خفـايا الأزمــة المتصاعــدة في العـلاقات بيـن الصين والــولايات المتحــدة الأمريكيـة
بقلم أحمد بن مصطفى - يبدو أنّ الانتفاضة غير المسبوقة التي تجتاح الولايات المتحدة في علاقة بالجريمة العنصرية التي ذهب ضحيّتها مواطن أمريكي من أصول أفريقية، قد حجبت نسبيّا الحملة المتواصلة للرئيس ترامب ضدّالصين على خلفية أزمة الكورونا و ما خلّفته من حصيلة كارثية من حيث عدد الضحايا الأمريكيين وهو ما انعكس سلبا على شعبيّته وأضحى يهدّد حظوظه الانتخابية.
في الواقع، يدرك الجميع أنّ المنافسة الصينية الأمريكية في المجال الاقتصادي بلغت أشواطا متقدّمة، وقد تحوّلت إلى صراع إقليمي ودولي على الزعامة والنفوذ بالتوازي مع نهاية الأحادية القطبية وإعادة تشكيل المشهد الجغراسياسي من خلال بروز قوى إقليمية صاعدة وتكتّلات جديدة تسعى إلى تحجيم الهيمنة الأمريكية الغربية التي سادت العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد اعتاد الملاحظون منذ انتخاب الرئيس ترامب على حملاته الدورية على الصين في إطار سياسته الحمائية وأسلوب إدارته للحرب التجارية التي يخوضها ضدّ القوى الاقتصادية والتجارية الصاعدة المهدّدة لمكانة أمريكا كأكبر قوّة اقتصادية في العالم والمتحديّة لسلطتها في مناطق نفوذها التقليدية.
جذور الصراع الصيني الأمريكي المتصاعد
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تتحوّل الصين مباشرة إلى المنافس والعدوّ الجديد للولايات المتحدة بل أصبحت إحدى الوجهات المفضّلة للمستثمرين والصناعيين الأمريكيين الباحثين عن تضخيم المرابيح وتقليص كلفة الإنتاج في إطار انتشار العولمة المالية والتجارية الخاضعة للهيمنة الأمريكية الغربية. كما أصبحت الصين من أكبرالمقرضين للولايات المتحدة من خلال مئات آلاف المليارات من سندات الخزينة الأمريكية التي اقتنتها ومن أكبر المزوّدين للسوق الأمريكية من الموادّ الاستهلاكية وكذلك من الموادّ الأوليّة الصناعية.وانعكس ذلك سلبا على الميزان التجاري وميزان المدفوعات للولايات المتحدة مثلما أدّى إلى تفشّي البطالة في المناطق الصناعية الأمريكية. وقد ازداد الوضع قتامة بفعل أزمة العولمة الاقتصادية التي اندلعت سنة 2007 بأمريكا قبل امتدادها إلى أوروبا وبقيّة أرجاء العالم.
وهكذا تعزّزت مكانة الصين كقوّة اقتصادية صاعدة ومنافسة خاصّة وأنّ جلّ القوى الصناعية الغربية نسجت على نفس المنوال ممّا جعلها تابعة للصين وعدد محدود من البلدان الآسيوية في التزوّد بعديدالموادّ والسلع الحيوية ومنها التجهيزات الطبيّة الضرورية للتصدّي لوباء الكورونا المستجدّ.
والمعلوم أنّ الرئيس ترامب، توخّى منذ انتخابه مقاربة صدامية في تعامله مع المنافسين الاقتصاديين بما فيهم الحلفاء التقليديين الغربيين كألمانيا والاتحاد الأوروبي بسبب العجز الذي تشكو منه المبادلات الأمريكية معهم معتبرا أنّ جميعهم استفادوا اقتصاديا وتجاريا على حساب الاقتصاد الأمريكي وأنّ الوقت قد حان لتصحيح هذا الوضع. ولكنّ الحملة على الصين وروسيا تتّخذ منحى تصاعديا لأنّ النزاع معهما يتعدّى دائرة التنافس التجاري ليطال الصراع الخافت السياسي والعسكري على زعامة العالم من خلال السيطرة على مناطق النفوذ واكتساب مقوّمات الهيمنة العلمية والتكنولوجية فضلا عن التحكّم في الثروات والمواقع والممرّات الاستراتيجية.
والملاحظ أنّ الصين تشكو من السياسة الأمريكية التوسعيّة في محيطها الأمني المباشر وتعتبر الوجود العسكري الأمريكي في بحر الصين ومضيق تايوان تهديدا لأمنها ووحدتها الترابية وهي تعمل منذ عقود على تدعيم قوّتها العسكرية وتعزيز نفوذها الإقليمي بهدف مواجهة الخطرالأمريكي وإبعاده عن حزامها الأمني حتّى يتسنّى لها استرداد جزيرة تايوان سلما أوحربا. لذلك سعت منذ سنوات إلى بناء تحالفات جديدة تساعدها على تحجيم الهيمنة الأمريكية وإعادة التوازن إلى العلاقات الدولية وهي تلتقي في ذلك مع عديد البلدان المعرّضة مثلها لسياسة التهديد والعقوبات الأحادية التي تنتهجها الإدارة الأمريكية بتنسيق مع حلفائها ضدّ بعض البلدان ومنها خاصّة إيران وروسيا وفنزويلا وغيرها.
وهذا هو الإطار الذي جاء فيه مشروع طريق الحرير وإحداث مجموعة «البريكس» وكذلك «معاهدة شانغهاي» و المبادرة الروسية بإرساء «الشراكة الكبرى الأوروآسياوية»، فضلا عن البنك الذي تمّ إحداثه سنة 2014 بمبادرة من الصين لتمويل مشاريع البنى التحتية في المنطقة الآسيوية مع الإشارة إلى أنّ مثل هذه المبادرات تطمح إلى أن تتوصّل، على المدى المتوسّط، إلى بعث مؤسّسات وهياكل سياسية ومالية موازية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وللأدوات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة وحلفائها لفرض سطوتها المالية والتجارية وخنق البلدان التي ترفض الخضوع لهيمنتها.
وهكذا أصبحت الولايات المتحدة تواجه تحديات عديدة ومتزامنة على جبهات مختلفة ممّا أثّرعلى قدراتها الردعية أمام الصين وحلفائها خاصّة في ظلّ تعاظم قوّتهم العسكرية والاقتصادية وجرأتهم المتزايدة على تحدّي الولايات المتحدة ومواجهة مخطّطاتها والسعي إلى إفشالها مثلما حصل في سوريا والمنطقة الخليجية حيث سجّلت الهيبة الأمريكية انتكاسة شديدة بعد التدخّل الروسي ثمّ الضربة العسكرية الإيرانية ضدّ القواعد الأمريكية ردّا على اغتيال قائدها قاسم سليماني.
ويبدو أنّ غياب الردّ الأمريكي هو الذي دفع طهران إلى توسيع دائرة تحدّيها للولايات المتحدة بإقدامها على كسر الحصار البحري المفروض على فنزويلا واستعدادها لمزيد من الخطوات المماثلة بتنسيق مع الصين مستغلّة ضعف الموقف الداخلي للرئاسة الأمريكية وما يتردّد عن تحفّظ القادة العسكريين الأمريكيين إزاء النزعات الحربية لترامب.
ويعتقد البعض من المختصّين أنّ القيادة الإيرانية تسعى بمعيّة حلفائها وخاصّة منها الصين إلى ضرب مصداقية الرئيس الأمريكي والقضاء على حظوظ إعادة انتخابه وهي ترى أنّ الظرفية الحالية قد تكون الأفضل لتحقيق هذا الهدف سيّما في ظلّ ما صدر عن المفكّرالأمريكي نوام شومسكي من تحاليل مؤكّدة على الطابع المتعمّد لنشر الفيروس بالصين وإيران وأوروبا في إطار مخطّط مدبّر سلفا يستهدف القوى المهدّدة للزعامة الأمريكية وذلك في أفق إعادة تشكيل العالم بما يحافظ على هذه الهيمنة.
ولعلّ هذا ما يفسّرالحدّة المتزايدة لمواقف ترامب الأخيرة إزاء الصين في علاقة بأزمة كورونا ممّا جعل الصراع الصيني الأمريكي الخافت نسبيا طيلة السنوات الماضية، يعود إلى صدارة الأحداث فضلا عمّا يشهده من صخب وتهديدات متبادلة في تحوّل نوعي واضح من حيث الأهداف الاستراتيجية التي يصبو إلى تحقيقها كلا الطرفين.
ففي ندوته الصحفية الأخيرة بتاريخ 29 ماي المنقضي لم يكتف ترامب بتحميل الصين مجدّدا المسؤولية عن تفشّي فيروس كورونا في الولايات المتحدة والعالم بل أعلن عن سحب الوضع القانوني الخاصّ الممنوح إلى هونغ كونغ لحرمان الصين من الامتيازات الاقتصادية ذات الصلة كما هدّد ضمنيا بدعم الحراك الانفصالي في هونغ كونغ وهو ما يشكّل خطّا أحمرا بالنسبة إلى الصين طالما أنّ الأمر يتعلّق بما تعتبره مساسا بوحدتها الترابية مثلما هو الأمر بالنسبة إلى تايوان.
وفي الجانب الاقتصادي أعلن عن تشديد العقوبات عن شركة هواوي الصينية العملاقة المختصّة في مجال تكنولوجيات الاتّصال التي سبق استهدافها بتهمة التجسّس الاقتصادي في البلدان الغربية حيث تسعى الإدارة الأمريكية وحلفائها إلى الحيلولة دون تمدّدها واكتساحها للمجالات الحسّاسة والأمنية والدفاعية كالصفقات العمومية. هذا وأعلن أيضا في ذات السياق عن تضييق الخناق عن آلاف الطلبة الصينيين الذين سيحرمون من مواصلة دراستهم بالجامعات الأمريكية وهو من الإجراءات المتّبعة عادة مع البلدان المعادية التي تشكّل خطرا على الأمن القومي الأمريكي.
التداعيات المنتظرة للتصعيد بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية
تميّزت ردود الفعل الصينية على الاتّهامات الأمريكية في مرحلة أولى بتحفّظها المعهود ورغبتها في عدم مسايرة الأسلوب الانفعالي والمتشنّج للرئيس ترامب بل إنّ الصين، بعد نجاحها النسبي في التحكّم في الجائحة، سارعت بإغاثة البلدان الأخرى المتضرّرة من الوباء بما فيها الولايات المتحدة. لكنّ الخطاب الرسمي الصيني تحوّل تدريجيا باتّجاه الحدّة والتصعيد والتهديد باتّخاذ التدابير اللازمة للردّعلى ما تعتبره تعدّيا على مصالحها الحيوية ومساسا بأمنها القومي وتدخّلا في شؤونها الداخلية. ولعلّ من أبرز المواقف الصادرة عن كبار المسؤولين الصينيين، تصريحات وزير الخارجية الذي تحدّث لأوّل مرّة عن احتمالية تدهورالعلاقات الصينية الأمريكية إلى درجة حصول «حرب باردة» بينهما.
وللتذكير، فقد سبق للصين أن ردّت بالمثل على الخطوات الأمريكية الموجّهة ضدّ الصادرات الأمريكية بالرفع في الرسوم الجمركية عليها كما تلوّح بأنّها تمتلك أوراق ضغط كثيرة أخرى سيما وأنّها تسيطر على نسبة هامّة من إنتاج بعض المكوّنات الحسّاسة والموادّ الأوّلية الضرورية للصناعات الاستراتيجية في المجالات الحيوية والدفاعية.
وكما سبق بيانه تحظى الصين بتضامن قويّ من حلفائها التقليديين بخلاف الرئيس ترامب الذي عزل نفسه نسبيا داخليا وخارجيا وبرز في ثوب الرئيس الانفعالي وغير المسؤول بما أبداه من سوء إدارة لأزمة الكورونا ونزعته للتملّص من مسؤوليّة تقديراته الخاطئة لمخاطر الوباء وعدم الاكتراث بما خلّفه من خسائر بشرية فادحة فضلا عن تسرّعه بالدعوة إلى استئناف النشاط الاقتصادي وكلّ ذلك لدواعي تطغى عليها الاعتبارات الانتخابية البحتة.
وفي ذات السياق لا بدّ من الإشارة إلى التداعيات السلبية والنتائج العكسية الناجمة عن الزجّ بمنظّمة الصحّة العالمية في المواجهة مع الصين وقرارتعليق العضوية الأمريكية وإيقاف دفع المساهمة الأمريكية في ميزانيتها وهو إجراء مماثل لخطوات سابقة تستهدف الأمم المتحدة ومنظّماتها المتخصّصة وتكرّس هذه السياسة القناعة بأنّ الولايات المتحدة مصرّة على تهميش القانون الأممي في إدارة العلاقات الدولية بالتوازي مع فرض سياسة القوّة والهيمنة لتغليب المصالح الأمريكية على حساب المصلحة المشتركة للمجموعة الدولية.
وفي المقابل عزّزت هذه السياسة التقارب والتنسيق الروسي الصيني مثلما أظهرت توجّها أوروبيا جديدا يسعى الى النأي بالنفس عن هذه الصراعات والسعي الى إنقاذ الكيان الأوروبي المتضرّر من جائحة كورونا وبلورة سياسة خارجية مستقلّة عن الولايات المتحدة تراعي المصالح الذاتية الأوروبية والتوازنات الجديدة في العلاقات الدولية. وفي هذا الصدد تجدرالإشارة إلى المستجدّات التالية:
• تسارع وتيرة التضامن والتنسيق بين الصين وروسيا في مواجهة الخطر الأمريكي المشترك الذي يستهدف الحفاظ على الريادة الأمريكية للعالم من خلال ضرب المقوّمات التي جعلت الصين تصعد لأوّل مرّة إلى صدارة القوى الاقتصادية والتجارية رغم العقوبات والتضييقيات الأمريكية المفروضة على الصادرات الصينية وتحرّكات الإدارة الأمريكية الهادفة لضرب وإفشال مشروع الطريق الحريري. وتجدرالإشارة في هذا السياق إلى التحرّكات الأخيرة للدبلوماسية الأمريكية للضغط على إسرائيل وبلدان الجوار للحدّ من الحضور الاقتصادي الصيني المتنامي في المنطقة.
كما نشير الى التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي ورئيس الدوما الروسية المتضامنة بقوّة مع الصين باعتبار أنّ ما تتعرّض له بيكين يشبه السياسة العدائية الأمريكية التي أدّت الى الإطاحة بالاتحاد السوفياتي السابق وهي تستهدف إعادة نفس السيناريو اليوم في مواجهة التفوّق الإقتصادي الصيني ومشروع عودة روسيا للتموقع مجدّدا كقوّة عظمى فاعلة ومؤثّرة في المشهد السياسي الدولي.
• الخطاب الهامّ الذي ألقاه رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزاف بورال بتاريخ 25 ماي المنقضي حيث اعتبر أنّ أزمة كوفيد سرّعت من وتيرة التحوّلات التاريخية في العالم معتبرا أنّ القرن الحادي والعشرين يؤشّر إلى تحوّل نقطة الارتكاز السياسي والاقتصادي باتّجاه القارّة الآسيوية ممّا يحتّم مراجعة جذرية للسياسة الخارجية الأوروبية ما يراعي هذا المعطى الاستراتيجي المحوري. وأقرّ بأنّ أوروبا تتعرّض إلى ضغوط من الطرفين المتصارعين على زعامة العالم موصيا باتّباع خطّ مستقلّ عن الجميع يراعي المصالح الأوروبية الصرفة، ومؤكّدا على أهميّة الإعداد الجيّد للقمّة الأوروبية الصينية المزمع عقدها أواخر العام الجاري.
والملاحظ أنّ هذه التصريحات تزامنت مع التحرّكات والمبادرات التي تسعى من خلالها المفوّضية الأوروبية، بإيعاز من ألمانيا وفرنسا، لإعادة إحياء مشروع الكيان القومي الأوروبي المتعثّر والمتراجع في سلّم الأطراف والتجمّعات الفاعلة على الساحة الدولية خاصّة في ظلّ الأزمات المتتالية التي يعيشها وآخرها إخفاقه في الحفاظ على الحدّ الأدنى من التضامن بين أعضائه في مواجهة أزمة الكوفيد.
ولا شكّ أنّ تونس مدعوّة، في ظلّ هذه المتغيّرات، إلى إجراء تقييم شامل لمسيرة علاقاتها وتعاونها مع الخارج وتحديدا مع المجموعة الأوروبية مع مراعاة التوازنات الجديدة الحاصلة أوالمرتقبة في العلاقات الدولية بما يخدم المصالح العليا للشعب التونسي.
أحمد بن مصطفى
- اكتب تعليق
- تعليق