أخبار - 2020.03.29

د. ألفة علام: العزل الذاتي والضغط النفسي

د. ألفة علام: العزل الذاتي والضغط النفسي

يا ترى كيف يؤثر العزل الذاتي على جهازنا النفسي؟ وكيف نعبرعن القلق والخوف الذي نعيشه نتيجة الضغط النفسي الذي تسببت فيه الأحداث الجديدة المفاجأة؟ فالوقت بدأ يطول والموضوع بدأ يدخل في الجد، وبدأت تظهر أعراض جانبية لموضوع العزل الذاتي.

فى البداية لابد من الإشارة الى الضغط النفسي، والذى يعتبر من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعآ، بجانب اضطرابات أخرى مثل القلق والمخاوف المرضية. ويرجع سبب انتشار الضغط النفسي، إعتباره موضوع العصر، وإحتمالية إصابته لجميع شرائح المجتمع وتعقيد أمور الحياة وسيطرة الحالة التنافسية بين الأفراد.

والأحداث والتغيرات السريعة والمفاجآة التى نمر بها هذه الأيام، تشكل مصدر ضغط نفسي كبير،يعبر عنه الأفراد من خلال القلق النفسي والمخاوف المرضية، والتوتر وصعوبات النوم والتفكير المستمر، وأحيانا تصل الى إضطرابات العلاقات الشخصية. ويمكن تقسيم الأشخاص الذين يظهر عليهم أعراض الضغط النفسي من قلق وخوف وغيره، إلى ثلاث أنواع  رئيسية، تتفرع الى أنواع فرعية أصغر. فهناك درجات لكل نوع وتداخل أيضا فيما بينها.

النوع الأول

ناس قلقة لدرجة أن حياتها توقفت تماما، وهي غير قادرة على فعل أي شىء غير إنها تشتري أدوات نظافة، وتقوم بتنظيف البيت وغسل أيديها والتفكير في المستقبل بسوداوية.

النوع الثاني

وهو الذي يستطيع أن يتابع عمله اليومي بشكل معقول، ويلتزم بالتعليمات العامة، وأحيانا ينجرف إلى الاندماج في الحياة بشكل طبيعي كأنه لا توجد أية مشكلة، ولكن سرعان ما ينتبه إلى نفسه ويصحح، ويرجع الى تطبيق التعليمات مرة أخرى. ولكن هذا النوع معاناته أكبر من التصور المعتاد، لأن هؤلاء الأفراد إعتادوا الحياة الروتينية المعتادة النمطية. يذهبون إلى عملهم في الميعاد ثم يتواصلوامع أصدقائهم، وأحيانا يمارسون إهتماماتهم من ممارسة رياضة أوغيره. ثم يطلب منهم فجأة الحرمان من كل ذلك، بسبب ضرورة التباعد الإجتماعي، فهذا مؤلم لهم .!! ولكن لا نستطيع إنكار قدرة هؤلاء على التكيف، وأحيانا يدمجون التعليمات المطلوبة  فى منظومة تحملهم للحياة، مع إمتلاكهم لقدرة فكرية على تقدير العواقب والتنبأ بها.

النوع الثالث

"النائم فى العسل"، والذى يستخدم مفردات مثل "كله قسمه ونصيب"، لكل أجل كتاب". ويتعامل مع نفسه بحزمة من الحيل الدفاعية والجدل، والدخول في حوار يغلق فيه أذنيه  وقلبه، لكي يتجنب الإحساس بالقلق أو مواجهة المخاوف التي تخترق مشاعره وافكاره، فيغلفها بالإنكار أو بالتجنب وأحيانا حتى بالإستعلاء على هذه المشاعر سواء بالتهوين والإستخفاف بها.

وأحيانا التردد بين المواجدة،   Empathie  والغضب والرفض الشديد معهم.  فعندما أضع نفسي مكانهم وألبس نفس النظارة التى يروا من خلالها العالم، أرى ضعفي وخوفي مثلهم تماما وأحاول أن أطمنهم وافصح لهم عن وجه الشبه بينى وبينهم، لخلق جسر نعبر به مع بعض لقبول ضعفنا وخيبتنا القوية، أحيانا تنجح في تلين الحيل الدفاعية وتصبح أكثر طواعية وتتحول إلى حيل إبداعية. مثلا نستبدل كبت الخوف وإنكار الكلام فيه إلى التعبير عنه بالرسم أو لعب الأدوار من خلال السيكودراما.
ثم ماذا ؟

أولا : جميعنا داخله  سعة  فطرية تسمى: Resilience  حتى الآن لم يتفق على ترجمة عربية لها، بعض الدراسات ترجمتها المرونة النفسية وأخرى المتانة النفسية فهناك من يمتلك سعة فطرية أكثر من الآخر، ولكن ما هي وظيفة هذه المرونة النفسية؟ هي تعني مدى قدرة الفرد على تحمل ضغوط الحياة والتعامل معها والعودة إلى طبيعته مرة أخرى دون الوقوع فى مضاعفات نفسية. وبالتالي، لا يوجد ما هو حسن وما هو سىء
في الثلاث أنواع المذكورة، أحيانا نمرُّ بالثلاث مراحل فى اليوم الواحد، وأحيانا نمرُّبهم في الموقف الواحد. ومن حقنا القيام بذلك، لكن الفرق المهم هو أننا نقوم بذلك ونحن على درجة جيدة  من الوعى  بأنفسنا. فى كثير من المواقف، نستخدم حيل دفاعية من أجل تحمل مواقف صعبة علينا، لكن نبقي مدركينها وواعين أنها نتيجة للموقف الضاغط الذي نمر به .أي أن السياق يسمح لنا بالتجاوب مع ما يناسبه، ولا نقف عند نوع واحد فقط. كما نستطيع أيضا تدريب سعتنا الفطرية، لتستوعب طرق جديدة لتحويل الحيل الدفاعية المعطلة إلى حيل دفاعية محفزة للصحة النفسية.

ثانيا: نمط وتركيبة الشخصية عامل مهم جدا للتعامل مع مثل هذه المواقف والأزمات، فالشخصيةالهشة أو المرتبكة مثلا والتي لا تمتلك مهارات حياتية تعينها على التعامل مع الضغوط، قد تظهرعليها أعراض جسمانية، مثل الصداع النصفي، أوالأرق أوالطفح الجلدى أونوبات الهلع... وتسمىالأعراض النفس جسدية، كبديل لمشاعر الخوف والقلق المكبوتة والتي لا يقدرالشخص، في أحيانكثيرة، أن يربط بينها وبين مخاوفه وقلقه. فيذهب إلى جميع التخصصات من أطباء لعلاج الأعراضالتى يشعر بها وتؤلمه بشكل حقيقي، ويرفض أن تكون الأسباب نفسية، وكأن حالته النفسية بعيدةكل البعد عن جسده، الذي هو جزء من وجوده ووجدانه. أو الشخصية التي بها بعض من السماتالوسواسية أو الإكتابية، والتي يظهر عندها القلق والخوف الزائد والتمحور حول المشكلة، قد تعطلحياتها وتوقفها إلى حد كبير. أوالشخصية البارانوية والتي تواجه الضغوط والقلق بنظرية المؤامرة.وغيرها من أنماط الشخصية المختلفة. كل يتجاوب حسب إمكانياته ومفاهيمه. ولكن لابد من التأكيد أنليس هناك صحيح أو خطأ.

ثالثا: البيئة التى يعيش فيها الفرد لها دور مهم، ولابد أن نتوقف هنا بعض الوقت. المجتمعات التي لا يستطيع فيها الفرد الحصول على إحتياجاته الأساسية من مأكل وملبس ومنزل وأدوات للنظافة الشخصية وغيره، لايستطيع إستيعاب وضع تعليمات وضوابط لابد أن يلتزم بها. فهو يعيش معناه أكبرفى الحصول على حق البقاء. وفي مجتمعاتنا للأسف الشديد، أصبحت النسبة الأكبر تمثل هذه الفئة. ولهذا يشعر الفرد بالوحدة وعدم الإحساس بالأمان أو الدعم من الدولة والمجتمع، ويفتقر إلى المعلومات الصحيحة والشفافية في التعامل، فيزداد لديه الإحساس بالخوف والقلق، ويتأكد لذهنه إنه فى مواجهة هذه المشكلة بكل تباعيتها بمفرده تماما، وينغمر في البحث عن حلول ذاتية وسريعة، وهذا يزيد في الطين بلة.. ولهذا نجد كثير من الفيديوهات منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل معلومات وتنبيهات وطرق للوقاية من الأفراد أكثر بكثير من المسؤولين. ويعكس ذلك فقد الثقة المتبادل بين الأفراد والمسئولين.

لكن ما العمل؟

الحفاظ على السلامة والحماية النفسية أهم شىء فى مثل هذه الأوقات، وذلك يتحقق من خلال تدريب المرونة النفسية Resilience لتصبح أكثر سعة في وقت الضغوط والعودة إلى طبيعتها بعد الإنتهاء من الوضع الضاغط. فهناك ثلاث أضلاع للمثلث:

1. العلاقات الإجتماعية: على الرغم أن التواصل الإجتماعي يزيد من الصحة النفسية، ودائما ندعو الأفراد الى بناء علاقات إجتماعية جديدة، وتدعيم للعلاقات الحالية، إلّا أن المطلوب الآن هو التباعد الإجتماعي. ولهذا لابد من الحفاظ على التواصل مع الأصدقاء والأقارب والزملاء بأي طريقة، وعدم الإنفراد بمخاوفنا وقلقنا، بل يجب علينا مشاركة هذه المشاعر والأفكار مع أشخاص نثق فيهم، وندعوهم إلى ذلك أيضا. فلا بد أن نشكر التكنولوجيا على وجود الأنترنت ليعطي لنا هذه الفرصة من التواصل. أو نقابل الأصدقاء بشكل فردى أى دون تجمعات من وقت لآخر في أماكن مفتوحة، لأن إحتياج الفرد للتواصل الحي والمباشر يملأه بالونس والحياة.
أحيانا تقديم المساعدة للأخرين في وقت التعب النفسي، يساعد على التعافي وطمأنة النفس. مثلا إذا إستطعت تقديم خدمة مثل الذهاب لإقتناء الإحتياجات، بدل كبار السن فى المكان الذي تسكن فيه، يساعدك على عدم التمركز حول ذاتك ويمنحك فرصة بالشعور بأنكشخص مفيد.

2. الروحانيات: الإهتمام بممارسة الهوايات والإهتمامات حسب المتاح أو اللجوء إلى خلق فرص جديدة، مثل التعامل مع الإنترنت كبديل مؤقت لممارسة الرياضة أو اليوجا وغيره. فظهرتكثير من المبادرات من متخصصين في الفن والرياضة وتعليم اللغات، وغيره في طرح طرق للتعلم عبر الانترنت لكى يخلقوا حالة من التواصل مع الآخرين، ومساعدة الأفراد لإستغلال وقت الفراغ والجلوس في المنزل فترات طويلة بطريقة ممتعة. حاول أن تفكر بطريقة مفيدة، وأجعلها فرصة لتتعرف على نفسك وإحتياحاتك النفسية بشكل أعمق. وحاول التدرب على كتابة الجرد اليومي لمشاعرك وأفكارك فى نهاية اليوم، والتى تنبع من إحتياجاتك الفعلية. وهذا يحتاج إلى وقت وتدريب لكي نطور الوعي الذاتى لدينا وبالتالي نطوّر قدرتنا على إدراكنا لأنفسنا، ويظهر نتيجة ذلك، حل كثير من الصراعات النفسية  الداخلية وعلاقاتنا بمن حولنا. وهذا ما يعرف  الذكاء الوجداني، والذي يجعلك تتعرف على ما الذى تحتاج  أن تتعلمه لكي تحمي نفسك من المضاعفات النفسية.

حاول أن تحتفظ بالذي كتبته، وإعادة قرأته فيما بعد، للمقارنة مع مدى تطورك فى فهم نفسك،والنجاح في إمتلاك مهارة تقييم الذات بدل من جلد الذات ولومها الدائم على تكرار نفسالسلوك وإنتظار نتائج مختلفة .

3. البيولوجي: مثل الإهتمام بالنظافة الشخصية والتي تعتبر حمل مادي ومعنوي على الكثيرفي مجتمعاتنا، فهي  ليست من الأولويات في تلبية إحتياجات الفرد والذهاب إلى الطبيب عند الحاجة، ووضع حدود مع الآخر وتوكيد للذات والحفاظ على الخصوصية. لا تقوم بالسلام باليد لإرضاء الآخرين أو خوفا من الحكم عليك، بإنك خائف أو ضعيف، أو تجعل أحد يفرض عليك قواعده ونظامه، لا تجيب على أسئلة لا تريد أن تجيب عليها، تعلم أن تقول لا!  لهذا نحن أمام تحديات عديدة، على المستوى الشخصي والمجتمعي أيضا، إذ نجد أنفسنا في مواجهة يومية مع ثقافة وعادات وتقاليد وأعراف أقوى بكثير من القوانين واللوائح.

في النهاية، أحيانا كثيرة الأوقات الصعبة الضاغطة تورطنا وتحفزنا لتحريك دافعية العمل بالوعي  بالذات أكثر وأكثر، وبالتالي نستطيع إدارة والتحكم في مشاعرنا وأفكارنا بشكل أكثر أريحية وواقعية، مما يزيد من فرصنا لإكتشاف إمكانيات ومهارات وقدرات  شخصية لم نكن على وعي وإدراك بها.

د. ألفة علام

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.