آمال موسى: أنا والبيضةُ شقيقتان
أشياء ٌكثيرةٌ في مطبخي تُشبهني
أتماهى مع هذه الأشياء ونُؤنسُ بعضنا.
الماء والنّار والكهرباء
الخضار والفواكه الممتلئة بالماء والفواكه الجافة
الصحون والكؤوس
وآواني الطبخ النّحاسية تروي سيّرة امرأة من القيروان
ملاعق صغيرة وكبيرة في مقاسات أحلامي النّحيفة والمكتنزة قليلا
وسكّين واحد
لا أحبُّ السّكاكين.
في السّكاكين يختبئ خوف هابيل
لقد سبق هابيل الموءودة بزمن طويل
وهكذا تعلم الرّجل النّسيان.
وآحيانا
السكّين عنترة وثغر عبلة الباسمُ.
في هذا المطبخ
ما يُشبه وحدةَ الوجود
أو كوكتال من عصير الحكمة والحشائش البريّة
أسكبُه كلَ صباحٍ
في آواني مصنوعةٍ من الفخار وكريستال أوروبا الشرقيّة.
المطبخ غرفة تستيقظ فيها الشهوات
حسابنا البنكي المبعثر داخل الثلاجة وبين الطاولة وسلّة المهملات.
البعضُ يكتب
البعض يعدّ طعامه
وأنا أكتبُ وأطبخُ
بعضي يعدّ طبقا عاشقا لقطب قد يطرق باب مطبخي
وكلّي يكتب الشعر لبطل صنعتُه يداي بالماء والخيال ورطل من شهد الملكات.
تتجاذبني رغبتان
متعتان
نشوتان
عناقيد العنب تراقب صحوي صيفا وشتاء
وكيف أراقص المدى فتشهق راقصاتُ الحانات
المدى معجبٌ بي ويتهيّأ لبدء العشق
لم يكن المدى مخمورا وهو يٌغازلني
وأحسب أنّ لا نيّة له للإيقاع بي حين أمسك يدي وتلا المدى "الفاتحة".
يخطر لي مزج السكر والملح فيما أكتب
وأُسمّي الأشياء كما أشتهي:
المرادفُ نقيضا
والتناصُ تعدد الأصواتِ النّاشزة
واستبدادي في المطبخ نسخة نادرة من مــــدينة أفلاطون
ورديّ على ما قاله آرســـــطو في النّساء.
أمزجُ الأبيضين
ثمّ أمسك السكر من لمعانه فيضحك وأضحك.
أضع نصف ملعقة من الزعفران في كلّ الأطباق
وملعقة كبيرة من زيت زيتون الموسم الفارط.
الأرض فكرة تسلّلت من المطبخ
المطبخ يُعيد صياغة الأرض
يمحو الفكرة
يفكّ عقدة القصّة
ويصفني أعظمَ من الحياة.
الكتابةُ وطهيُّ الطعام سيّان عندي
كمياء المقادير في النّص
تشكيل الإكليل والورد والنعناع والحبق المجفّف
كمياء التّوابل في أكلة شهيّة كأصابع تجيدُ ترتب حاجبي حبيبها.
رائحةُ القهوة تأخذني إلى حبيبي
إلى البيت الذي تدرّب فيه على الحلم
على فنون المعركة.
بيتٌ مقفل الآن
دون أغاني النّساء وقصائدِ رجال قبيلته.
فتحناهُ معا
كانت الشمسُ عروسا يومها
مثلما كنتُ أتخيّلني منذ عرفتُه.
لم أتركه وحدّه يُواجه حنين الطفولة وضجيج الأتراب وهم يلعبون
اقتربتُ منه
التصقتُ به
ومنعتُ دمعة، كانت تنوي الكلام حين انتشرت أمامه رائحةُ أمّه.
وضعتُ ذراعي في ذراعه
وسحبتُه نحوي بقوّة
حتّى لا يُصافح ما آل إليه من رجل كهل في صيغة المفرد.
قبلتُه كأوّل مرّة كي لا يئنّ من شوق الراحلين عنّه
كنتُ الدنيا
التي يريدُ وضعَ يدِه اليمنى على خصرها والأخرى في يدها والرّقصَ معها.
كتفي وكتفه تدفعان البابَ الغاضبَ من فرط الهجرْ.
بيتٌ مقفل
دخلناه ذات يوم
وتركنا في صحن الدّار البعضَ منّا
والكثيرَ من شتاتنا
والقليلَ من أدباشنا
ونثرنا حفنةً من فرح أخضر كأشجار الزيتون الحارسة لطيفنا
أشجارٌ كانت ظلّنا
وما فاق ظلنا.
البستان مثل امرأة خرجت للتوّ من حمّام مغربيّ
زاد الطين الأخضر في خضرتها.
قالت لنّا امرأة كانت تُراقبنا وتبتسم:
"البارحة ...
السّماء أمطرت وأشبعت رغبات البستان."
أشياء كثيرة في المطبخ تشبهني
آه يا أيُّها البيض
وسيمُ كحبيّ له
تشبه زواجا كاثوليكيا بين الثلج والشمس
البيضة أرهقت كارل ماركس كثيرا
هل هي من طبقة الفقراء أم الأثرياء؟
كالديمقراطيات العريقة، تحتال علينا البيضة
كالرّمز المعنّف دون كدمات تراوغنا البيضة.
غنيّة كالسمك
كاللحوم الحمراء والبيضاء
حنونٌ مثلي البيضة
حبيبها من البروليتاريا
تتعففُ من الرأسمال الأحمر
من الدم
من النّار الموقدة
من ناقة أشعلت حرب البسوس
لم ينس الأنبياء أن البسوس امرأة.
أنا والبيضة نتشابه
تُحبُ البياض مثلي
مثلها لا أرتدي أكثر من لونين.
اثنتان في الاكتفاء
في المسكوت عنه في الوليمة
في الزهد
في البوح
أنا والبيضة بسيطتان
امرأتان يعول عليهما
شكل البيضة امرأة
شكل المرأة هضابٌ
يغفو فيها حمامٌ سقطت من أطواقه الرسائل.
شكل المرأة قصيدة ُنثر
تستبدل صهيل الخيل ورغاء الإبل بموسيقى قلبي.
شكل المرأة نثر بنهدين تغافل عنهما قصدا الزمن.
كأنّي الغابة السوداء في بلاد هتلر وغوته
سجنني الصنوبرُ في ليله الثابت
فلم تمسّسني منذ رحيل بطلي شمسٌ.
هذا الصّباح
انتبهتُ وأنا أكسّر البيض دون عناء
أنّ البيضةَ تشبهني
ورأيتُ هشاشتي أكثر بقليل من صمود سبع بيضات في سلّة واحدة.
لكن البيض مجبول على التكسير والخفق مثلي.
فقط حين يُرافقني من أهوى
أصيرُ فُتاتا غزيزا كثيفا
وحبات من اللؤلؤ في يديه
وعشبا تضعه الأرضُ شالا خفيفا مرصّعا بالفستق الحلبي في الربيع.
وإذا رافقتُ من يهواني
تتخاصم فيّ العناصرُ
يتأذّى الطين
تنزف النّار
ويكسبُ الماء المعركة.
(القصيدة من مخطوط شعري لم ينشر بعد عنوانه" عاشقة ولا أنظرُ في النهر")
شعر آمال موسى
- اكتب تعليق
- تعليق