أخبار - 2020.09.07

ابن خلدون وقــرّاؤُهُ: الفكـر الخلدونـــيّ مسـافـرا عبـر الأزمنــة والأمــكـنة

ابن خلدون وقــرّاؤُهُ: الفكـر الخلدونـــيّ مسـافـرا عبـر الأزمنــة والأمــكـنة

من نفائس الإصدارات التّي نشرها مؤخّرا المجمع التّونسيّ للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) كتاب " ابن خلدون وقرّاؤه" للأستاذ الكبير أحمد عبد السّلام (1922 – 2007) بترجمة الأستاذ الصّادق الميساوي. والكتاب في الأصل محاضرات شهيرات كان قد ألقاها المؤلّف في مؤسّسة علميّة عريقة هي " الكوليج دي فرانس " في شهر مارس من سنة 1981، وصدرت عن المنشورات الجامعيّة الفرنسيّة  (PUF)سنة 1983 تحت عنوان   « Ibn Khaldun et ses lecteurs »  بتقديم للمستشرق المعروف أندريه ميكال.

ونالت تلك المحاضرات صدًى واسعا في الأوساط العلميّة الغربيّة والعربيّة وباتت منذ ذلك التّاريخ مرجعا أساسيّا لكلّ من رام البحث في الفكر الخلدونيّ وسندا لا غنى عنه في الإحاطة بالدّراسات الخلدونيّة قديما وحديثا.

وهي أربع محاضرات تناول فيها الأستاذ أحمد عبد السّلام بالتّحليل المنهجيّ المعمّق والقراءة المتبصّرة النّاقدة أبرز ما صُنّف حول ابن خلدون منذ القرن التّاسع الهجريّ (الخامس عشر الميلادي) إلى القرن الرّابع عشر الهجريّ (العشرين الميلادي). فهي كلام على الكلام بعبارة التّوحيدي أو قراءة في قــــراءات اهتمّ أصحابها بتدبّر " المقــدّمة" و" كتاب العبر".

أمّا المحاضرة الأولى فقد تصدّى فيها المؤلّف بالدّرس لقارئ قديم من قرّاء ابن خلدون وهو ابن الأزرق الأندلسيّ (831 ه – 893 ه) صاحب كتاب "بدائع السِّلك في طبائع المُلْك". ولعلّ أهمّ ما لاحظه الأستاذ أحمد عبد السّلام في قراءة ابن الأزرق لمؤلّفات ابن خلدون أنّ صاحب " بدائع السّلك" لا يستفيد في تلك القراءة من كلّ مكوّنات الثّقافة العربيّة الإسلاميّة كما تشكّلت خلال القرون المديدة، فلا يستند إلى علم التّاريخ ولا إلى علم الجغرافيا بل إنّه يتحرّك في مجال ضيّق هـــــو مجـــال الفقه وما يتّصل به من معارف ولا يمتح إلّا من معينــــه المحـــدود.

ولكن رغم ما في كتابه من قصور فإنّه يُخبر عن أصول بعض المفاهيم الخلدونيّة، وبذلك اعتبره المؤلّف كتابا يُتمّم المصادر التّي أخذ منها صاحب المقدّمة، وهي مصادر مَنْ تَقدَّمَه من العلماء مثل الماوردي والغزالي خصوصا، ومصادر من سبقه من الفقهاء مثل الشّاطبي.

وأمّا المحاضرة الثّانية فخصّصها الأستاذ أحمد عبد السّلام للنّظر في قراءات المستشرقين لابن خلدون في القرن 19 وبداية القرن 20، فعاد إلى كتابات عدد هامّ من أعلام الاستشراق من أمثال سلفستر دي ساسّي وجوزيف فان هامر برغستال وجاكوب غرابرغ دي همسو وألفريد فان كريمر ولودفيغ غومبلوتز ودي بور وقوتياي وإيف لاكوست وغيرهم.

ولاحظ المؤلّف في هذا الصّدد أنّ عددا من المستشرقين حاول أن يجعل ابن خلدون نظيرا عربيّا لبعض فلاسفة ومفكّري الغرب فلقّبه أحدهم " بمونتسكيو الشّرق" ووازن آخر بينه وبين ميكيافيلّي وافترض تأثير ابن خلدون في ميكيافلّي عبر الحسن بن محمّد الوزّان (1489 – 1552) المعروف بليون الإفريقي الذّي كان قد انتصب للتّدريس في مدينة بولونيا الإيطاليّة. وخلص أحمد عبد السّلام في ختام المحاضرة إلى أنّ اكتشاف أوروبا لابن خلدون في القرن 19 والقرن العشرين أثار " قراءات" كثيرا ما كانت ذات صلة وثيقة بإيديولوجيات العصر، فما أكثر المؤلّفين الذّين ما درسوا كتاب العبر والمقدّمة على وجه الخصوص إلّا ليجدوا تأكيدا لمواقفهم العقديّة.

واعتنى الأستاذ أحمد عبد السّلام في المحاضرة الثّالثة بدراسة قراءات المؤلّفين العرب في القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين من أمثال الطّهطاوي ومحمّد عبده وجمال الدّين الأفغاني وخير الدّين وابن أبي الضّياف فاستنتج أنّ الطّريقة التّي سلكها هؤلاء المؤلّفون في قراءة مقدّمة ابن خلدون تثبت أنّهم بحثوا في هذا المؤلَّف عن أطر للتّفكير وبحثوا فيه عن توجّهات تُلائم مشروعهم السّياسيّ الذّين يرومون تحقيقه، وبحثوا فيه كذلك عن تصوّرات ومفاهيم تدعم فكرهم وتمكّنهم من بسط آرائهم بطريقة لا تلوح لقرّائهم غريبة كلّ الغرابة، فهي قراءات موجَّهة وانتقائيّة. ورأى من جهة أخرى أنّ هذه القراءات تكشف الجهود التّي بذلها هؤلاء المؤلّفون حتّـــى يُحيُوا المفاهيم الخلدونيّة ويُعيدوا استعمالها في معترك العمل السّياسيّ.

وتدرّج الأستاذ أحمد عبد السّلام في المحاضرة الرّابعة إلى الاهتمام بقراءات النّصف الثّاني من القرن العشرين فتوقّف عند كتابات بعض المستشرقين المعاصرين من أمثال السّوفياتيّة سَفَتيلانا باتِسييفا والفرنسي إيف لاكوست والعرب محسن مهدي وعلي الوردي وناصيف نصّار ومحمود أمين العالم ومحمّد عابد الجابري وعلي أومليل.
ولمّا كانت أغلب هذه القراءات تصدر عن تأثّر بالفكر الماركسيّ فقد رأى بعضُها أنّ طرافة ابن خلدون التّي تُقرّب بينه وبين ماركس تكمن في أنّه لم يُفسّر تطوّر المجتمع بأسباب خارجة عن المجتمع وإنّما تكمن في أنّه فسّر هذا التّطوّر بالرّجوع إلى أسباب المجتمع الدّاخليّة وبالرّجوع خاصّة إلى بنية اقتصاده. وعلى هذا النّحو اعتبروا أنّ ابن خلدون حلّل قوانين تطوّر المجتمعات تحليلا صائبا بحسب ما كان له من تجربة وبحسب ما كان له من تصوّرات حدّد من شأنها المستوى الاقتصادي والاجتماعي للفترة التّي عاش فيها.

وانتهى المؤلّف في الختام إلى القول بأنّ آثار ابن خلدون لم تُدرَس حتّى الآن (1981) دراسة وافية شافية فلعلّ بعض ما سيكون من دراسات قادمة يُنير أمورا مازالت غامضة ويُضيء أشياء مازالت مبهمة. وقدّم بعض الرّؤى التّي استخلصها ممّا حلّله من قراءات لتكون علامات يهتدي بها دارسو ابن خلدون إلى طريق قويمة.

وحـــــريّ بنا أن نشيد في النّهاية بمستوى التّرجمة، فقد نهض لها الأستاذ الصّادق الميساوي وزاولها بقدر وافر من البراعة يدلّ على أنّه تشرّب النّصّ الأصليّ وأحسَنَ تذوّقه وأخرج التّرجمة العربيّة في لغة فصيحة أنيقة وفي أسلوب وفيّ كلّ الوفاء لأسلوب الأستاذ أحمد عبد السّلام فأعطى تلك الدّروس حياة جديدة وقدّمها إلى القارئ العربيّ على أكمل صورة وأوفاها.

د. الحبيب الدّريدي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.