تونس: كيف نحمي أطفالنا من فضاءات الــتـنـشــئــة الــعــشــوائـيـة؟
منذ سنة 2011، وعند انطلاق كلّ سنة دراسية جديدة، وفي ظلّ ضعف سلطة الدولة، تطرح مسألة مهمة في الشأن التربوي التونسي تتعلق بالتربية قبل الدراسة (أطفال الشريحة العمرية من 3 إلى 6 سنوات) وتطفو على السطح في هذا الصدد عديد المشاكل مثل ارتفاع معاليم التسجيل، و قلّة عدد نوادي التنشيط المختصّة بالأطفال وتدنّي الخدمات وضعف المراقبة وتواصل انتصاب الفضاءات العشوائية خارج القانون وفي عدّة جهات وخاصة تلك التابعة لجمعيات دينية أو ما يسمّى بالرّوضات القرآنية وذلك رغم الإجراءات التي اتخذتها الإدارة لتطوير القطاع والتصدّي لهذه الظاهرة وحماية أطفالنا منها وإنقاذهم ممّا قد يؤثّر سلبا في بناء شخصيتهم. فكيف تبدو الوضعية اليوم ؟ وهل لا تزال تلك الفضاءات تمثلّ خطرا على تنشئة أطفالنا؟
يشمل قطاع التربية «قبل المدرسية» المحاضن ورياض الأطفال التي تشرف عليها وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن، والكتاتيب التي تشرف عليها وزارة الشؤون الدينية، وضمنها نذكر أيضا المحاضن المدرسية والسنة التحضيرية وكذلك محاضن ورياض الأطفال التي تشرف عليها بلديات أو وزارات أو جمعيات. وقد انتشرت تلك الفضاءات في الوسط الحضري في المدن الكبرى خاصّة وبصورة أقلّ في المناطق الأخرى لتلبّي أساسا حاجة العائلة التونسية إلى فضاءات متخصّصة تمكّن أطفالها من تنشئة سليمة وتكوين يعدّهم للاندماج في المدرسة وحاجتها كذلك إلى فضاء يحافظ على أطفالها أثناء غياب الوالدين عن البيت للعمل في الوظائف العمومية أو الخاصّة. لكن رغم هذا التنّوع في الفضاءات فإن الإحصائيات الرسمية تؤكّد أنّ التحاق الأطفال بتلك المؤسّسات القانونية يظلّ ضعيفا. ونظرا لقلّة المحاضن ورياض الأطفال القانونية التي يبلغ عددها 4745 مؤسّسة (2016 – 2017) نلاحظ أنّ عدد الأطفال الذين يؤمّونها لا يتجاوز ثلث الأطفال وقد يقلّ في المناطق الريفية والداخلية. فمن بين 578234 طفلا تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات نجد فقــط 174945 طفلا مـرسّما في تلك المـــؤسّــسات أي بنسبة تغطية يــقــدّر بـ 31,50% (حسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2016) أي أنّ 6 من بين 10 أطفال لا يلتحقون بالتربية قبل المـدرسة وغــالبــا مــا يكونون من المناطق الداخلية أو المهمّشة لأنّ خريطة توزيع المؤسّسات القانونية التي تعتني بالطفولة غير عادلة، إضافة إلى ما تشكو منه تلك المؤسّسات من نقص في الإطارات المتخصّصة إذ أن حـوالي 60% من العــاملين في ريــاض ومحاضن الأطفال ليسوا متخصّصين في الطفولة المبكّرة. وبسبب مخالفة بعضها لكراس الشروط أو تردّي الخدمــات والأوضاع الصحية أو سوء معـــاملة الطفل فقد أغلقـــت وزارة المــرأة والأســرة والطفولة وكبـار السنّ منها 23 مؤسّسة سنة 2017.
الفضاءات العشوائية
وتتمثل المعضلة الكبرى في انتصاب الفضاءات العشوائية في مختلف الجهات وإن كانت اليوم في تناقص بفضل تصدّي الإدارة لها عملا بتوصيات مجلس الوزراء المنعقد سنة 2013 وبمنشور رئاسة الحكومة الصادر في الغرض سنة 2014 والذي يدعو إلى غلق المؤسّسات المخالفة وإيقاف نشاط المؤسّسات الفوضوية بكلّ أنواعها والقرار المشترك بين وزارة المرأة ووزارة الداخلية الصّادر بتاريخ 20 اوت 2014 حول إحداث لجان جهوية تضمّ ممثلّين عن كلّ المتدخّلين في هذا الشأن كوزارات المرأة والتربية والشؤون الاجتماعية والصحة والداخلية والشؤون المحليّة لمتابعة ورصد تلك الفضاءات الفوضوية باعتبارها تمثّل تهديدا مباشرا للطفل ورفع تقريرها إلى الوالي الذي يتولّى إصدار قرار الغلق. وتذكر السيدة نبيهة كمون التليلي رئيسة الغرفة الوطنية لرياض ومحاضن الأطفال أنّ تلك اللجان لا تعمل بنفس الوتيرة ففي مناطق تكون نشيطة وفي مناطق أخرى تعمل ببطء لذلك ورغم المجهودات المبذولة لم يتم غلقها جميعا. ويذكر أنّ الفضاءات غير القـــانونية كمـا يعرفّـها السيـــد سمـــير بن مريم مدير التفقد البيداغوجي بوزارة المرأة هي كلّ الفضاءات التي تستقطب الأطفال على غير الصيغ القانونية ولا تطبّق البرنامج البيداغوجي الرسمي، وتعمل - وفي إطار الانفلات- تحت عدّة تسميات لاستقطاب الأطفال والعائلة مثل روضات الجمعيات أو ما يسمّى بالروضات القرآنية التي تعمل على استقطاب الولي والطفل ولعدّة جمعيات منها فروع في الجهات للقيام بنفس العمل. وهناك تلك التي تنشط تحت غطاء تجارب أجنبية كالروضة الكندية أو الفنلندية أو مونتيسوري التعليمي وغيرها.
متابعة الفضاءات الفوضوية
وهدف تلك الفضاءات إمّا مادي أو ديني. وتصنّف السيدة نبيهة كمون التليلي تلك الفضاءات إلى صنفين: الرياض القرآنية والروضات العشوائية وليس لكليهما أي وجود قانوني لكن يضطرّ الولي التونسي الى التعامل معها بسبب معاليمها المقبولة عموما. أما مقرّاتها فقد تنتصب حسب السيدة نبيهة كمون التليلي في المنازل أو المستودعات بينما قد يتبع بعضها جمعيات قرآنية توّفر لها الفضاء حسب وزارة المرأة. وتوجد تلك الفضاءات العشوائية في الأحياء الشعبية كما في الأحياء الراقية .وتستقبل ما بين 20 إلى 50 طفلا في الفضاء الواحد. وخطورتها تكمن حسب السيد سمير بن مريم في أنّ الإدارة لا تعرف تماما ما الذي يمرّره المنشط فيها للطفل في سنّ تكوين شخصيته لأنّها لا تعتمد البرامج الرسمية وخاصّة إذا كان هدفها دمغجة الطفل كما تعتمد إطارات غير مختصّة إضافة إلى المربيات المنقّبات ممّا يحرم الطفل من رؤية وجه مربيته ويفتقر الفضاء المخصّص إلى عناصر السلامة. وتتساءل السيدة نبيهة كمون التليلي كيف لمن لا يحترم القانون ولا يحبّ الوطن أن يربّي الأطفال على الالتزام بالقانون وحبّ الوطن.
محاضن ورياض الأطفال القانونية 2016 - 2017
وبالنسبة إلى رياض الأطفال العشوائية فقد تّم رصد 1437 فضاء ما بين 2015 و2017 وصدرت قرارات غلق في شأن 949 منها بينما تتولّى الإدارة مرافقة 208 لتسوية وضعيتها القانونية لتوفر الشروط المستوجبة لبعث روضة وذلك بعد التأكّد من البنية الأساسية وظروف السلامة وتوفّر الموارد البشرية والفضاءات الخارجية وتنفيذ البرنامج الرسمي للوزارة. ورغم اتخاذ قرارات الغلق فإنّ عددا منها يغيّر المكان ويعود إلى العمل من جديد والسبب أنّ القانون الحالي يتوقّف عند قرار الغلق ولا يعاقب. لذلك هناك نصّ قانوني جديد مطروح اليوم يدعو إلى معاقبة المخالفين معاقبة جزائية ومالية ويلزم كل المؤسّسات بالالتزام بالبرنامج البيداغوجي الرسمي الذي فيه جانب ديني (القرآن والسنة) يتماشى مع عمر الطفل ومع المقاربات البيداغوجية المعتمدة لتنشئة طفل متجذّر في هويّته العربية الإسلامية منفتح على الثقافات الأخرى مستكشف مبدع مستقل بذاته قادر على التعبير عن أفكاره.
الكتاتيب فضاءات رسمية
وهناك فضاء آخر يساهم في تنشئة الأطفال بين سنّ 4 و6 سنوات فيه أيضا دخلاء وهو الكتاتيب. والكتاتيب حسب المسؤول عن الكتاتيب في وزارة الشؤون الدينية هي تسمية رسمية لا تطلق إلّا على الفضاءات المرسّمة التي تنشط رسميا في مسجد أو جامع أو زاوية أو في فضاء تابع لوزارة الشؤون الدينية وتحت إشرافها وتخضع للمتابعة من الوعاظ. ويؤكد المسؤول عن كتاتيب أنّ الفضاءات التي تّم اكتشافها منذ سنة 2012 و2013 وكانت تنشط في بيوت أو مستودعات أو غيرها على أساس أنّها، كتاتيب تحفّظ القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة للأطفال تبقى فضاءات عشوائية وتّم اتّخاذ الاجراءات القانونية في شأنها. ملاحظا أنّ الوزارة دائما متيقّظة لمحاربتها إن وجدت.
وأشار إلى أنّ الكتاتيب الرسمية التي يكتب على واجهتها روضة قرآنية يتّم استجواب المؤدب المسؤول عن ذلك. كما بيّن أنه اكتشفت حالات قليلة لكتاتيب استقبلت أطفالا دون سنّ الرابعة فتمّ استجواب المؤدب المخالف. ومن جهة أخرى تدعو وزارة الشؤون الدينية الأولياء إلى التشبّع بثقافة الكتاتيب الرسمية التي يتراوح معلوم التسجيل فيها بين 20 و30 دينارا وتستقبل أبناء العائلات المعوزة بدون مقابل. وينشط في تونس 1720 كتّابا رسميا يستــوعب حــوالي 49 ألـف طفل (2017 – 2018). وتوجد الكتاتيب في الأحياء الشعبية وفي الأحياء الراقية ويعمل المؤدب وفق برنامج رسمي تّم وضعه في دليــل مرجعي مبني على الدستور التونسي وعلى مجلّة حقوق الطفل وأعدّ بالتنسيق مع وزارتي التربية والمرأة ومن أهداف البرنامج تمكين الطفل من حفظ نصيب من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتشبّع بالأخلاق والمبادئ والتواصل مع الآخر والدافعية وحبّ الاطلاع وإنماء الانتباه والاستقلالية وروح المبادرة لديه وتدريبه على النقد والتقييم الذاتي والإبداع. ومن بين الأنشطة التي يوفّرها الكتّاب أنشطة منطقية رياضية وإيقاظ علمي وأنشطة يدوية تشكيلية ومسرحية وغيرها..
خــــالد الشّابي
قراءة المزيد:
تونس: كيف نحمي أطفالنا من فضاءات الــتـنـشــئــة الــعــشــوائـيـة؟
أسباب تفشي ظاهرة الفضاءات العشوائية المعدة لتنشئة الأطفال
المؤسّسات الخاصة المعدة لتنشئة الأطفال: معاليم مشطّة
كيف السّبيل إلى الحدّ من الفضاءات العشوائية المعدّة لتنشئة الأطفال؟
أي دور للأولياء في حماية الأطفال من فضاءات التنشئة العشوائية ؟
- اكتب تعليق
- تعليق