل، وفسيفساء. والعديد منها رائع للغاية، على غرار لوحة ديونيزوس وهو يتبرع بالكرمة للملك إيكاريوس، أو لوحة حضرموت، ونبتون على عربة تجرها خيول البحر برفقة عرائس البحر والتريتون والنيريد بما يشكل أرضية القاعة الكبرى للأفراح. وتعتبر فسيفساء حضرموت بالتأكيد أكبر فسيفساء محفوظة في متحف. ومن المستحيل إعطاء فكرة كاملة عن كل الثروة المتراكمة في المتحف العلوي والتي استعرض تاريخها السيد جوكلر، مقتصرا على الإشارة لأعضاء المؤتمر إلى القِطَع أكثر إثارة للاهتمام. وهذه المجموعات المهمة هي حاليًا موضوع نشرية بقطع الربع مع لوحات ونقوش، محررة من قبل الوزارة الفرنسية للتعليم العمومي.
وراء متحف باردو ووسط بستان برتقال، نجد قصر السعيد حيث جرى توقيع معاهدة تم فيها وضع تونس تحت حماية فرنسا يوم 12 ماي 1881 بعد حملة عسكرية قصيرة. ويمكن العثور على وصف تفصيلي لهذا القصر في المؤلَف المعتبر جدا للسيد بافي (Pavy) الكاتب العام لمعهد قرطاج بعنوان "تاريخ تونس". ومن بين الجمعيات الفرنسية العديدة والمهمة التي تم تأسيسها في تونس، يحتل بلا شك معهد قرطاج المرتبة الأولى. فقد تأسست هذه الجمعية سنة 1893 تحت اسم الجمعية التونسية للآداب والعلوم والفنون. ومنذ جانفي 1894، أصدرت "المجلة التونسية" «Revue tunisienne»، وهي نشرية تابعة لمعهد قرطاج وتتبادل معها جمعيتنا المعلومات. وقد عثرتُ في هذه المجلة على العديد من المقالات حول كثير من الموضوعات المتنوعة، والتي يجد فيها جميع المهتمين بتونس ما يفيدهم ويلبي حاجتهم.
نظم معهد قرطاج، الذي بادر بعقد مؤتمر الجمعية الفرنسية بتونس، رحلة إلى آثار المدينة القديمة. وكانت هذه الرحلة مميزة بفضل الطقس الرائع وكذلك بفضل أدائها تحت قيادة أكفأ علماء الآثار في تونس، الأب ديلاتر (Delattre) مدير متحف قرطاج، الذي قام باكتشافات جميلة جدا في هذه الآثار، والسيد غوكلر (Gaukler) مفتش الآثار والفنون في الايالة، المعروف سابقا. وسوف نتبع توضيحات هؤلاء العلماء للحصول على المعلومات التي نمتلكها في الوقت الحاضر عن قرطاج، وفقًا لأحدث الحفريات التي أجريت في أنقاضها، حيث لا يمكن إن يكون لدينا أدلة أفضل منهم.
تم وضع قطار خاص من الشركة الإيطالية للمشاركين في المؤتمر. يسير خط السكة الحديدية أولاً حذو بحيرة تونس حيث تصطف، مثل الجنود الروسيين في زي زاه موحد، مجموعات طويلة من طيور النحام الوردية مما يشكل سدًا تلقى فيه الأسماك حتماً حتفها. سنترك خط حلق الوادي على اليمين ونصل إلى بيرصا الشهيرة في سفح هضبة قرطاج التي تسلقناها بسرعة انطلاقا من نزولنا بمحطة المعلقة. وسيشعر المرء حينئذ بخيبة أمل كبيرة إذا ما تخيل أنه سيجد نفسه وسط أنقاض حقيقية.
في الواقع، وبدون أدنى شك في أن أقدامنا وطأت أنقاضَ مدينةٍ عظيمة، فنحن في وسط المدينة البونيقية القديمة التي تعدّ حسبما يقال 700 ألف نسمة. وعندما نفكر بأن قرطاج، التي دمّرها تماما سيبيون(2)، قد أعيد بناؤها في ظل الإمبراطورية وأصبحت العاصمة المزدهرة لمقاطعة إفريقيا، فأننا تتساءل كيف من الممكن ألا يتبقى أي شيء، أو لا شيء تقريبًا، من قرطاج الرومانية. لقد أصبحت أنقاض قرطاج لقرون طويلة بمثابة مصدر لا ينضب لبناء المدن المجاورة. ففي تونس، يجد المرء في جدران العديد من المنازل صفا من الأعمدة وبقايا من رخام قرطاج. وفي قسنطينة، تم بناء قصر أحمد باي من أثار هذه المدينة التعيسة. وجاء الإيطاليون بدورهم لاستغلال هذا المقطع الحجري الذي لا يضاهى، حيث يُذكر أن قصورا في بيزا وجنوة تم بناؤها بالكامل بالرخام وبعض أجزاء الأعمدة وتيجانها التي عثروا عليها في قرطاج.
هذا هو السبب في أن الحفريات لم تسفر حتى الآن إلا عن نتائج قليلة. ومع ذلك، فإن الأبحاث الدؤوبة من قبل الأب دلاتر سمحت بشكل مؤكد تحديد بعض مواضع قرطاج القديمة. ومن أكثر اكتشافاته إثارة للاهتمام مقبرة بيرصا. ومن المؤكد أن قمة هذه الهضبة، حيث تقع كاتدرائية سانت لويس أو كاتدرائية الكاردينال لافيجيري، تم تسويتها بالتأكيد منذ العصر الروماني، لأن الأرض الحالية هي اليوم على نفس مستوى أسس الصهاريج القديمة التي تم العثور عليها أثناء بناء الكنيسة.
وهناك اعتقاد بأن هذه المنطقة شهدت اكتشاف بقايا صخور معبد أشمون(3) وأسكولابيوس القديم الذي توّج أكروبول بيرصا. وكشفت الحفريات التي أجريت على هذه الهضبة أيضًا عن العديد من المقابر البونيقية، لذلك خلص الأب ديلاتر إلى أن بيرصا كانت بمثابة مقبرة للقرطاجيين الأوائل، قبل أن تحتلها قلعتهم المدهشة ، لتصبح الأكروبول المذكور.
يبدو المنظر من أعلى هضبة بيرصا رائعا حقًا. وقد نوّه به جميع المسافرين منذ أن وصفه شاتوبريان في "خط سير الرحلة من باريس إلى القدس". وعلى اليسار، أي إلى الشمال الشرقي، يبرز رأس سيدي بو سعيد متقدما في البحر بفضل منازله البيضاء. وفي المقابل، يتسع خليج تونس تدريجياً من جهة عرض البحر حيث تتلاشى حدوده في الأفق لتندمج مع زرقة السماء. على الطرف الآخر من الخليج، توجد سلسلة من الجبال ذات الأشكال المختلفة، منها جبل قربص التي ينبع عند سفحها العديد من العيون الساخنة، ثم جبل بوقرنين ذو الصخور الحمراء التي تنتهي قمتها برأسين، والذي يهيمن على قاع الخليج نحو الجنوب. خلفه بقليل، يحتوي جبل الرصاص بألوانه الفضية على مناجم من هذا المعدن التي سبق أن استغلها الرومان. وأبعد من ذلك، في اتجاه الجنوب الغربي، يبدو لنا جبل معزول ولكن واضح في الأفق من خلال لونه المائل إلى الزرقة مرتفعا مثل الهرم في منتصف السهل. إنه جبل زغوان الذي تنبثق منه الينابيع التي تزود بالماء تونس وخزانات قرطاج عبر قناة أدريان الشهيرة(4) التي يبلغ طولها أكثر من مائة كيلومتر. وعلى الرغم من أن ارتفاعه لا يكاد يتجاوز ارتفاع جبلنا صاليف العظيم (Salève) (1340 م)، فإن جبل زغوان هو أشهر جبل في تونس. هناك أشعل أغاتوكليس، طاغية سيراكيوز(5) وسلف سكيبيو، حرائق كبيرة في عام 307 قبل الميلاد، الأمر الذي أرعب كلا من جيوش قرطاج وحضرموت أي سوسة الحديثة، وهو ما ضمن له النصر آنذاك.
تعريب علي الجليطي
(1) نشرة عدد 1 مقتطف من محاضر جلسات الجمعية/ دورة 1896-1897/جلسة 9 أفريل 1897 برئاسة السيد إذ. دوفرين Dr Ed. DUFRESNE المرجع: المكتبة الوطنية الفرنسية/ مجلة الكرة الأرضية (LE GLOBE) صحيفة جغرافية- لسان حال جمعية الجغرافيا بجنيف/المجلد السادس والثلاثون الحلقة الخامسة.
(2) أو شيبيون الإفريقي ) وتُكتب أيضًا سكيبيو الإفريقي) باللاتينية (Scipio Africanus) ) أو سكيبيو الكبير أو أفريكانوس الكبير ( 240 ق.م - 183 ق.م) قنصل وقائد روماني اشتهر بانتصاره على حنبعل في معركة زاما التي حسمت الحرب البونيقية الثانية ، ومن هنا اكتسب لقبه "الإفريقي"، كما يلقب بـ"حنبعل الروماني.
(3) "اشمون" هو إلاه الشفاء وتجدد الحياة عند الفينيقيين. عرف هذا الإله في العصر الحديدي في صيدا وكان يُعبد أيضاً في صور وقبرص وسردينيا وبيروت وقرطاج، حيث احتل موقع معبد أشمون من قبل كاتدرائية القديس لويسس بقرطاج أما أسكولابيوس أو أسقليبيوس هو بطلٌ وإلهٌ للطب في الديانة والاساطير اليونانية القديمة. وكان واحدًا من أبناء أبوللو ، تشارك معأبوللو على لقب ("الشافي") وتعد عصا اسكليبيوس التي يلتف حولها الثعبان من الرموز التي استخدمت اليوم كرمز للطب.
(4) هي واحدة من أهمّ الشّواهد التّاريخية بهندستها المعمارية الرومانية التي تعود إلى القرن الثاني للميلاد، بنيت في عهد الإمبراطور هدريانوس. ومنها يتم إيصال المياه إلى قرطاج عبر الحنايا، إضافة إلى تدخلات الصيانة والتطوير في عهد المستنصر بالله الحفصي.
(5) مدينة في جزيرة صقلية تقع في الساحل الجنوبي الشرقي لها. وهي عاصمة مقاطعة سرقوسة.
قراءة المزيد
رحلة الدكتور السويسري "بول لوي لادام" إلى تونس ومداخلته سنة 1897 أمام جمعية الجغرافيا بجنيف
تونس: جولة في المدينة العتيقة...
- اكتب تعليق
- تعليق