أخبار - 2025.12.15

محمد ابراهيم الحصايري: قراءة في قرار مجلس الأمن رقم 2803

محمد ابراهيم الحصايري: قراءة في قرار مجلس الأمن رقم 2803

منذ الوهلة الأولى، أعتقد أن أبلغ وصف يمكن أن أصف به القرار الذي أصدره مجلس الأمن تحت رقم 2803 بتاريخ 17 نوفمبر 2025، هو أنه قرار "خطير خبيث"، بل في غاية الخطورة والخبث، وذلك لأنه، كما أسلفت القول في مقالي الصادر في موقع "ليدرز العربية" في 26 نوفمبر 2025 تحت عنوان "في خطورة قرار مجلس الأمن رقم 2803"، يؤسس لشكل مُبْتَكَر من "الاستعمار المعاصِر" الذي يختلف عن الاستعمار القديم بأنّه مُقَنَّنٌ لأنّ منظمة الأمم المتحدة وبالتحديد مجلس الأمن وافق عليه، كما إنه يمثل سابقة من المرجَّحِ أن تتكرّر في المستقبل في أماكن أخرى من منطقة الشرق الأوسط والعالم، سواء بِيَدِ الولايات المتحدة الأمريكية التي صاغت مشروعه ومرّرته بشتى الضغوط والمساومات، أو بأيْدي بعض القوى الدولية وحتى الإقليمية الأخرى...

ومما يبرّر هذا الترجيح ويؤيّده أنّ قطاع غزّة بقدر ما كان منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى اليوم "مُخْتَبَرًا" لحرب إبادة جرّبت إسرائيل خلالها، بدعم مطلق من الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية، أشدّ الأسلحة الأمريكية والأوروبية فتكا بالبشر، وتدميرا للحجر، سيتحول بالقرار 2803 إلى "مُخْتَبَرٍ" لمدى إمكانية فرض هذا الشكل الجديد من الاستعمار المعاصر على كل من تسوّل له نفسه مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي شَرَع، عمليّا، في التوسّع على حساب القطاع والضفة الغربية والدول المجاورة من أجل تجسيم حلمه بقيام "إسرائيل الكبرى"، أو الوقوف في وجه سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط التي تعتبر أحد أحجار الزاوية في الاستراتيجية التي تتوخّاها من أجل الحفاظ على "علوّها العالمي" الذي بات مهدّدا بصعود أو عودة عدد من القوى الدولية الرافضة للأحادية الأمريكية الغربية والمتمرّدة عليها، وهو ما عبّرت عنه "استراتيجية الأمن الوطني" الأمريكي التي تم نشرها مؤخرا وجاء في مستهلّ مقدمتها أنها وُضِعَتْ "لكي تبقى أمريكا الدولة الأقوى والأغنى والأكثر نفوذا والأكثر نجاحا في العالم لعقود قادمة"...

ومؤسفٌ حقّا أن منظمة الأمم المتحدة انجرَّت أو جُرَّتْ جَرًّا، مرّة أخرى، إلى الموافقة على هذا القرار رغم أنه قرار يتضارب، بشكل صارخ، مع مقاصدها كما جاءت في المادة الأولى من ميثاقها وفي صدارتها مَقْصَدُ "حفظ السلم والأمن الدولي"، من خلال "اتخاذ التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدّد السلم ولإزالتها، ولقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم"، ومَقْصَدُ "إنماء العلاقات الودّية بين الأمم على أساس احترام المبدإِ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها"...

ثم إن القرار يتناقض مع "مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضاء المنظمة"، ومع مبدإِ التزام جميع هؤلاء الأعضاء بـ"فضّ منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر" وبـ"الامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أيّ وجه آخر لا يتفق ومقاصدها".

وهو إلى ذلك يجرّد المنظمة من الدور الذي أوكله لها الميثاق حين نصَّ على أنها تمثل "مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك الغايات المشتركة" التي قامت من أجلها وذلك من خلال السهر على "تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء".

ثم إنّ القرار يتحدث عن فرض "وصاية دولية" على قطاع غزّة، لكنه يتجاهل ما جاء في الفصل الثاني عشر من الميثاق بموادّه الإحدى عشر، من مقتضيات تتعلق بشروط إنشاء ما يسمى بنظام الوصاية الدولي الذي نصت عليه المادة 75 وأكدت على أنّ إنشاءه يتم تحت "تحت إشراف" المنظمة الأممية.

وهنا بالتحديد يتجلى "خبث القرار" الذي يحاول الإيهام بأن ما تريد الولايات المتحدة القيام به في القطاع هو "وصاية دولية"، في حين أنّ الواقع يدلّ على أنه "وصاية أمريكية" بحتة، ولا علاقة له بالوصاية الدولية كما يقرّرها الميثاق، بل إن لفظة "وصاية" لا تنطبق عليه أصلا، لأنه كما أسلفت، ليس سوى صيغة جديدة من الاستعمار في شكله المعاصر...

ومن المهم، في هذا السياق، أن نشير إلى أنّ الجزائر اضطرت إلى تفسير تصويتها "المفاجئ" لفائدة القرار، في مرافعة مطوّلة على لسان وزيرها للشؤون الخارجية، بينما أكّدت روسيا، على لسان مندوبها لدى الأمم المتحدة، أنها "لا تستطيع أن تدعم القرار لأنه يفتقر إلى الوضوح الزمني بشأن نقل قطاع غزة إلى سلطة فلسطينية، ولأنه قد يُكرّس فصل القطاع عن الضفة عبر نشر قوة دولية في القطاع وحده، كما إنه لا يتوافق مع حلّ الدولتين، هذا إلى جانب ما سمّته "غياب أي دور رقابي للأمم المتحدة على وقف إطلاق النار".

وبدورها أكّدت الصّين أن القرار يشكّل مصدرَ قلق بالغ بالنسبة إليها لأنه غير واضح وغير مفصّل، لاسيما وأنه لا يؤكد صراحة على حلّ الدولتين باعتباره إجماعاً دولياً، كما إنه يتضمّن ترتيبات للحكم في قطاع غزة بينما "تبدو فلسطين غير مرئية فيه".

ومع ذلك فإنّ الدولتين آثرتا عدم استخدام حق النقض الذي كان من شأنه أن يمنع صدور هذا القرار، وهو ما يدعو إلى الاستغراب وفي نفس الوقت إلى التساؤل عن الأسباب الخفية التي قد تكون كامنة وراء هذا الموقف...

وفي هذا النطاق لا يستبعد بعض المحلّلين أن يكون السبب الأساسي هو أنّ كلاّ من روسيا والصين قد تكونان مرّرتا القرار لأنهما قد تلجآن، مستقبلا، إلى استغلال هذه السابقة في معالجة بعض المسائل التي تهمّهما...

وبقطع النظر عن مدى صحة هذا التحليل، فإنّ المؤكَّد أن السابقة التي كرّسها القرار ستكون لها امتداداتها وارتداداتها المستقبلية على الأصعدة الدولية والفلسطينية والعربية...

وبداية وعلى الصعيد الدولي، أولا، فإنّ القرار سيفاقم، حتما، من تآكل مصداقية منظمة الأمم المتحدة التي برهن مجلس أمنها، مرة أخرى، على أنه أمينٌ مؤتَمَنٌ، لا على الميثاق الأممي ومبادئه، وإنما على مصالح ومآرب القوى الدولية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.

وهو إلى ذلك سيؤدي إلى تحجيم دورها في معالجة الأوضاع الدولية التي يبدو أنها مقبلة على فترة غير مسبوقة من التقلّب والاضطراب والفوضى.

ثم إنّ القرار سيشكّل، خاصة إذا توصّلت الولايات المتحدة إلى تجسيمه ميدانيا، سابقة ليس من المستبعد ان تكرّرها مستقبلا في أكثر من مكان من العالم لا سيما وأنّها دشّنت، منذ بداية الولاية الثانية لرئيسها غريب الأطوار دونالد ترامب، توجّها يقوم على  شعار "فرض السلام بالقوة"،  وأعادت تسمية وزارة دفاعها بوزارة الحرب، وقد شرعت فعلا في تطبيق هذا التوجّه من خلال دعمها المطلق لتوحّش إسرائيل وتغوّلها، ومن خلال ضربها لليمن وإيران، وتهديدها، حاضرا، بشن حرب على فنزويلا، وذلك بعد أن كانت أعلنت عن استحواذها على قناة باناما، وعن إعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أمريكا، وكشفت، بكل صلف، عن عزمها على الاستيلاء على جزيرة غرينلاند، ولو بالقوّة العسكرية...

وأمّا على الصعيد الفلسطيني، ثانيا، فينبغي أن نلاحظ بادئ ذي بدء أن القرار يهدف، في خاتمة المطاف، ومثلما ورد، حرفيًّا، في "الخطة الشاملة لإنهاء النزاع في غزة" التي وضعها الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب، إلى أن "تكون غزّة منطقة منزوعة التطرف، وخالية من الإرهاب، ولا تشكل تهديداً لجيرانها".

وحتى يتسنّى تحقيق هذه الغاية فإنّ القرار، جاء، بالرغم من التعديلات التي أُدْخِلَتْ على مشروع صيغته الأمريكية الأولى، مفخَّخًا، ومُزْدحمًا بالخُدَعِ التي يُخْشَى أن تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وأن تذهب بالبقية الباقية من حقوق الشعب الفلسطيني وذلك للأسباب التالية:

أولا: طبيعة المهام التي ستضطلع بها الهيئات المزمع إنشاؤها بموجب القرار 2803

ومعلوم أنّ القرار أذِنَ بإنشاء أربع هيئات هي التالية:

أ/ مجلس السلام (Board of Peace/Bop) وهو عبارة عن "إدارة انتقالية ذات شخصية قانونية دولية" ستوكل لها مهمة وضع الإطار وتنسيق التمويل لإعادة تطوير غزة وفقاً للخطة الشاملة لإنهاء النزاع في القطاع وبما يتفق مع مبادئ القانون الدولي ذات الصلة... ومعلوم أن الرئيس الأمريكي غريب الأطوار الذي جاء بفكرة إنشاء هذا المجلس نصّب نفسه رئيسا عليه، وسيقوم باختيار أعضائه الذين أشار، في مرحلة ما، إلى أن سيّء السمعة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير سيكون أحدهم.

ب/ قوة استقرار دولية مؤقتة (Temporary International Stabilization Force) ستنشر تحت قيادة موحّدة "مقبولة لدى مجلس السلام" الذي يترأسه الرئيس الأمريكي غريب الأطوار في قطاع غزة لتتولى تحقيق الاستقرار فيه، وستقوم الولايات المتحدة بتكوين هذه القوة وتطويرها مع الشركاء العرب والدوليين، وهي ستتألف من الدول المشاركة في "مجلس السلام" وذلك بالتشاور والتعاون الوثيقين مع جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل.

أما مهمتها فهي تتمثل في ضمان نزع السلاح في القطاع، بما يشمل تدمير البُنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية ومنع إعادة بنائها، وكذلك الإخراج الدائم للأسلحة من الخدمة من قبل الجماعات المسلحة من غير الدول، وحماية المدنيين، بما في ذلك عمليات العمل الإنساني، وتدريب قوات الشرطة الفلسطينية المُدَقَّقَة وتقديم الدعم لها، والتنسيق مع الدول المعنية لتأمين ممرات إنسانية، والاضطلاع بما يلزم من مهام إضافية دعماً للخطة الشاملة.

ولقد "كاد المريب أن يقول خذوني" حين حرص القرار على التأكيد على أن هذه القوة ستتخذ، من أجل الاضطلاع بمهمتها، "جميع التدابير اللازمة بما يتّسق مع القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني".

ج/ قوّة شرطة فلسطينية جديدة على أن تكون قوة مُدرَّبة ومُدَقَّقًا في أفرادها، وأن تعمل مع إسرائيل ومصر، ومع قوّة الاستقرار الدولية المؤقتة وذلك للمساعدة في تأمين المناطق الحدودية، واستقرار البيئة الأمنية في غزة، لا سيما من خلال منع دخول الذخائر إليها، وتيسير تدفّق السّلع بسرعة وأمان لإعادة بنائها وإنعاشها.

وستقوم قوة الاستقرار الدولية المؤقّتة بتدريب ودعم هذه القوة التي يكون جرى التحقق من أهليتها، بالتشاور مع الأردن ومصر لما لهما من خبرة واسعة في هذا المجال.

ويؤكد القرار أن قوة الشرطة الفلسطينية ستكون هي الحل الأمني الداخلي طويل الأمد.

والى ذلك يضيف القرار أنّه سيتم الاتفاق على آلية لتجنب الاشتباك بين الأطراف.

د/ لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية ستتولى خلال الفترة الانتقالية تسيير الخدمات العامة والبلديّات لسكان غزة، وتضم مختصين فلسطينيين وخبراء دوليين، تحت إشراف "مجلس السلام".

وبالرغم من أن القرار نص في نقطته الثامنة على أن "مجلس السلام، والحضوريْن المدني والأمني الدوليين المأذون بهما بموجبه، سيظلان مفوّضين حتى 31 ديسمبر 2027" فإنه يضيف أنّ ذلك يبقى "رهناً بأي إجراء لاحق من قِبل المجلس (المقصود مجلس الأمن)، وأن أي تجديد لتفويض قوة الاستقرار الدولية المؤقتة سيتم بالتعاون والتنسيق الكاملين مع مصر وإسرائيل والدول الأعضاء الأخرى التي تواصل العمل مع القوة"...

وما يمكن استخلاصه من هذه النقطة أنّ فترة السنتين التي حدّدها قرار مجلس الأمن لولاية الهيئات التي نصّ على إنشائها، لن تكون كافية لاستكمال مهامها، ولذلك فإن التمديد في فترة ولايتها سيكون أمرا ليس فحسب واردا، وإنما ضروريا، وتأسيسا على ما جرى خلال تجارب سابقة عديدة، ربما أصبحت هذه الهيئات في يوم ما، هيئات قارة حسب مشيئة الولايات المتحدة التي ستحتكر، كالعادة، تقييم "عملها" وبالتالي تقرير مصيرها الذي سيكون مرتبطا بما تحققه من الأهداف الأمريكية والإسرائيلية التي اقتضت إنشاءها...

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن ساحل غزة يحتوي على حقول غنية من الغاز الطبيعي التي يسيل لاستغلالها لعابُ إسرائيل والولايات المتحدة، والتي يمكن أن يسهم ريعُها في تمويل إعادة إعمار القطاع، وإذا تذكرنا أن غزة تمثل حلقة أساسية لا غنى عنها لتنفيذ مشروع الممر الذي  يراد له أن يربط بين الهند وأوروبا عبر دول الخليج فالأردن فإسرائيل التي ما فتئت من ناحيتها تحلم بحفر "قناة بن غوريون" لتنافس بها مصر وقناة السويس، وإذا وضعنا في الحساب رغبة  الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب في تحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، فإننا ندرك أن ما يُخَطَّط للقطاع سيتطلب تحقيقه أكثر من جيل لإنجازه، وفي رأيي، فإنّ ما جاء في القرار 2803 بشأن "إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة التي تتمتع بتعريفات جمركية تفضيلية وآليات وصول سيُتفاوض بشأنها مع الدول المشاركة" ليس سوى نقطة الانطلاق في تنفيذ هذا المشروع الضخم.

ثانيا: استبعاد أي دور للسلطة الوطنية الفلسطينية في تنفيذ القرار

بذريعة أن السلطة الوطنية الفلسطينية تحتاج إلى الإصلاح استبعدها القرار من لعب أي دور في تنفيذه.  

والخطير في الأمر أن الخطة الأمريكية تشترط أن تُتِمَّ السلطة الوطنية الفلسطينية "برنامج إصلاحها على نحو مُرْضٍ كما ورد في مقترحات مختلفة، بما فيها خطة السلام للرئيس ترامب لعام 2020 والمقترح السعودي الفرنسي، حتى يتم تمكينها من استعادة السيطرة على غزة بشكل آمن وفعّال".

وهذا الشرط يعني أن السلطة الوطنية الفلسطينية لن تستعيد أبدا هذه السيطرة لأنّ تقييم "إتمام برنامج إصلاحها على نحو مُرْضٍ" سيبقى بيد الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل، وهما لن ترضيا على ما تنجزه السلطة مهما اجتهدت في تنفيذ المطالب الأمريكية الإسرائيلية.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ التغييرات التي سيشهدها القطاع في ظل الهيئات الأربع التي ستتولى تدبير شؤونه وتسييرها ستخلق وضعا جديدا لا يسمح بإعطاء السلطة الوطنية الفلسطينية أي دور مستقبلي في القطاع، هذا إذا تمكنت، في الأثناء، من البقاء على قيد الحياة في خضم كلّ ما يجري في الضفة الغربية التي بدأت إسرائيل العمل حثيثا على إعادة احتلالها كاملة...

ولعلني لا أخطئ إن قلت إن النجاح في إخضاع غزّة غدا، ليس سوى تمهيد لإخضاع الضفة بعد غد...

ثالثا: تكريس استحالة قيام الدولة الفلسطينية

يؤكّد القرار أن شروط بلورة مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية قد تتوافر أخيرا بعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية على نحوٍ أمين وتقدّم أعمال إعادة تطوير غزة...

واستخدام حرف "قَدْ" قبل فعلِ "تتوافر" يعني، بكل وضوح، أن القرار يشكّك، منذ البداية، في إمكانية أن تتوفر الشروط الملائمة والضرورية  لا لقيام الدولة الفلسطينية، وإنما لمجرّد بلورة مسار نحو تقرير المصير، وليس هذا فحسب، بل إنه يردف قائلا: "كما ستُنشئ الولايات المتحدة حواراً بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي للتعايش السلمي والمزدهر"، وواضح من هذا الإِرْدَاف أنّ فكرة الدولة الفلسطينية ملغاة من ذهن الولايات المتحدة، وأن أقصى ما تفكر فيه سيكون البحث عن "صيغة تعايش" بين "شعب الله المختار" وبين "الأغيار الفلسطينيين"، وهي صيغة ثبت على امتداد العقود الثمانية الماضية أنها غير ممكنة،  إلا إذا تخلى  الفلسطينيون عن كافة حقوقهم، وحتى عن معتقداتهم، حيث أن القرار اختار من بين كل القضايا والمسائل التي يُفتَرَض أن يتناولها الحوار بين الجانبين أن ينصّص على "إنشاء  مسار للحوار بين الأديان قائم على قيم التسامح والتعايش السلمي، بهدف تغيير العقليات والسرديات لدى الفلسطينيين والإسرائيليين عبر التأكيد على المنافع المترتّبة على السلام".
وخلاصة القول هي أن كل ما تقدم يعني أن على الفلسطينيين، إذا سمحوا بترجمة ما جاء في القرار 2803 إلى واقع، أن يستعدّوا لتوديع حلمهم بقيام الدولة الفلسطينية المستقلّة.

رابعا: الإيحاء بالتخلي عن فكرة التهجير

جاء في الوثيقة الملحقة بالقرار أنه "لن يُجْبَرَ أحد على مغادرة غزة، ومن يرغب في المغادرة فله الحرية في ذلك والحرية في العودة". 
ويضيف قائلا: "سنشّجع السكان على البقاء وإعطائهم فرصة لبناء غزَّةٍ أفضلَ".

إن هذه الفقرة تَشِي بأنّ فكرة تهجير سكان غزّة إلى مصر وإلى غيرها من الدول المستعدة لاستقبال أعداد منهم، ما تزال تراود ذهن الرئيس الأمريكي وذهن إسرائيل التي أعلنت منذ أيام أنها ستفتح معبر رفح في اتجاه واحد أي في اتجاه الخروج من غزّة إلى مصر دون إمكانية العودة إليها، غير أن الحاجة الماسّة إلى استخدام هؤلاء السكان في "الأعمال الشاقة" التي ستتطلبها عملية رفع الأنقاض، ثم عملية إعادة الإعمار، بأقل كلفة ممكنة،  قد تكون دفعت الأمريكيين والإسرائيليين إلى التخلي، مؤقتا، عن فكرة التهجير أو إرجائها إلى أن تتهيأ الظروف الملائمة لتنفيذها...

وهكذا فإنّ القرار سيمكّن لا فحسب من إخضاع قطاع غزّة لنظام استعماري جديد وإنما أيضا من "استعباد" سكانه في أرضهم بإخضاعهم لنظام شبيه بالسُّخْرة...

خامسا: مسألة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة

جاء في القرار بخصوص هذه المسألة أنه "مع إحكام القوة سيطرتها وإرسائِها الاستقرارَ، تنسحب قوات الجيش الإسرائيلي (يصرّ القرار على استخدام قوات الدفاع الإسرائيلي IDF) من قطاع غزة وفق معايير ومحطات زمنية مرتبطة بعملية نزع السلاح، يتم الاتفاق عليها بين قوات الجيش الإسرائيلي وقوة الاستقرار والضامنين والولايات المتحدة، باستثناء وجود محيط أمني سيظل قائماً إلى حين تأمين غزة على نحوٍ كافٍ من أي تهديد إرهابي متجدّد"...

وهذه الفقرة تؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أن إسرائيل ستبقى في غزّة ولن تغادرها، وهو ما يعني وضع القطاع تحت نير استعمار مزدوج أمريكي إسرائيلي...
وهذا ما تنذر به تطوّرات الوضع في غزّة، وفي الضفة الغربية، إذ بالرغم من أن المقاومة الفلسطينية أوفت بتعهداتها في إطار "الخطة الشاملة لإنهاء النزاع في غزة"، فالتزمت بوقف إطلاق النار، وقامت بتسليم الأسرى وجثث القتلى الإسرائيليين، واصلت إسرائيل التقتيل والتدمير والتجويع إلى الآن، وضربت عرض الحائط بما ترتب عليها، نظريا على الأقل، من التزامات بموجب الخطة المذكورة وبالقرار رقم 2803.

وممّا يدعو إلى القلق والاستياء في نفس الوقت أن "الخطة الشاملة لإنهاء النزاع في غزة" لم تُنْهِ النزاع، وإنما أنْهَتْ، أو على الأقل خفّفت موجةَ الاستنكار والغضب الشعبي التي اجتاحت العالم بأسره والتي بلغت أوجها أياما قبل اعتماد الخطة في قمة "شرم الشيخ"، ثم تكريسها في قرار مجلس الأمن رقم 2803، حتى لقد بات الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب يخشى على إسرائيل من أن تصبح معزولة منبوذة عالميا، ومن أن تعود نزعة ما يسميه الغرب بمعاداة السامية إلى التأجج من جديد...
وهكذا تَأتَّى لإسرائيل أن تتمادى، وسط حالة من تراخي الضمير الانساني المخدوع والمخدّر بوهم "إنهاء النزاع في غزة" بالخطة "الترامبية"، في توحّشها في غزة والضفة الغربية وفي تغوّلها في المنطقة عموما...

والتغول الإسرائيلي في المنطقة هو المدخل للحديث، ثالثا وأخيرا، عن امتدادات وارتدادات القرار رقم 2803 على الصعيد العربي...

إن باكورة هذه الامتدادات والارتدادات تظهر في احتلال إسرائيل لأجزاء من لبنان ومن سوريا بعد سقوط أو في الحقيقة إسقاط النظام السوري السابق، وفي الاعتداءات اليومية التي تشنها على كلتا الدولتين وفي المطالب المجحفة التي تريد فرضها عليهما، بتأييد مطلق من الولايات المتحدة، وذلك على غرار تجريد حزب الله اللبناني من سلاحه حتى وإن أدى ذلك إلى حرب أهلية في لبنان، وتحويل المنطقة الممتدة من دمشق إلى الحدود، إلى منطقة منزوعة السلاح...

وانطلاقا من سابقة "ضم الجولان" التي باركها الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب، فإنه ليس من المستبعد أن تعمد إسرائيل في المستقبل إلى ضم بعض الأراضي اللبنانية والسورية التي احتلتها أو أعادت احتلالها في الفترة الأخيرة...

ثم إنه من المرجّح ألا تكتفي إسرائيل بما قد تقضمه من أراضي لبنان وسوريا، وإنما ستعمل تدريجيا، في إطار سعيها إلى إقامة "إسرائيل الكبرى" وجعل الدولة الإسرائيلية دولة يهودية خالصة، إلى خلق الظروف الملائمة لتهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، وهو ما سيغير خريطة المنطقة ككل.

وكل ذلك سيتوازى مع تكثيف الضغوط الأمريكية والإسرائيلية من أجل توسيع نطاق "الاتفاقيات الإبراهيمية" لتشمل المزيد من الدول العربية والدول الإسلامية أو ذات الأغلبيات المسلمة كما جاء في القرار رقم 2803.

ومما سيشجع إسرائيل على الإمعان في ابتزاز الدول العربية والإسلامية وفي الهيمنة عليها أن هذه الدول هي التي ستقوم بالنيابة عنها بمحاربة وتحريم أي شكل من أشكال المقاومة في فلسطين المحتلة وفي جوارها القريب والبعيد.

وهكذا فإن إسرائيل ستتمكن من تحقيق ما لم تستطع تحقيقه عن طريق حرب الإبادة على قطاع غزة ومهاجمة لبنان وسوريا واليمن وإيران وحتى دولة قطر نفسها، بأيدي فئات من الفلسطينيين والعرب والمسلمين وبأموالهم.

ولا يستبعدنَّ أحد أن يحدث ذلك كله أو بعضه ولو بعد لَأي، فحين نلاحظ أن بعض العرب والمسلمين شاركوا في صنع قرار مجلس الأمن رقم 2803 وفي التحريض على اعتماده وهم يستعدون اليوم للانخراط في تنفيذه، فإننا لا نملك إلا أن نتذكر، بألم شديد، ما جاء في كتاب المفكّر الجزائري مالك بن نبي "شروط النهضة"  حين قال "إن المرء لا يمكن أن يتوقف عن أن يكون مُسْتَعْمَرًا إلا إذا توقف عن أن يكون قابلا للاستعمار...  إن تلك حقيقة راسخة لا تتغير" ...

أجل لقد جاء القرار ليعرّي، مرَّةً أخرى، هذه الحقيقة المُرَّةَ، وليؤكد أن "البيئة في العالمين العربي والإسلامي ما تزال موبوءة بالقابلية للاستعمار"... كما جاء ليكشف عن جملة من المفارقات الصارخة في سلوك بعض العرب والمسلمين الذين يسيئون بانخراطهم في تنفيذه، عن قصد أو غير قصد، إلى ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم...
على أنه بالرغم من كل ذلك، يبقى الأمل قائما في أنّ نفس هذه المفارقات يمكن أن تؤدي، كلما ازدادت تعمّقا، إلى نشوء وعي مضادّ جديد، من شأنه أن يعيد خلط الأوراق وقلب الموازين في المنطقة...

محمد ابراهيم الحصايري
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.