أخبار - 2025.12.15

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، المعهد الفرنسي بصفاقس يحيي ذاكرة النقائش المعمارية في المدينة العتيقة بصفاقس: إذا سكت التاريخ، تكلمت الحجارة!

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، المعهد الفرنسي بصفاقس يحيي ذاكرة النقائش المعمارية في المدينة العتيقة بصفاقس: إذا سكت التاريخ، تكلمت الحجارة!

بقلم رضا القلال (مؤرخ وكاتب صحفي)

138 نقيشة كتابية على الحجر والرخام والخشب

تعدّ النقائش المعمارية من العناصر المهمة في الفن الإسلامي بشكل عام، وفن العمارة بشكل خاص. وتساعدنا هذه النقائش الكتابية في فهم المنشآت المعمارية. يستخدم الخط العربي في العمارة الإسلامية كعنصر للزخرفة والتزيين وكعنصر للذاكرة للتوثيق. وساعد على ذلك طبيعة الخط العربي، وما في حروفه من مرونة وقابلية، لتوظيفه على وجوه شتى، ومن أبرز خصائص الخط الكوفي على سبيل المثال، حروفه المبسوطة ومظهره الهندسي لذلك تم استعماله في الكتابة على النقائش التذكارية المختلفة.

والمتجوّل في أنهج المدينة التاريخية بصفاقس يلاحظ كثرة نقائش الكتابات وتنوعها، خلال العصور الإسلامية المختلفة منها "الكتابة الاغريقية" التي تعود إلى القرن الـ5م على واجهة الجامع الكبير، والتي قد لا نعثر على نظير لها في أي مصدر آخر، إضافة إلى كتابات بخطوط مختلفة.ودأب المعهد الفرنسي بصفاقس، منذ ثلاث سنوات، على إحياء اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف يوم 18 من شهر ديسمبر من كل عام. وقد وقع اختيار اليونسكو على هذا التاريخ بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية، لأنه اليوم الذي اتخذت فيه، الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973، قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة. واللغة العربية يتكلم بها أكثر من 400 مليون نسمة في العالم، وهي لغة رسمية في 22 دولة، واللغة الخامسة الأكثر انتشارا في العالم. كما أن اللغة العربية هي إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، أُضيفت لتنضم إلى الإنجليزية، الفرنسية، الصينية، الروسية، والإسبانية.

تحسن الإشارة إلى أن المعهد الفرنسي بصفاقس، في سياق نشاطه الثقافي البارز، باليوم العالمي للغة العربية للعام الثالث على التوالي، حيث قام:

سنة 2023 بدعوة الاستاذ عبد المجيد الحاج قاسم علاّمة اللغة العربية، وحارسها وفارسها. وهو الأستاذ البارز في لغة "الضاد"، وهو الاسم الذي يطلق على اللغة العربيّة، لاحتوائها على حرف الضاد الذي لا تملكه أي لغة أخرى في العالم.

في سنة 2024 دُعي البروفسور فوزي محفوظ، العالم والباحث التاريخي والاركيولوجي، حيث قاد زيارة ميدانية للجامع الكبير بصفاقس، بعد اصدار كتابه "الجامع الكبير بصفاقس 1200 سنة من الفن والتاريخ". وقد أخذ ها الكتاب من عمره أكثر من 30 سنة. وأبرز أن الجامع الكبير بصفاقس، يمتلك قيمة عالمية استثنائية، تاريخيا وأركيولوجيا. وكانت هذه الزيارة التاريخية الثقافية فريدة من نوعها بأتم معنى الكلمة.

وفي هذه السنة (2025)، يكشف المعهد الفرنسي بصفاقس، عن النقائش المعمارية التي تزخر بها المدينة التاريخي بصفاقس، في أول زيارة ميدانية لبعض هذه المنقوشات الكتابية (11 معلما) من برج النار إلى القصبة، مرورا بزاوية سيدي عمر كمون وباب الديوان وحمام الجمني والجامع الكبير وزاوية سيدي بلحس ودار المزغني، وصولا إلى جامع سيدي إلياس والقصبة.

لماذا اختيار النقائش المعمارية بالمدينة العتيقة بصفاقس؟ ذاكرة الحجر هي ذاكرة الشواهد الصامتة الناطقة عن تاريخ المدينة وأعلامها

تعد النقائش ذات قيمة تاريخية، فهي تمدّنا بمعلومات مهمة عن تاريخنا، سواء ما يتعلق بالناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية أو العلمية أو غيرها. وقد جمع البروفسور فوزي محفوظ، وفكك وحلل وقارن، في كتابه المشترك مع د. لطفي عبد الجواد الموسوم "مدونة النقائش العربية بمعالم مدينة صفاقس"، (افريل2017)، 55 نقيشة تمتد من القرن الـ 9 الميلادي إلى سنة 1869. ومن أبرزهذه النقائش وأقدمها، نقيشة تعود الى تأسيس المدينة في العهد الأغلبي (849هـ القرن 9 م)، تلك الموجودة في الجامع الكبير بالخط الكوفي البسيط الجميل، وتحمل عبارة "محمد رسول الله" و"لا إله إلا الله".وقبل 13 سنة، وتحديدا سنة 2004، أصدرت د.رجاء العودي عدوني، الباحثة بالمعهد الوطني للتراث،  كتابا تحت اسم:"نقائش المنازل بالمدينة العتيقة بصفاقس". وقد درست فيه 83 نقيشة، مثبتة على واجهات المنازل. تعود كلها إلى الفترة العثمانية والحسينية. وأقدم هذه النقائش العربية ترجع إلى 1773م وأحدثها مؤرخة في سنة 1947.

وهكذا قام الباحثان بدراسة النقائش الكتابية بالمدينة العتيقة بصفاقس، من القرن الـ 9 للميلاد إلى القرن الـ 20، حيث صور كل منهما هذه النقائش ووصفها وبيّن حالتها من الحفظ والاندثار، وحاول تفسير نصوصها.

وعلم الآثار وفرعه في علم النقائش في حاجة دائما إلى التجديد واستئناف الدرس والبحث والاستقصاء، فالأسئلة لا تنتهي أبدا!

وما يذكره البروفسور. فوزي محفوظ في أطروحته (1988) "ان المجال السكني بمدينة صفاقس العتيقة أقل من ثلثي مساحة المدينة، حيث كان العدد الجملي للمنازل المتواجدة حول الأسواق حوالي 1163دارا وقرابة 500 علوّ. ومن بين هذه الديار حافظت قرابة 60 دارا فقط على طابعها الأصلي في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين".

الجدير بالانتباه أن الكثير من المنازل حافظت على بابها الرئيسي وواجهتها، في حين تضررت في الداخل من التداعي أو الانهيار أو تغيير الوظيفة، مما يحدث ارتباكا في عدد المنازل التي بقيت على حالها القديم.

ومن مزايا هذه النقائش المعمارية، أنها أمدتنا بمعلومات، لم نجدها إلا في السجل الأثري لهذه النقائش كصنعة البناء بمدينة صفاقس، مع التأكيد أن هذه الظاهرة تبقى فريدة من نوعها في صفاقس.

القصبة، متحف العمارة التقليدية

وغني عن القول ان علم النقائش، علم كامل، يتولى تحليل أشكال ووظائف الكتابة على المباني والخشب والرخام... لفهم العمل الفني وسياقه التاريخي، من أجل فهم أعمق للتاريخ المعماري. بما يعني أن قراءة النقائش عمل لا يقوى عليه إلا المحترفون من أهل البحث والاختصاص الآثاري، لإبراز هذا الجانب المخفي والمعتم والغائب عن عالم الثقافة العامة من أجل ربط الماضي بالحاضر والتواصل بينهما.

ذكر "سطاوات" البناء بصفاقس حالة فريدة في النقائش المعمارية بتونس، إلى جانب دسّ أحرف صغيرة في الأشرطة الكتابية

النقائش المعمارية وثائق مهمة بالنسبة للمؤرخين وللمهتمين بالموروث الأثري. فهي إلى جانب تدوين مآثر الحكام وإنجازاتهم، تفصح في ذات الوقت، عن شخصيات ومهن وصنائع مرت عليها المصادر التقليدية في صمت، كما تحمل هذه النقائش إضافات متنوعة كالتأريخ والمعمار والزخرفة واللغة والخط العربي.... وبالتالي فهي إضافات مؤكدة لمعارفنا التاريخية.

توجد في المدينة العتيقة بصفاقس نقوش قديمة هامة. ومن مزايا هذه النقائش، أنها أمدتنا بمعلومات، لم نجدها إلا في السجل الأثري لهذه المعالم كصنعة البناء بمدينة صفاقس. كما تبقى ظاهرة دس كتابات صغيرة الأحرف في الشرائط فريدة من نوعها في صفاقس وقد يعود ذلك إلى ملء الفراغ في النقائش. 

الجامع الكبير بصفاقس هو الوحيد الذي له محراب خارجي في الغرب الإسلامي. هذه اللوحة فيها قرآن كريم، وتضمّنت عنصرا معماريا طوره الشيعة، هو العنزة (بفتح العين والنون)، الذي هو المحراب الخارجي.

ومن أشهر عائلات البناء عائلة المنيف وعائلة القطي، ونجد كذلك عائلة القرقوري وحمّو وكمون والشعبوني... عائلات معروفة في أشغال التشييد للمعالم الدينية والعسكرية ذات الصبغة العمومية (لفائدة السلطة) وكذلك المعالم الخاصة (مئذنة زاوية سيدي عمر كمون).

تتوفر عائلة المنيف على عديد النقائش التي توثق تاريخ هذه العائلة المتخصّصة في مقاولات البناء منذ القرن 16 م (نقيشة المحراب العثماني بالجامع الكبير 1758، زاوية سيدي ابي الحسن الكراي1671، الواجهة الخارجية لعقد باب الجبلي، مئذنة زاوية سيدي عمر كمون، نقيشة الباب الخارجي والداخلي لباب الديوان، ...). ومن اشغال عائلة القطي (بناء بالجامع الكبير 1502/1503، أشغال حمام السلطان1649، نقيشة سيدي بوشويشة1684، والقصبة1681 ....). ويبدو أن النقائش التذكارية، لم تظهر على الأبواب بصفاقس، الا في القرن 18م (دار الجلولي نموذجا)، وتواصلت إلى منتصف القرن العشرين، وتحديدا 1947.كما تشير إلى ذلك د.رجاء العودي عدون.  

وقد اشتهرت صفاقس في النقش، وخاصة على الخشب، حتى إن أبواب الجامع الكبير بالقيروان نقشت في صفاقس، واشتهرت صفاقس كذلك في الرسم على البلور، ومن أشهر الرسامين محمود الفرياني في نهاية القرن الـ 19. 

باب نهج السبعي (برج النار)

ولذلك لا يمكن كتابة تاريخ صفاقس دون العودة الى هذه الوثائق النقائشية الأساسية، وهي مصادر فريدة ومتميزة. وأيا ما كان القول، لم يصدر عن أي طرف في السابق، بالدعوة إلى زيارة ميدانية للتعرف خصيصا، وفي مسار محدد مسبقا، على النقائش الكتابية على الحجر وعلى الرخام وعلى الخشب!  بالمدينة العتيقة، قبل المعهد الفرنسي بصفاقس.

استخدام الخط العربي يعطي سمة مميزة للفن والعمارة: أين شواهد القبور بالجبانة الإسلامية بباب الجبلي؟

وردت أشكال عديدة من أنواع الكتابة بالخط العربي في الكثير من النقائش المعماري بالمدينة العتيقة بصفاقس، لكنها تصمت عن ذكر الخطاطين الذين كتبوا الخط العربي وطورواه، ولم تقع الإشارة إلى اسم واحد منهم أبدا.  ولا ندري هل هناك من أمر بنوعية الخط وتعدده وتقنية رسمه؟  مع الاعتقاد ربما بأن طريقة وكيفية ومواضع توظيف هذه النقائش عادت الى المصمم المعماري. كما أننا لا نجد النقائش الكتابية على الأرضيات، وقد يعود ذلك إلى الاحترام الذي يحظى به الحرف العربية في الفن الإسلامي الذي يبتعد عن التجسيم والرسم.  كما أننا لم نجد في المواد المستخدمة لهذه النقائش من الجص (مسحوق الجبس أو الجير أو الاسمنت)، ولكننا وجدنا الأحجار والرخام والخشب وهي منتقاة من الموقع الجغرافي والبيئة المحيطة.

وتبقى الأشرطة الكتابية كأحد العناصر الزخرفية في العمارة العربية بالمدينة العتيقة بصفاقس. ويبقى الخط العربي وسيلة أساسية للتعبير البصري في العمارة بمختلف وظائفها. وقد تطور الخط المستخدم في المباني بشكل عام من الكوفي، والخط الكوفي الزيري، إلى الخط الكوفي النسخي الحفصي، فالخط النسخي. أي أننا باختصار انتقلنا من "الأسلوب الجاف" الذي يمتاز بحروفه المستقيمة ذات الزوايا الحادة، وأشهر خطوطه الخط الكوفي، إلى "الأسلوب اللين" الذي يمتاز بحروفه المقوسة وأشهر خطوطه خط النسخ. وقد لاحظنا، في المسلك الذي اخدماه من برج النار إلى القصبة، هيمنة الخط المغربي التونسي. 

صورة باب سيدي سعادة

وهنا لا باس من أن نستحضر شواهد القبور الإسلامية التي كانت موجودة بالجبانة الإسلامية التاريخية في منطقة الشهداء بباب الجبلي، والتي ضمت مقابر عائلات صفاقس وعلمائها وأدبائها وشعرائها.  والمعروف أنها تميزت بالثراء الفني والزخرفي بما تتضمّنه من نصوص كتابية من أدعية مأثورة وأبيات شعرية وآيات قرآنية. وبقيت بعض شواهد قبور هذه المنطقة، التي أقيمت عليها صفاقس الجديدة، مغمورة ومنسية منذ أكثر من أربعين سنة في مخازن طينة؟

الحوصلة:  
النقائش العربية نقط مضيئة في المعجم الاثري التاريخي ووسيلة إعلام قديمة

إن النقائش العربية من أهم المصادر التاريخية في توثيق تاريخ صفاقس ودراسته   من وجهة التراث المعماري والتاريخي والثقافي والحضاري. ويمكن ان نوجز تقديم بعض الاستنتاجات في هذا الغرض:

أولا- نجد الوثائق النقائشية في التحصينات (باب الجبلي باب الديوان القصبة ...) وفي المعالم الدينية (مساجد، زوايا) وفي المعالم المدنية (الحمامات...) وفي المنازل
ثانيا- اللوحات التذكارية تكون من حجر الكذال، الرخام الأبيض، الحجر الرملي، الخشب، الرخام   
ثالثا- تعكس النقائش التي تم العثور عليها بالزوايا الصفاقسية تنامي حركة التصوف بهذه المدينة وبافريقية بصفة عامة، وكيف تتحول بيوت "العلماء" إلى اضرحة ومقامات ومدارس (سيدي عمر كمون، سيدي أبي الحسن الكراي، سيدي على النوري...)

رابع - تمسح هذه النقائش كل الفترات تقريبا وتمكن من اقتفاء مراحل تطور الخط العربي واستنباط تيارات التأثير والخصوصيات المحلية
خامسا- نجد بعض الظواهر اللغوية التي ترد في هذه النقائش مثل حذف الألف الوسطى من بعض الكلمات، واستعمال الدارجة (جامع سيدي الياس...)، إضافة إلى أخطاء لغوية في النحو والصرف والرسم
سادسا- نقائش أغلبها بارزة، وغائرة في أحيان أخرى

وفي تقطير ما أقول، النصوص المعمارية مهمة للغاية لأنها توثق التاريخ وتكشف عن ثقافة المجتمع الصفاقسي القديم، حيث تستخدم كـ "وثائق أثرية" تجمع بين الجانبين الفني والجمالي (جماليات الخط العربي) والجانب التاريخي بما تضمّه العديد منها من معلومات تأريخية هامة (تأريخ، أحداث، أسماء ...). كما لهذه النقائش وظيفة إعلامية طبقا لطرق وأساليب الإعلام قديما، التي كان الحكام والولاة والأفراد يحرصون عليها، فهي تضمن لهم الخلود وتظهرهم للعامة وتمكنهم من بث رسائل قصيرة طويلة الأمد في وقت واحد.  وهي دليل لا يقدر بثمن في غياب النصوص الأخرى، مما يساعد في فهم تاريخ مدينة صفاقس وتطورها عبر العصور.

باب المزغني، نهد سيدي بلحسن

الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز

ولست بحاجة إلى القول بأن عديد النقائش تشكو من التآكل (زاوية سيدي ابي الحسن الكراي، جامع سيدي إلياس، زاوية سيدي عمر كمون، لوحة الحجارة الرملية على عقد الفتحة الجانبية الغربية لباب الديوان....). مما يجعلها مهددة بالاضمحلال والتداعي أو الحذف.  وهذه رسالة مفتوحة للمعهد الوطني للتراث، في سياق اليوم العالمي للغة العربية، للمحافظة على هذه النقائش من أجل إعادة الروح للمكان وحفظ ذاكرتنا التاريخية، لأن خصائص المدينة وشخصيتها تعرف من خلال مفردات التراث. فكل نهج وسباط وقسارية وباب وجامع وزاوية هي حروف مضيئة في سفر الانسانية الخالد، سيما وأن صفاقس مازالت تتوق الى تسجيل تراثها النادر على قائمة التراث العالمي لليونسكو، إلى جانب حاجتنا إلى إثبات الذات والدفاع عن أصالتنا وتاريخنا. وأقترح عليكم إنجاز "مكتبة رقمية للنقائش العربية وخطوطها" لكل المدن التونسية، مثلما حصل بمكتبة الإسكندرية. 
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.