أخبار - 2022.06.30

تسع نَزَعَات لا مكان لها في الدستور الجديد

تسع نَزَعَات لا مكان لها في الدستور الجديد

بقلم: محمد إبراهيم الحصايري

اليوم الخميس 30 جوان 2022 يتمّ نشر الدستور الجديد...

وفي انتظار الاطلاع عليه، أحببت أن أجمع التعليقات التسع التي تطرّقت فيها إلى ما أعتبره نَزَعَات لا مكان لها فيه،والتي نشرتها، تباعا، فيما بين 14 و28 جوان 2022،وذلك حتى أيسّر الاطلاع عليها دفعة واحدة، وحتى يسهل التأكّد من أن "رياح الدستور الجديد تجري بما تشتهي سُفُنُنَا":

1/ لا لنزعة التمييز الإيجابي
مضامين عديدة جاءت في دستور سنة 2014 لا ينبغي، في نظري، أن يكون لها مكان في الدستور الجديد، وأوّلها ما سمّاه الفصل الثاني عشر "مبدأ التمييز الإيجابي كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات".
إنّ هذا المبدأ كلمة حقّ أريد بها باطل، فقد أُسْبِغَتْ عليه صفة "الإيجابي"، والتمييز، مهما كان شكله، يستحيل أن يكون إيجابيا، وليس أدل على ذلك من أنه، كما بينت التجربة، لم يفلح سوى في زرع الأوهام الخادعة والآمال الكاذبة التي عمّقت عند الجهات المحرومة التي وُضع، نظريا، من أجل النهوض بها الشعور بالغبن والاحساس بالإحباط في ظل استمرار، بل تفاقم ما تعانيه من إهمال.

2/ لا لنزعة اللامركزية المنفلتة

ينص الفصل 14 من دستور سنة 2014 على أن الدولة "تلتزم بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني" وهو يدقّق أن ذلك يجب أن يتم "في إطار وحدة الدولة"، لأنه، كما يبدو، استشعر، سلفا، أن اللامركزية قد تفضي إلى تفكيك الدولة إذا أسيء تطبيقها.

والمشكلة أن الدستور أسّس لإساءة استخدام اللامركزية حين تطرّق إلى السلطة المحلية في بابه السابع حيث أكد أن هذه السلطة "تقوم على أساس اللامركزية" التي تتجسد في جماعات محلية "تتمتع بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدإ التدبير الحر"...

إن فوضى عمل الجماعات المحلية اليوم تعني أنه لا مكان للامركزية المنفلتة في الدستور الجديد...

3/ لا لنزعة تناسل الأحزاب والجمعيات بلا حساب

جاء في الفصل 35 من دستور سنة 2014، أنّ "حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة".

نتيجة هذا الفصل الذي كرّس حالة الانفلات التي أعقبت 14 جانفي 2011 ودعّمها، ينطبق عليها قوله تعالى "حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلون"، الآية 96 من سورة الأنبياء. فنحن اليوم أمام ما يربو على 240 حزبا أي بمعدل حزب لكل خمسين ألف تونسي، بحساب 12 مليون ساكن. وأكثر من 24000 جمعية أي بمعدل جمعية لكل خمسمائة تونسي. مما يعني أن الدولة تحتاج إلى جيش عرمرم من الموظفين لمجرد التأكد من مدى "التزامها بأحكام الدستور والقانون وبالشفافية المالية ونبذ العنف".

ومع أن غالبية هذه الأحزاب والجمعيات لا وجود لها على ساحة العمل الفعلي، فإنك تجدها في الصدارة عندما يتعلق الأمر بالتكسّب مالاً وفخفخةً...

4/ لا لنزعة الحصانة الزائغة

القصد من الحصانة التي تُمْنَح للنواب في برلمانات العالم هو تمكينهم من الاضطلاع بمهامهم بكل حرية، غير أن الحصانة التي نصّ عليها الفصل 69 من دستور سنة 2014 زاغ بها عن هذا القصد، حيث جاء فيه أن النائب "إذا اعتصم بالحصانة الجزائية كتابةً فإنّه لا يمكن تتبعه أو إيقافه طيلة مدّة نيابته في تهمة جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة".

ومع أنّه ينص على أن النائب "يمكن إيقافه في حالة التلبس بالجريمة"، فإنّه يشترط أن "يُعلم رئيس المجلس حالا، على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك".

ومعنى ذلك أن حصانة النائب تضعه فوق القانون حتى إذا خرقه متعمِّدا.

5/ لا لنزعة التغاضي عن ازدواج الجنسية وازدواج الانتماء

من أكبر سقطات دستور سنة 2014 (إن لم تكن أكبرَ سقطاته)، أنه خوّل في فصله الرابع والسبعين لحامل جنسية غيرِ الجنسية التونسية الترشّحَ لأعلى منصب في الدولة، أي منصب رئيس الجمهورية...

والأغرب من هذا التخويل أنّه لم يطلب من مزدوَج الجنسية التخلَي عن جنسيته الثانية بمجرد ترشحه للانتخابات، بل طلب منه، فحسبُ، أن "يقدّم ضمن ملفّ ترشحه تعهّدا بالتخلي عن الجنسية الأخرى عند التصريح بانتخابه رئيسا للجمهورية"...ولأنَّ التخليَ الشكليّ عن ازدواج الجنسية لا يعني البراءة من ازدواج الانتماء، فلا تتوقع، في ظل دستور صيغ على مقاس أفراد بعينهم، وقدّم مصالحهم على مصالح الوطن، أن يبقى للسيادة الوطنية أي معنى...

6/ لا لنزعة تنازع الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة

ممّا يسترعي الانتباه في دستور سنة 2014 أن قسمه الثاني من بابه الرابع ينتهي بالفصل 101 الذي جاء فيه: "تُرْفَعُ النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الى المحكمة الدستورية التي تبتٌّ في النزاع في أجل أسبوع بناء على طلب يُرْفَعُ إليها من أحرص الطرفين".هذا الفصل يؤكد أنّ واضعي الدستور أضمروا، بما خوّلوه لرئيس الجمهورية من صلاحيات محدودة وفرضوه عليه من قيود في ممارستها، التأسيس للنزاعات التي نشأت بين كافة رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على حكم البلاد منذ ما قبل صدور الدستور وبعدَه...

فكيف كان يمكن للأمور أن تستقيم وتوزيع الصلاحيات على رأس الدولة أعوج؟

7/ لا لنزعة تكريس استقلال البنك المركزي عن الدولة

الطريقة التي اختارها دستور سنة 2014 لتعيين محافظ البنك المركزي طريقة عجيبة، فقد نص الفصل 78 على أنّ رئيس الجمهورية يعيّنه "باقتراح من رئيس الحكومة وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب. ويتم إعفاؤه بنفس الصيغة أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس نواب الشعب ومصادقة الأغلبية المطلقة من الأعضاء".

هذه الطريقة مُقْتَرِنَةً بتغيير قانونه الأساسي الذي حوّله إلى "مؤسسة مستقلة"، جعلت من البنك المركزي "طائرا يغرّد خارج السرب"، ولا يبالي بتحقيق التناغم الضروري بين سياساته النقدية وخيارات الدولة الاقتصادية.

في بلاد أحوج ما تكون إلى تضافر الجهود للخروج من أزمتها المستفحلة لا مهرب من مراجعة عاجلة لهذه النزعة الضارّة...  

8/ لا لنزعة إنشاء هيئات دستورية مستقلّة لا جدوى منها

الباب السّادس من دستور سنة 2014 المتعلّق بالهيئات الدستوريّة المستقلّة، هو إفراز رديء من إفرازات الهوس بالديمقراطية، حتى وإن كانت شكلية، الذي هيمن على واضعيه...

فبدعوى "دعم الديمقراطية" أنشؤوا خمس هيئات "تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية" سرعان ما تبين أنّها بقدرما كانت عاجزة عن الاضطلاع بمهامها، بقدرما كانت كلفتها باهظة لا ماديا وماليا فحسب، وإنما معنويا وأخلاقيا أيضا، فأسلوب المحاصصة الذي اعْتُمِدَ في تشكيلها جعل أعضاءها الذين كان يفترض أن يكونوا "مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة" يدينون بالولاء لمن اختاروهم لا لمقتضيات الديمقراطية الحقّ...

ولولا ذلك لكانوا أفلحوا، ولو قليلا، في منع الانحرافات الخطيرة التي تردّت فيها البلاد.

9/ لا لنزعة إغداق الامتيازات اللامحدودة على القضاء

في خاتمة هذه التعليقات التّسع التي خصّصتها لما أرى أن لا مكان له في الدستور الجديد، لا بدّ من وقفة عند القضاء المُضْرِبِ عن العمل ثلاثة أسابيع بتمامها وكمالها، ضاربا عرض الحائط بمصالح المواطنين الذين لا علاقة لهم بالصراع المحتدم بينه وبين الرئاسة...

هذا الإضراب ما كان ليكون، لولا الكمّ الهائل من "الامتيازات" التي أغدقها دستور سنة 2014، ثم حكومات الموالاة والمحاصصة على القضاء... فهو ليس إضرابا من أجل الدفاع عن استقلالية القضاء، بقدرما هو من أجل الحفاظ على تلك الامتيازات التي جعلت القضاة يشعرون بأنهم فوق القانون، وبأنهم مُعْفَوْنَ من المراقبة والمحاسبة والمعاقبة، ويجب أن يظلوا كذلك إلى الأبد...

محمد إبراهيم الحصايري
تونس في 30/06/2022

قراءة المزيد

ما لا مكان له في الدستور التونسي الجديد: التمييز الإيجابي (1/9)

ما لا مكان له في الدستور الجديد: اللامركزية المنفلتة (2/9)

يأجوج ومأجوج الأحزاب والجمعيات: يجب إستثناؤها في الدستور الجديد  (3/9)

الحصانة الزائغة لا مكان لها في الدستور التونسي الجديد (4/9)

ازدواج الجنسية وازدواج الانتماء : يجب تجنّبه في الدستور الجديد  (5/9)

تنازع الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة لا مكان له في الدستور الجديد (6/9)

استقلال البنك المركزي: يجب التخلّي عنه في الدستور الجديد (7/9)

هوس الديمقراطية والهيئات الدستورية المستقلّة لا مكان له في الدستور الجديد  (8/9)

ما لا مكان له في الدستور الجديد: إضراب القضاة بين الدفاع عن استقلال القضاء والحفاظ على امتيازاته (9/9)

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.