ثقافة - 2020.08.17

حسن الممّي: مركز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

حسن الممّي: مركز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

مركز الأقلّيات في المجتمع الإسلامي

لا يمكن الحديث عن مركز الأقليات في المجتمع الإسلامي دون عرض المبادئ الأساسيّة الواردة بالنصّ المقدّس والاتفاقيات التي أبرمها الرّسول صلى الله عليه وسلم  مع غير المسلمين والتي إنبنت عليها الديمقراطية في الإسلام.

الدّيمقراطيّة في الإسلام

ما انفكّ  مصطلح الديمقراطيّة يثير  تساؤلات الكثير من الناس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم واتجاهاتهم متسائلين هل أنّ الديمقراطيّة تتلاءم مع مبادئ الإسلام.

للجواب عن هذا السؤال لابدّ من تحديد مفهوم الديمقراطيّة ومراحل تطوّرها عبر تاريخ الشعوب التي مرّت من هذا الكون وهي تكافح عديدا من القرون وتناضلوا نضالا طويلا مريرا ضدّ هيمنة الملوك والأباطرة والدكاترة الذين استعبدوا شعوبهم وأذاقوهم أشدّ أنواع الإذلال والعذاب.

وباستعراض مفهوم الديمقراطيّة التي مرّت منها تلك الشعوب باختلاف ظروفهم الزمنيّة والمكانيّة نقف على نتيجة واحدة أنّ الديمقراطيّة تهدف إلى تحقيق طموحات تلك الشعوب لحكم نفسها بنفسها في ظلّ قواعد الحريّة والعدل ولا مساواة.
لكنّ الطرق التي تمّ الاستناد إليها لتحقيق الديمقراطيّة اختلفت باختلاف الظروف والأحوال لتلك الشعوب فبالنسبة للإسلام حسم الأمر وبنى المجتمع الإسلامي على المبادئ التالية :

• حريّة المعتقد

الإنسان حرّ في اختبار العقيدة التي يريد اعتناقها " إذ لا إكراه في الدّين" حسب الأية 256 من سورة البقرة فالإنسان يتحمّل المسؤوليّة الدينيّة التي لا تتمّ إلاّ في نطاق الحريّة والإختيار الذاتي حسب الآية عدد 29 من  سورة الكهف التي جاء فيها قوله تعالى  "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وقد أكّد اللّه تعالى هذا المعنى في الآية 29 من سورة يونس التي جاء فيها قوله تعالى " ولو شاء ربّك لا آمن كلّ من في الأرض كلّهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"
• إعتماد الشورى
حرضّ الله المسلمين وحثّهم على إعتماد الشورى حسب الآية عدد 153 من سورة آل عمران التي جاء فيها قوله تعالى "وشاورهم في الأمر " والآية عدد 38 من سورة الشورى التي جاء فيها قوله تعالى "أمرهم شورى بينهم"

فالشورى في جوهرها وحقيقتها هي تشاور وحوار وتبادل الرأي حول مختلف المشاكل التي تهمّ المجتمع للوصول إلى قرار مدعوم بمصادقة ما تمت مشاورتهم من أهل الحلّ والعقد.

وعلى هذا الأساس فهي مؤسسة سياسيّة تمثل معنى الديمقراطية التي تطوّرت فيما بعد مع مرور الزّمان وتبدّل الظروف والأحوال فاتّخذت مظهر الانتخاب وصناديق الاقتراع في العصر الحديث تحف بها بنود وقواعد وإجراءات وأحكام تقتضيها تشغيل هذه الآليّة.

• الجدل

الجدل كان ناتجا عن الشورى لم يمنع منه القرآن وإنّما أوصى بأن يكون بالتي هي أحسن وبمعزل عن التعصّب والحدّة والعناد إذ قال تعالى " وجادلهم بالتي هي أحسن"

وقال تعالى " أدعو إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة"  والآيات الواردة في النصّ المقدّس متعددة في هذا المعنى وقد أورد طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي أنّ أوّل عهد الإسلام بالظهور حين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستضعفين في مكّة فقد كان الجهاد جدليا خالصا فقد كان النبيّ (ص) بقوم به وحده بإزاء الكثرة المطلقة من قومه يجادلهم بالقرآن ويقارعهم بهذه الآيات المحكمات فيبلغ منهم ويفحمهم و يضطرّهم إلى الإعياء وهو كلّما بلغ منهم ذلك انتصر له فريق من قومه حتى تكون له عدد كبير من المناصرين له وهذا ما أجمع عليه رواة وأخبار مسيرة الرّسول كما رصد لنا المؤرّخون الكثير من الأخبار عن المناظرات الجدلية التي جرت بين أصحاب المذاهب الفقهية كالسنّة والشيعة والخوارج وأهل الاعتزال فبالنسبة للجدال بين المسلمين أنفسهم نجد ابن حزم الذي أثبت في كتابه "الفصل بين الملل والنحل" أنّ عبد الله بن عباس جادل الخوارج كما أثبت هذه المجادلة أو عبيد في كتـــــابه  " الأموال" كما جادل الخليفة عمر بن عبد العزيز الخوارج وقد أورد ابن الجوزي هذه المناظرة والمجادلة التي نثبتها فيما يلي : ذكر ابن الجوزي قائلا :" إنّه خرج سنة مائة بالجزيرة شوذب الخارجي واسمه بسطام من بني يشكر  فكتب إليه عمر بن عبد العزيز :" بلغني أنّك خرجت غضبا لله ورسوله ولست أولى بذلك منّي فهلمّ إليّ أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا"  فكتب بسطام إلى عمر  " قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك"  وأرسل إلى عمر مولى شيبان حبشيا اسمه عاصم ورجلا من بني يشكر  فقدما على عمر بخناصرة فأخبر بمكانهما فقال فتشوهما لا يكن معهما حديد وأدخلوهما فما دخل قالا السلام عليك ثمّ جلسا.

فقال لهما عمر :"أخبراني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا؟ وما نقمتم علينا؟ "

فقال عاصم :"ما نقمنا سيرتك إنّك لتتحرى العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟"

فقال عمر :" ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها وعهد رجل كان قبلي فقمت ولم ينكره على أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فاتركوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم "

فقالا :" بيننا وبينك أمر إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منّا، وإن منعتناه فلست منا ولسن منك"

فقال عمر :" وما هو؟"

قالا :" رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميّتها مظالم وسلكت غير سبيلهم فإن زعمت أنّك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وتبرّأ منهم الذي يجمع بيننا وبينك ويفرق ".

فتكلم عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :" إنّني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومتاعها ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها أن الله عز وجلّ لم يبعث رسوله صلىّ الله عليه وسلم لعانا".
وقال إبراهيم :" من تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفور رحيم"

وقال عزّ وجلّ :"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" قد سميت أعمالهم ظلما وكفى بذلك ذمّا و نقصا وليس لعن أهل الذنوب فريضة لابدّ منها فإن قلتم أنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟"

قال :" ما أذكر متى لعنته، قال :" أفيسعدك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرّهم ولا يسعني  أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون ؟"  قال :" أما هم  كفار بظلمهم ؟ " قال :" لا لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقرّ به و بشرائعه قبل منه فإنّ أحدث حدثا أقيم عليه الحدّ"  فقال الخارجي  :" إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد اللّه والإقرار بما نزل من عنده قال عمر :" فليس أحد منهم يقول لا أعمل بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنّ القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنّه محرّم عليهم ولكنّ غلب عليهم الشقاء. قال عاصم :" تبرّأ ممن خالف عملك ورد أحكامهم؟

قال عمر :" أخبراني عن أبي بكر وعمر، أليسا من ألافكما وممن توليّان وتشهدان لهما بالنجاة؟"

قالا :" اللهمّ نعم
قال :" فهل علمتنا أن أبا بكر حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتدت العرب قاتلهم فسفك الدماء وأخذ الأموال وسبى الذراري؟"

قالا :" نعم، قال :" فهل علمتما أنّ عمر قام بعد أبي بكر فردّ بلك السبايا إلى عشائرها بفدية؟"

قالا :" فهل برئ عمر من أبي بكر أو تبرؤون أنتم من أحد منهما؟

قالا:" لا، قال :" فأخبراني عن أهل النهران أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟"

قال :" فهل تعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا كفّوا أيديهم فلم يسفكوا دما ولم يخيفوا أمنا ولم يأخذوا مالا؟

قالا :" نعم

قال :" فهل علمتم أنّ أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فديك استعرضوا الناس يقتلونهم ولقوا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته؟" ثمّ صبحوا حيا ما أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يلقون الصبيان في قدور الأقط وهي تفور؟"

قالا :" قد كان ذلك، فقال :" فهل برئ أهل البصرة من أهل الكوفة وأهل الكوفة من أهل البصرة؟"

قالا :"لا" ، قال :" فهل تبرؤون أنتم من إحدى الطائفتين؟"

قالا :" لا " ، قال :" أرأيتم الدين واحدا أم اثنين؟"

قالا :"بل واحدا ، قال :" فهل يسعكم فيه شيء يعجر عنّي؟"  قالا :" لا "

قال :" فكيف وسعكم إن توليتم أبا بكر وعمر وتولى أحدهما صاحبه وتوليتم أهل البصرى وأهل الكوفة وتولى بعضهم بعضا وقد اختلفوا في أعظم الأشياء  : في الدماء والفروج والأموال ولا يسعني  فيما زعمتم إلاّ لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم ويحكم أنّكم قوم جهال أردتم أمرا فأخطأتموه فأنتم تردون على الناس ما قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمن عندكم من خاف عنده ويخاف عندكم من أمن عنده.

قالا :" ما نحن كذلك، قال عمر  :" بل سوف تقرون بذلك الآن هل تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى خلع الأوثان وشهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله فمن فعل ذلك حقن دمه وأحرز ماله ووجبت حرمته وكانت له أسوة المسلمين؟"

قالا :" نعم، قال :" أفلستم أنتم تلقون من يخلع الأوثان ويشهد أن لا إله إلاّ الله  وأن محمدا رسول الله فتستحلون دمه وماله وتلقون من ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان فيأمن عندكم وتحرمون دمه؟

فقال الشيكري : أرأيت رجلا غير مأمون  أتراه أدّى الحق الذي يلزمه الله عزّ وجلّ؟ أو تراه قد سلم؟ قال عمر :" قال أفتسلّم هذا الأمر إلى (يزيد) من بعدك وأنت تعرف أنّه لا يقوم فيه بالحق؟

قال :" إنّما ولاّّه غيري والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي،

قال :" أفترى ذلك من صنع من ولاّه حقاّ؟ فبكى عمر وقال :" أنظراني ثلاثا، فخرجا من عنده ثمّ عادا إليه فقال عاصم :" أشهد أنّك على حق،

فقال عمر لليشكري :" ما تقول أنت ؟"  قال :" ما أحسن ما وصفت ولكن لا افتأت علي المسلمين بأمر أعرض عليهم ما قلت وأعلم حجتهم
وبذلك وضع الخوارج السيوف وأمسكوا عن كل اعتداء أو عنف الذي قاسي منه المسلمون الويلات وذلك لأوّل مرّة في تاريخهم

على أن الجدل بين المسلمين وغيرهم من ذوي العقائد الأخرى كاليهود والنصارة نتيجة إتصالهم بعضهم ببعض إتّسم بكثير من اللين والرفق والتسامح مما كان له التأثير المتبادل تسربت منه عقائد إسرائيليّة ومسيحيّة اصطبغت بها آراء بعض المفسّرين فيما بعد وهو ما أطلق على تسميته بعض الفقهاء والعلماء بالإسرائيليات كما سمع هذا الجدل بتوفير معتقدات إسلاميّة تسرّبت إلى العقائد المسيحية واليهودية من ذلك أنّ المجتمع " الكاتوليكي" الذي انعقد في لتران عام 1225 يعرف الذات العلية بأنها لم تلد ولم تولد وهي ترجمة حرفية من القرآن  (سورة الإخلاص) " لم يلد ولم يولد"

التسامح والتعايش السلمي

لا شك أنّ الجدل يجسّم التعايش السلمي الذي كان يسود المجتمع الإسلامي الذي يتكوّن  في أغلبيّته من المسلمين والأقليّات من يهود ونصارى وصابئة وسامرة وغيرهم ممن حافظوا على عقائدهم الدينيّة ورضوا بالعيش في دار الإسلام يمارسون حياتهم اليومية إلى جانب المسلمين في ظلّ قواعد العدل والحريّة والمساواة حسب الاتفاقيات التي أبرمها الرّسول صلى الله عليه وسلم عند حلوله بالمدينة مع اليهود والنصارى والتي أرسى بمقتضاها القواعد الأساسية التي يقوم عليها التعايش السلمي بين المسلمين و متساكنيهم من الأقليّات  كاليهود والنصارى وغيرهم من الفئات والمجموعات التي يتكوّن منها النسيج الاجتماعي للمجتمع الإسلامي على نحو ما سنرى فيما يلي من هدا الحديث، ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لمّا قام بالدّعوة للإسلام، قاوم مقاومة لا هوادة فيها الوثنية التي كانت عقيدة أغلب القبائل بالجزيرة العربيّة ولمّا انتصر في ثورته على الشرك والوثنيّة وعبادة الأصنام، واجه مشكلة خطيرة تمثّلت في كيفيّة معاملة أهل الكتاب من يهود ونصارى وصائبة وأشباههم، الذين لم يفرض عليهم التخلّي عن عقائدهم المستمدّة من كتبهم المنزّلة واعتناق عقيدة الإسلام، إذ " لا إكراه في الدّين " فوقف أمام اختيارين اثنين إمّا إجلاؤهم وطردهم من الجزيرة العربيّة أو إبقاؤهم بها، فرأى ببعد نظره وهو بصدد بناء دولة، أنّه يمكن التعايش بين اليهود والنصارى وهم أهل الكتاب كأقليّات مع المسلمين فأبرم اتفاقيــــات و معاهدات مع اليهود والنصارى الدين رضوا البقاء في كنف المجتمع الإسلامي.

فتعهّد بحمايتهم وجعلهم في ذمّته وعهده (1) فاحترم معتقداتهم وترك لهم حريّة ممارسة شعائرهم الدينيّة وحريّة ممارسة نشاطاتهم اليوميّة من صناعة وتجارة وحرف، لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات حسبما يستفاد ذلك من مختلف الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمها معهم وخاصّة المعاهدة المعروفة بالصّحيفة التي تضمّنت عددا من المبادئ التي كانت الأساس الذي انتهت إليه،  فيما بعد القواعد التي تحكم علاقات المسلمين بغر المسلمين.

وقد جاء في خطبته لمّا حلّ أوّل مرّة بالمدينة قوله :" إنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم أنفسهم إلاّ من ظلم وآثم فإنّه لا يوتغ  إلاّ نفسه وأهل بيته "

ويتبيّن من هذه الخطبة أنّها معاهدة بكلّ ما تقتضيه المعاهدات من تبادل التزامات وواجبات وعلى هذا النحو وغيره من العهود التي أعطاها النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم لبني عوف من اليهود كالعهود التي أعطاها للنّصارى من أهل نجران وغيرهم كان عهد عمر ابن الخطّاب إلى أهل بيت المقدس بوصفه خليفة رسول الله وقد جاء فيه من ضبط الالتزامات وشرح الواجبات المتبادلة وبان  كلّ الحالات فيما يمنح أهل الذمّة من حقوق وما عليهم من واجبات وهي مظهر من مظاهر الديمقراطيّة المستمدّة من النصّ المقدّس.

الأقلّيات في التشريع الإسلامي

المواطنة

ونتيجة لهذه المعاهدات انطلق مبدأ ذمّة الرسـول وعهده وحمـــايته للأقليّات، وهو ما اصطلح عليه في العصر الحديث بالمواطنة، لكن جلّ الصحابة وحلّ جماعات المسلمين، كانوا وهم يشعرون بنخوة الانتصار على غير المسلمين ضدّ هذه المبادئ والقواعد التي أقرّها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ( للأقليّات).

وهذا ما يفسّر تهديد الرّسول ووعيده لكلّ من تحدّثه نفسه وتخامره بالاعتداء على أيّ فرد من أفراد الأقليّات. وقد صرّح مرارا وتكرارا بأنّه سيكون يوم القيامة خصمهم ليأخذ منهم الحقّ المهضوم.

ثمّ إزاء تشابك العلاقات فيما بين المسلمين وغير المسلمين وفيما بين غير المسلمين بعضهم مع بعض، قطع خطوة أخرى تتمثّل في تطبيق الأحكام المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة الواردة بالكتب المنزّلة على أهل الكتاب.

ومن ذلك أورد المؤرّخون أنّه أمر برجم يهودييّن ثبتت عليهما تهمة الزّنا استنادا للتوراة. وهكذا لم يفرض الرّسول على اليهود والنّصارى شرطا للذمّة والعهد وبالتالي المواطنة التخلّي عن أحوالهم الشخصيّة أيّ القواعد القانونيّة التي تنظم أحكام الزّواج والطّلاق والميراث، لما في ذلك من المسّ بمعتقداتهم الدينيّة، الأمر الذي يتناقض مع المعاهدات المبرمة معهم وثقافاتها يضمّها مجتمع إسلامي واحد متماسك متوازن يكون أساسا لدولة ما انفكّ إلى جانب دعوته للإسلام، يعمل على بنائها وتحقيقها.وعلى هذا الأساس من المبادئ، اجتهد الفقهاء والمشرّعون في استنباط الأحكام والقواعد التي تضبط المركز القانوني للأقليّات التي تكون مع الشرائح الأخرى، النّسيج الاجتماعي للمجتمع الإسلامي. والحديث عن الأقليّات في المجتمع الإسلامي يجرّنا حتما للجواب عن سؤال يطرح نفسه : هل أنّ غير المسلمين أي الأقليّات في المجتمع الإسلامي أجانب؟ للجواب عن هذا السّؤال لا بدّ من إبداء الملاحظتين التاليتين :

هل أنّ الأقليّات الذين يضمّهم المجتمع الإسلامي أجانب؟

أوّلا : لا شكّ ولا خلاف في أنّ الأقليّات أو غير المسلمين الذين يضمّهم المجتمع الإسلامي، هم أهالي البلاد المفتوحة وأصيلوها  كيهود ومسيحي الجزيرة العربيّة وكمجوس ومسيحي بلاد فارس وأقباط مصر وبربر المغرب. وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبارهم أجانب ضمن المجتمع الإسلامي.

ثانيّا : إنّ التعرّف على الحدّ الفاصل والمميّز بين المواطن والأجنبي يتوقّف على تحديد وتعريف الأجنبي.

ففي الشرع الروماني كان يوجد الرّعايا الرومانيّون وكان كلّ من ليس رومانيّا يطلق عليه إسم " بربار " أي أجنبي  وكذلك الأمر بالنسبة للإغريق.

ولم ينفرد المشرّع الروماني أو الإغريقي بهذا الغموض في تعريفه الأجنبي ولم يتبلور تعريف الأجنبي إلاّ في العصر الحديث، بخلق مؤسسّة قانونيّة هي " مؤسّسة الجنسيّة " وقد وضع فقهاء القانون تعاريف متعدّدة للجنسيّة، فمنهم من عرفها بأنّها انتساب الشخص بصفة قانونيّة للشعب المكوّن للدّولة (8) ومنهم من عرفها بأنّها الرابطة السياسيّة والقانونيّة التي تنشئها الدّولة بوصفها شخصا دوليّا تجعل الفرد عضوا في الدّولة.

ومهما تعدّدت التعاريف فهي لا تعدو أن تكون اختلافات لفظيّة لا تأثير لها على المعنى المتحد المستخلص من تلك التعاريف لحقيقة الجنسية التي هي عبارة عن الرابطة السياسيّة والقانونيّة التي تربط الفرد بالدّولة ، على نحو ما كان  يربط غير المسلمين بدول الإسلام بمقتضى العهود التي استحالت إلى إقامة دائمة ومواطنة التي أعطيت لهم والتي وضعت الشروط الأساسيّة والقواعد الأصوليّة لجعلهم أفرادا وأعضاء ينتسبون للشعب المكوّن للدولة.

وعلى هذا الأساس ميّز التشريع الإسلامي بين دار الإسلام وشمولها ورعايتها للمسلمين ولغير المسلمين، أيّ الأقليّات المقيمين إقامة دائمة وبين دار الحرب التي يعتبر كلّ من ينتسب إليها أجنبيّا بكل ما في العبارة من دقّة ومعنى وبذلك ظلّ رباط الدّين الذي يربط بين المسلمين عامّة، وربط الإقامة الدائمة الذي يربط بين الأقليّات بدولة الإسلام، حاجزا قويّا حال دون تبلور فكرة الجنسية بمعناها ومفهومها " الحديث".

وقد بقيت الدولة الإسلامية منذ الفتوحات والوحدات السياسيّة التي تجزّأ لها العالم الإسلامي فيما بعد تقيم وزنا ثقيلا وأهميّة كبيرة لرباط الدّين ولرباط الإقامة الدّائمة، ممّا مكّن المسلمين وأفراد الأقليّات المقيمين إقامة دائمة من التنقّل عبر دار الإسلام بكلّ حريّة واطمئنان، وتسلم المناصب السياسيّة الخطيرة والوظائف العامّة بكلّ أجزاء العالم الإسلامي.

و بالنسبة للمسلمين، أمكن لهم التنقّل بين كلّ أجزاء العالم الإسلامي للقيام بفريضة الحجّ أو طلب العلم أو لغاية الاتصال بالفقهاء والعلماء والمحدثين، وإن يقيموا أمدا يطول أو يقصر في مختلف الأماكن دون الإحساس بفروق كبيرة، وكانوا يقابلون في أي بلد إسلامي بكلّ ترحاب وتكريم وتعرف لهم مكانتهم ويستفيدون وتسند لهم مناصب للتدريس والقضاء وحتى مناصب سياسيّة هامّة في الدّولة.

وهكذا استطاع المؤرّخ التونسي العلاّمة عبد الرّحمان ابن خلدون، أن يتقلّد وظائف حكوميّة هامّة بدول مختلفة سواء في تونس أو المغرب أو الأندلس أو الجزائر أو مصر، دون أن يمنعه انتماؤه لتونس من الاضطلاع بتلك الوظائف السياسيّة الخطيرة.
كذلك الأمر بالنسبة للسان الدين ابن الخطيب الذي تقلّد الوزارة والوظائف السياسيّة الخطيرة بالأندلس والمغرب.  وتمكّن حديثا خلال منتصف القرن التاسع عشر، المصلح خير الدين التونسي القوقازي الأصل، من أن يتبوّأ منصب وزيرا أوّلا  بالبلاد التونسيّة، ثم منصف الصدر الأعظم في الدولة العثمانيّة.

ولقد عدد المقري في كتابه " نفخ الطّيب " أسماء مائتين وثمانين عالما وفدوا إلى المشرق، للقيام بفريضة  الحج أو لطلب العلم وليس للتجارة (11). كما تمكّن غير المسلمين أي المقيمين إقامة دائمة من التنقّل كذلك داخل أجزاء العالم الإسلامي وممارسة مختلف المهن والوظائف وتقلّد شتّى المناصب السياسيّة الخطيرة مثل الوزارة وغيرها وبذلك ظلّ رباط الدين المتين ورباط الإقامة الدائمة أي المواطنة، يربط ويجمع المسلمين وغير المسلمين عامّة حاجزا حال دون تبلور فكرة " الجنسيّة " بمعناه ومفهومها الحديث.

هذه المبادئ دعت الفقهاء إلى النّظر والاجتهاد في وضع جملة من القواعد استمدّوها من القرآن وسنّة الرّسول وعمل الخلفاء الرّاشدون وإن لم تكن تسميتها حسب المصطلحات الحديثة للقانون الدولي الخاصّ.
غير أنّها تشير إلى المبادئ العامّة التي اعتمد عليها في فصل النزاعات المتعلّقة بغير المسلمين المقيمين بتراب الدولة الإسلاميّة وقد ميزت تلك المبادئ بين القوانين التي يجب تطبيقها عليهم والقوانين التي تتعارض مع المبادئ الأساسيّة للمجتمع الإسلامي وهو ما اصطلح على تسميته في العصر الحديث بمبادئ " النظام العامّ ".

وفعلا ذهب جلّ الفقهاء إلى التمييز بين قوانين المعاملات وحتى  هذا استثنوا منها ما يمسّ بموضوع المعاملة، إن كان محرما في التشريع الإسلامي كالرّبا وبيع الخمر ولحم الخنزير وبين القوانين المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة كالزّواج والطّلاق ونظام الإرث وغيرها من الأحوال التي تمسّ بالمبادئ والمعتقدات الدينيّة أي ما لهم فيه شريعة حسب تعبير الماوردي  في كتابه الأحكام السلطانيّة وغيره من الفقهاء.

وقد ورد في كتاب " أصول الفتيا في الفقه على مذهب الإمام مالك " لصاحبه عمر بن حارث الخشني تحت عنوان " الحكم فيما بين أهل الذمّة " ما يلي : 

" الحكم فيما بين أهل الذمّة على الحكم  " بالفتح " واجب فيما تطالعوا عليه من بيع وشراء ورهن وغصب، ولا فيما لهم فيه شريعة مثل الحدود والزنا والطلاق والإرث. فلا يحكم بينهم إلاّ أن يتراضوا جميعا، فإن تراضوا كان الحكم "بالفتح" بالخيار إن شاء حكم وإن شاء ردّهم إلى أهل دينهم، أمّا إذا حكم على رضاهم، فلا يحكم إلاّ بحكم الإسلام ثمّ ذكر تحت عنوان " باب أحكام أهل الذمّة " الحكم على الدمى عند النزاع قال عمر :" أصل مذهب مالك وجميع الرواة من أصحابه إذا كانت خصومة بين مسلم وذمّي، إنّ الحكم بينهما حكم الإسلام وإن كان ذمّيين حكم بينهما الحكم بحكم الإسلام في التظالم مثل الغصب والتعدّي وجحد الحقوق وإنّ في غير ذلك ممّا وجدوه بدياناتهم ويدعونهم بشرائعهم لم ينظر بينهم وردّوا إلى أهل دينهم إلاّ أن يتراضوا بالحكم بينهم فيحكم بينهم بحكم الإسلام  عملا بقوله تعالى :" فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فإن يضرّوك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين "

ويتّضح ممّا سبق أنّ الفقهاء ميّزوا بين حالتين اثنتين :

أوّلا: حالة قيام الخصام بين مسلم وغير مسلم أجمع الفقهاء على أنّ الحكم في هذه الحالة لا يحكم إلاّ بحكم الإسلام (14) تحقيق لما اصطلح على تسميته في العصر الحديث بإقليميّة القوانين وسريانها على كلّ من يقم بإقليم الدّولة.
ثانيا: حالة  قيام الخصام بين غير مسلمين، ففي هذه الحالة يحكم بحكم الإسلام في باب التظالم، مثل الغصب والتعدّي وإنكار الحقوق ويردون إلى أحكام أهل دينهم إن كان موضوع الخصام يتعلّق بأمور لهم فيها شريعة مثل الزواج والطلاق والإرث، إلاّ أن يتراضوا بحكم " الحكم " فلا يحكم في هذه الحالة إلاّ بحكم الإسلام على خلاف بين الفقهاء، ذلك أنّ عددا من الفقهاء والمفسّرين يرى أنّ الحكم إذا تراضوا بالحكم لديه، فإنّه يحكم بينهم بأحكام دينهم عملا بما حكم به الرسول عليه الصلاة والسّلام من رجم اليهوديين، زنيا تطبيقا بأحكام التوراة  وذهب أو حنيفة وأصحابه أنّ حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما لم ينسخ وهو ما أميل إليه ويستخلص من النصوص السابقة، أنّ الخصام إذا كان بين مسلم وذمّي تنطبق أحكام الشريعة الإسلامية مهما كان نوع الخصام ومهما كان موضوعه، أمّا إذا كان الخصام بين ذميّين، ففي هذه الحالة لا تنطبق أحكام الإسلام إلاّ في مادة المعاملات المدنيّة والمادّة  الزجرية كالقتل والجرح والزنا وغيرها.

أمّا فيما لهم في شريعة وديانة من زواج وطلاق وإرث، فتنطبق أحكام شرائعهم ودياناتهم سواء من قضاتهم أو من القضاة المسلمين  إن تراضوا.

وهذا ما يدلّ عليه من أنّ المحاكم الخاصّة التي كانت للنّصارى، هي محاكم كنيسة حسبما نقل ذلك عن آدم ميتز إنّ رؤساء هذه المحاكم كتبوا ممّن كتب القانون ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخصّ الذمّيين وحدهم، ممّا لا شأن للدّولة به ليقطعوا كلّ عذر يتعلّل به النصارى الذين يلجئون إلى القضاة المسلمين بالتحاكم لديهم ويرى الماوردي، إنّه تجوز ولاية الكافر للقضاء بين أهل دينه على رأي الإمام أبي حنيفة مضيفا إلى أنّ هذا وإن كان ولاية عرف الولاة بتقليده جاريا، فهو تقليد الزعامة والرئاسة وليست بتقليد حكم وقضاء وإن امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه وكان حكم الإسلام عليه أنفذ وللواقع أنّ النصوص التي لدينا سواء منها المنقولة عن الإمام مالك وأصحابه أو غيرهم من الفقهاء أو عن الماوردي، تتّسم في هذا الموضوع بالكثير من الغموض عدا ما أورده بكلّ وضوح الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنّ مذهب أبي حنيفة وأصحابه يرون في تفسير آية " إن جاءوك" إنّ حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما لم ينسخ  وهذا التفسير هو الذي يتماشى مع ما سنّه الرسول عليه الصلاة والسلام من تطبيق أحكام التوراة بين اليهود في الزنا والقتل مثلما أشرنا إلى ذلك سابقا، ويرى ابن عطيّة في تفسيره لآية " ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة " من سورة البقرة إنّ في هذه الآية إشارة إلى ما شرّعت له من أخذ الديّة ويذر أنّ بني إسرائيل يوجبون القصاص في التوراة ولا ديّة عندهم حسبما أورد ذلك الإمام ابن عرفة في تفسيره.

وأرى أنّ هذه الآية سبقت الاتجاهات والآراء الحديثة التي تدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام لكن بشروط وقواعد وأحكام ذكرها المفسّرون.

وهـــــذا ما يفسّر كذلك تطبيق الرّســــول صلى الله عليه وسلّــم، أحكام التوراة، إذ لا ديّة عندهم على نحو ما هو موجود بالقرآن وأعتقد أنّ هذا يشير إلى الملامح الأولى للمبادئ الأساسيّة التي إنبنت  عليها قواعد القانون الدّولي الخاصّ فيما بعد، أي في العصر الحديث، إذ القواعد التي أشرت إليها والمستمدّة من عمل الرّسول عليه الصلاة والسلام ومن التشريع الإسلامي الذي أنبنى عليه، تدلّ بكلّ وضوح على التقسيم المعتمد الآن في ميدان القانون الدولي الخاص بين القواعد القانونيّة التي منها ما هو شخصي ويتبع الشخص أينما حلّ وخيّم وهي القوانين التي دافع عنها الفقيه الشهير الإيطالي ماسيني والقوانين العامّة التي تنسحب على كلّ المقيمين وهي القوانين الترابيّة التي عرّفها بكلّ دقّة  الفقيه بيه ونبواييه  إذ لا يتصوّر أن يحكم القاضي المسلم بتطبيق نظام الإرث والزواج المقرّر في الإسلام على ذميّين، لما في ذلك من إشاعة الفوضى والاضطراب في علاقاتهم وحياتهم ممّا لا يتماشى مع ما تقرّر لهم في الدين من الحرمة ورعاية الحقوق وبذلك أرسى الرّسول عليه الصلاة والسلام، القواعد الأساسيّة والمبادئ الأصولية للتعايش السلمي الذي يجب أن يسود كلّ الفئات والمجموعات التي يتكوّن منها المجتمع الإسلامي بقطع النظر عن أجناسهم وأعراقهم وألوانهم ومعتقداتهم، وهذا ما مكّن الفقهاء فيما بعد من أن يسمحوا لأنفسهم بالاعتماد على تلك القواعد والمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم وطبّقها الرسول عليه الصلاة والسلام بإبداء آراء ونظريّات تجاوزت في الكثير من الأحيان حدود التسامح، نندهش لها نحن في عصرنا الحديث. من ذلك أنّه سمح لأهل الذمّة بإقامة محاكم خاصّة بهم "طبعا" لا تعالج إلاّ مسائل الأحوال الشخصيّة مثلما أوردنا ذلك وادي الأمر على نحو ما نقله آدم ميتيز قيام عدد من البطارقة بتأليف كتب في القوانين التي يجب عليهم تطبيقها في أحوال الشخصيّة وحتى فيما يتعلّق بعلاقاتهم بعضهم ببعض حتى لا يلتجئون إلى القضاة المسلمين لفصل نزاعاتهم.

أمّا إذا التجأ بعضهم في خصوماتهم ونزاعاتهم إلى القضاة المسلمين، فإنّهم يستهدفون إلى غضب أقربائهم من اليهود والنصارى وخاصّة رهبانهم ورجال الكنيسة الذين يعتبرون التجاءهم إلى القضاة المسلمين هو ارتداد عن ديانتهم ومعتقداتهم يستوجبون بموجبه القتل أو تسليط أشد العقوبات عليهم، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ تمكين الأقليات من تكوين محاكم خاصّة بهم من شأنه أن يمس بسيادة الدولة الإسلاميّة، كانوا واعين بهذا الأمر ولكنّهم تغاضوا عن ذلك في نطاق المبادئ التي من الأحيان حدود التسامح، نندهش لها نحن في عصرنا الحديث. من ذلك أنّه سمح للأقليّات بإقامة محاكم خاصّة بهم " طبعا " لا تعالج إلاّ مسائل الأحوال الشخصيّة، مثلما أوردنا ذلك وادي الأمر على نحو ما نقله آدم ميتيز قيام عدد من البطارقة بتأليف كتب في القوانين التي يجب عليهم تطبيقها في الأحوال الشخصية وحتى فيما يتعلّق بعلاقاتهم ببعضهم بعض  حتى لا يلتجئون إلى القضاة المسلمين لفصل نزاعاتهم.

أمّا إذا ما التجأ بعضهم في خصوماتهم ونزاعاتهم إلى القضاة المسلمين، فإنّهم يستهدفون إلى غضب أقربائهم من اليهود والنّصارى وخاصّة رهبانهم ورجال الكنيسة الذين يعتبرون التجاءهم إلى القضاة المسلمين هو ارتداد عن ديانتهم ومعتقداتهم يستوجبون بموجبه القتل أو تسليط أشد العقوبات عليهم، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ تمكين الأقليّات من تكوين محاكم خاصّة بهم من شأنه أن يمسّ بسيادة الدولة الإسلامية، كانوا واعين بهذا الأمر ولكنهم تغاضوا عن ذلك في نطاق التي أرساها الإسلام وفسّرها الفقهاء تفسيرا واسعا فيما بعد وواصل الفقهاء تكريس علومهم الغزيرة وجهودهم المضيئة في التأويل والتخريج وتفسير مفهوم التسامح استنادا لتلك المبادئ والقواعد فقد أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس في القسيم والتفريع والتفصيل، ليخلصوا إلى التمييز بين وزارتي التفويض والتنفيذ، فذكروا أنّه يحجر اسناد وزارة التفويض إلى غير المسلم بناء على ما هو مفوض له من السلطات من الخليفة أو من نيابته عند الاقتضاء. أمّا وزارة التنفيذ فيمكن اسنادها لغير المسلم لما فيها من تحديد لأعمال معيّنة يكلف القيام بها من طرف الخليفة، واعتمد الخلفاء لأسباب سياسيّة حينا وشخصيّة في أغلب الأحيان على هذه التفاسير مسندين مناصب وزاريّة لغير المسلمين، على الرّغم من إدراكهم ما فيها من استهتار واستخفاف بهيبة الدولة وسيادتها وما ينشأ عن ذلك من غضب المسلمين واستنكارهم. وعلى كلّ حال رصد لنا المؤرخون أنّ العديد من الخلفاء المسلمين أسندوا عبر تاريخ الحضارة الإسلامية مناصب وزاريّة لغير مسلمين من يهود ونصارى، استنادا على مبدأ التسامح وتكريسا للتعايش السلمي الذي نادى به الإسلام.

وهكذا نشأ عن التسامح قيام التعايش السلمي ساد كلّ العناصر التي كان يتكوّن منها المجتمع الإسلامي، ممّا مكّن الأقليّات من يهود ونصارى وغيرهم من الامتزاج والاندماج، اندماجا كليّا في المجتمع الإسلامي، وبرزت مظاهره في اللّغة والعادات والتقاليد والاشتراك حتى الاحتفال بالأعياد الإسلامية واليهوديّة والمسيحيّة وغيرها والولاء للوطن  الذي كان يجمعهم وهم يتعاونون ويشتركون في الحياة اليوميّة.

ومن هنا نستطيع أن تقول أنّه تكوّنت بفضل متانة هذه الروابط بين كلّ المقيمين إقامة دائمة بدار الإسلام، وحدة سياسيّة خلافا لما ذهب إليه الباحث آدم ميتز الذي ذكر " أنّ أكبر فرق بين الإمبراطوريّة الإسلاميّة وبين أوروبا التي كانت كلّها على المسيحيّة في العصور الوسطى وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين وأولئك هم أهل الذّمة الذي كان وجودهم من أوّل الأمر حائلا بين شعوب الإسلام وبين تكوين وحدة سياسيّة. وقد ظلّت كنائس اليهود والنصارى  وأديرتهم أجزاء غريبة واستند أهل الذمّة إلى ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود وما منحوه من حقوق فلم يرضوا بالاندماج في المسلمين.

وقد حرص اليهود والنصارى على أن يظلّ المسلمون بدار الإسلام دائما يشعرون أنّهم أجانب منتصرون لا أهل ووطن.

ولا شكّ أنّ هذا الاستنتاج الذي تبعه فيه  البعض من الباحثين مجانب للصّواب، ذلك أنّ الدّولة في تعريف علماء القانون الدولي العام، هي وحدة سياسيّة مستقلة تتكوّن من مجموعة من الأفراد يملكون إقليما معيّنا وتضمّهم سلطة واحدة، ترمي لأن توفّر للمجتمع ولكلّ أفراده حريّته والجو الصالح للتمتّع بحقوقه على غرار ما كان يوجد بالدّولة الإسلاميّة.

فالمجتمع الإسلامي الذي كان يتكوّن من مسلمين وغير مسلمين، هو أمّة واحدة وهو ما ينطبق عليه تعريف الفيلســوف Renan الذي عـــرّف الأمّة بقـوله :" الأمّة هي وحدة روحيّة مبناها رغبة أصليّة في معيشة مشتركة ". على أنّ الاختلاف في الدين لم يحل قطّ دون قيام وحدة سياسيّة على نحو الوحدات السياسيّة الموجودة إلى الآن بسوريا ولبنان ومصر وغيرها، التي تضمّ المسلمين والمسيحيين وعلى نحو الوحدات السياسيّة الموجودة في العصر الحديث كألمانيا وفرنسا وغيرها التي يعتنق أبناؤها أديان متنوّعة وعقائد مختلفة. فاليهود في تونس مثلا، شكّلوا بفضل الاندماج والامتزاج منذ عهود سحيقة في التاريخ إلى العصر الحديث، جزءا من الشعب التونسي بفضل روابط الإقليم واللغة والعادات واللباس والتقاليد وحتى السّكن، ففي كثير من المدن داخل البلاد التونسية كنابل وتستور وجربة وجرجيس كان يقطن بمحل سكني يشتمل على عدّة غرف عائلة مسلمة وعائلة يهوديّة، وهم يشتركون في حياتهم اليوميّة حتى في المرافق العامّة كغرف الطبخ والاستقبال، ممّا كان يجعل التمييز بين المسلم واليهودي أو المسلمة واليهودية من الصعوبة بمكان، وقد كتب قنصل فرنسا فيسوس عام 1845م " إنّ المرء يصادف هناك عددا ملحوظا من الإسرائيليين الذين يحيون حياة العرب عينها فيتسلّحون ويلبسون مثلهم ويمتطون الجياد مثلهم ويخوضون الحرب عند المجتمع الإسلامي، برزت مظاهره في اللغة والعادات والتقاليد والاشتراك حتى في الاحتفال بالأعياد الإسلاميّة واليهودية والمسيحيّة وغيرها والولاء للوطن  الذي كان يجمعهم وهم يتعاونون ويشتركون في الحياة اليوميّة.

ومن هنا نستطيع أن نقول أنّه تكوّنت بفضل متانة هذه الروابط بين كلّ المقيمين إقامة دائمة بدار السّلام، وحدة سياسيّة.

فالمجتمع الإسلامي الذي كان يتكوّن من مسلمين وغير مسلمين، هو أمّة واحدة وهو ما ينطبق عليها تعريف الفيلسوف رينان Renan الذي عرّف الأمّة بقوله :" الأمّة هي وحدة روحيّة مبناها رغبة أصليّة في معيشة مشتركة ". على أنّ الاختلاف في الدين لم يحل قطّ دون قيام وحدة سياسيّة على نحو الوحدات السياسيّة الموجودة إلى الآن بسوريا ولبنان ومصر وغيرها، التي تضمّ المسلمين والمسيحيين وعلى نحو الوحدات السياسيّة الموجودة في العصر الحديث كألمانيا وفرنسا وغيرها التي يعتنق أبناؤها أديان متنوّعة وعقائد مختلفة. فاليهود في تونس مثلا، شكّلوا بفضل الاندماج والامتزاج منذ عهود سحيقة في التاريخ إلى العصر الحديث، جزءا من الشعب التونسي بفضل روابط الإقليم واللغة والعادات واللباس والتقاليد وحتى السّكن، ففي كثير من المدن داخل البلاد التونسية كنابل وتستور وجربة وجرجيس كان يقطن بمحل سكني يشتمل على عدّة غرف عائلة مسلمة وعائلة يهوديّة، وهم يشتركون في حياتهم اليوميّة حتى في المرافق العامّة كغرف الطبخ والاستقبال، ممّا كان يجعل التمييز بين المسلم واليهودي أو المسلمة واليهودية من الصعوبة بمكان، وقد كتب قنصل فرنسا فيسوس عام 1845م " إنّ المرء يصادف هناك عددا ملحوظا من الإسرائيليين الذين يحيون حياة العرب عينها فيتسلّحون ويلبسون مثلهم ويمتطون الجياد مثلهم ويخوضون الحرب عند الضرورة مثلهم.

وهؤلاء اليهود كانوا مندمجين في بقيّة السكان، بحيث يبدو من المستحيل تميّزهم عنهم ، وقد جاء في التعاليق لمؤلفي الكتاب أنّ هذا التقرير الذي كتب في تونس إنّما ينطبق بلا شكّ على مجمل يهود المغرب قبل مرسوم كريميو (Crémieux)  فكان كلّ ذلك يتمّ في ظلّ التعايش السلمي وهذا ما جعل اليهود في تونس يتمسّكون في العصر الحديث بجنسيّتهم التونسيّة في عهد الحماية، رغم محالة فرنسا إغرائهم بشتى الوسائل لتبني الجنسيّة الفرنسيّة عدا بعض الحالات الاستثنائية التي لا يمكن اعتمادها كقاعدة عامّة، وهذا ما جعلهم كذلك يساهمون في مساعدة الحركة الوطنيّة الرامية للتحرّر من رتقة الاستعمار بالتمويل وبالعمل على نحو ما قام به المحامي راوول بن عطار، لما أخفى بمحل سكناه إبّان الثورة المسلحة أحد الزعماء التاريخيّين، وقد أعترف لهم إخوانهم المسلمون التونسيون بهذه المزايا فكان من بين أعضاء المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور التونسي المرحوم ألبار بسيس، وهو من أمجد العائلات اليهودية التونسيّة. 

كما أسندت عند توحيد القضاء مناصب قضائيّة هامّة لعدد من المحامين اليهود، ولا ننكر أنّه وقعت في فترات متقطعة بعض الاعتداءات على اليهود من أفراد ينتمون إلى السفلة من الناس، كانت تثير دائما غضب واستنكار عامّة رجال الدّين والعقلاء من القوم وقد أدّى بالولي الصالح سيدي محرز بن خلف إلى حمايتهم، ببناء حي كامل لهم بجوار محل سكناه الذي دفن به والذي أصبح مزارا يزوره اليهود ويكنّون له محبّة واحترام وتقديس إلى اليوم، ويقدمون لمزاره الشموع والبخور وغير ذلك من الهدايا اعترافا منهم له بالجميل، كذلك يمكن القول بالنسبة ليهود المغرب الشقيق.

أمّا يهود الجزائر فقد فرضت السلطات الفرنسية الجنسيّة الفرنسية على كلّ سكان البلاد باعتبارها مقاطعة فرنسية. فاختلاف الدين في المجتمع الإسلامي لسبب وجود أقليّات يهوديّة أو مسحيّة، لم يحل دون قيام وحدة سياسية عرفتها الدولة الإسلامية عبر تاريخها منذ الفتح الإسلامي، وحتى الوحدات السياسية التي تجزّأ إليها العالم الإسلامي، كانت تضمّ مسلمين وغير مسلمين وهذه من الحقائق المسلّم بها من كلّ المؤرّخين.

وخلافا لما ذهب إليه جورج قرم الطي انضمّ لآدم ميتز وغيره من المستشرقين الذين يرون أنّ وجود غير المسلمين، ضمن المجتمع الإسلامي، كان يحول دائما دون قيام وحدة سياسيّة مؤكّدا أنّه لم يكن لهم أي ولاء إلاّ لدينهم ويندر أن يكون لهم ولاء للوطن إلاّ عند الاغتراب، ويتجلّى واضحا ممّا بيّناه سابقا أنّ هذا الاستنتاج مجانب للصّواب، إذ لا يمكن أن يغيب عن الأذهان مساهمة أهل الأقليّات في بناء مؤسسّات الدولة المدنيّة الحديثة، مؤسسات سياسية وإداريّة وثقافيّة واقتصادية واجتماعية التي تكوّنت منها وحدة سياسية للدولة الإسلامية بكلّ ما في هذه العبارة من دقة ومعنى حتى حسب المضمون العلمي الحديث لمعنى هذه الكلمة.

كذلك لا يمكن للبحث العلمي أن يتجاهل ما أبداه المسيحيون من الولاء لوطنهم " دار الإسلام " من تعرية أخبار الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية لفائدة المسلمين ومشاركتهم في الدفاع عن وطنهم جنبا إلى جنب المسلمين ممّا أدّى بالفقهاء إلى قراءة جديدة للنصوص وتأويلها لإعفائهم من الجزية وإعطائهم حق مشاركة الجنود المسلمين في الغنائم والعطايا لقاء ذلك على ما رصده لنا رواة الأخبار والتاريخ على أنّ ولاء المسيحيين لأوطانهم أستمر حتى إلى العصر الحديث.

فالمسيحيّون المصريون شاركوا مع إخوانهم المصريّين المسلمين في ردّ حملة نابليون كما شاركوا في معركة تحرير وطنهم المصري من نير الاستعمار الإنكليزي وتحمّلوا بسبب ذلك مختلف أنواع الإضطهادات والملاحقات.

كذلك الأمر بالنسبة لمسيحي سوريا ولبنان إبّان معركة التحرير ومقاومة الاستعمار الفرنسي. وفي ظلّ هذه الأحكام وبفضل هذه المبادئ، تعايشت الأقليّات المتنوّعة في أجناسها وأعراقها وأصولها والمختلفة في عقائدها وعاداتها وتقاليدها ضمن مجتمع إسلامي موحّد، يسوده التسامح والوفاق والوئام تتواكب فيه الثقافات المتعددة وتتواجد فيه الديانات السماوية الثلاث وكانت المساجلات بين أهل الرأي مصداق الوصيّة الجليلة " وجادلهم بالتي هي أحسن " (النحل 152).

وكانت الوظائف في مختلف مجالات المجتمع مفتوحة في وجه الجميع تعدديّة كاملة قبل ما توفقت إليه المجتمعات الغربية بقرون عديدة، مما أتاح للأقليات ومختلف الفئات التي تكوّن منها النسيج الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، المساهمة في ازدهار الميادين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لم تدرك مثله المجتمعات الأوروبيّة إلاّ في عهد قريب.وقد ذكرت الفيلسوفة (Synthia Fleury) أنّ النهضة (الغربية) ما كانت لتتحقق لو لم تسبقها مداولات كبرى لمفكرين شرقيين وغربيّين أمثال ابن سينا و" ابن الرشد " و" ابن ميمون " و (Mirandole)  و" القديس توما الأكويني " و بيك دي لأميراندول Pic de la Mirandole saint Thomas d’Aquin، لم تخطر ببال أحد من قبل في نطاق قضايا العقل والوحي، وهو حوار تطارحته الأفلاطونيّة والمشائية والأفلاطونيّة الحديثة بصيغ جديدة وأحيانا معدّلة تحت تأثير المراجع العربيّة أوّلا ثمّ اليهودية والمسيحيّة.

وهكذا أينعت الحرية في دار الإسلام التي لا يغمط فيها حق التعبير وإبداء الرأي وكان من الحقوق المصونة لكلّ إنسان نتيجة للثقافة الإسلامية التي رسخت و نشرت جوّا مشعّا يتّسم بالعقلانيّة وباحترام الآخر ويؤمن إيمانا مطلقا بالعقل و يدافع عن حريّة المعتقد للجميع.

وعلى هذا الأساس فتحت الثقافة الإسلامية مجالا واسعا أمام المفكرين والفلاسفة والمفسرين لاعتماد العقل والمنطق والروح العلمية غير متنكرين لعقيدتهم الإسلامية مما أثار معارضة أهل السنّة لهذا المنهج قائلين إنّ مناهجهم الجديدة بدعة تنطوي على تهديم أسس الدين وقد ناصرهم الإمام الغزالي أنّ العقلانية في ثقافتنا وحرمنا من الاعتماد على العلم والاستفادة من أنوار العقل.

ونتج عن موقف مفكري أهل السنة غلق باب الاجتهاد والقضاء على الفلاسفة والمفكرين وتسبب حتى في حرق كتبهم مثل ما وقع لابن رشد وغيره مما مكّن رؤساء الدول العربيّة والإسلامية، من احتكار وسائل ضغط لجعل تحقيق الديمقراطية التي نادى بها الإسلام أمرا مستحيلا.

 تحميل المقال PDF

حسن الممّي
قاضي
شيخ مدينة تونس سابقا










 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.