تاريـخ التّكفـيـر في تونس, تكـفيـر الـثّعـالبـــي والحـدّاد وبورڤيبة: الملابسات والأبعاد
صدر مؤخّرا عن دار ميسكلياني للنّشر كتاب جديد للأستاذ شكري المبخوت عنوانه «تاريخ التّكفير في تونس» . يقع الكتاب في 351 صفحة وهو قراءة تحليليّة في ثلاث حالات تكفير في تاريخ تونس الحديث:
- أوّلها تكفير الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي سنة 1904 بعد أن نُسب إليه شتم الأولياء الصّالحين والإزراء بأتباع الزّوايا وما تبع ذلك من تقديمه للمحاكمة وسجنه.
- ثانيهــما تكفيــــر المصلح الاجتمــــاعي والمفكّر الطّاهر الحدّاد سنة 1930 على إثر صدور كتابه الحـــدث «امرأتنا في الشّريعـة والمجتمـــع» الذّي تضمّـــن قـــراءة عقليّة مستنــيرة لأحكام القــرآن الكريم بشأن المرأة.
- ثالثها تكفير الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة سنة 1960 على إثر خطاب 5 فيفري من السّنة نفسها الذّي شجّع فيه على ترك الصّيام إذا كان يحطّ من إمكانيّات الفرد ويجعله لا يقوى على القيام بواجب العمل مستشهدا بإفطار الرّسول وبعض صحابته في واقعة فتح مكّة.
وانتهى المؤلّف من تحليـــل هذه الحالات الثّلاث إلى أنّ التّكفير يستند في الأغلب الأعمّ إلى مؤسّسات ولا يتّخذ طابعا فرديّا، وقد اضطلعت مؤسّسة الزّيتونة بدور أساسيّ في عمليّات التّكفير المذكورة ، إذ بيّنت الوقائع الحافّة بأحداث التّكفير أنّ الشّيوخ والقضاة الزّيتونيّين عملوا على تثبيت كفر الثّعالبي في حجّة لدى العدول دوّنوا فيها شهادات الشّهود لتُعتمد في المحكمة الشّرعيّة سندا للحكم بالكفر
كما كشف ملفّ الطّاهر الحدّاد أنّ النّظارة العلميّة لجامع الزّيتونة هي التّي تولّت المطالبة بمنع الكتاب واستعدّت لإعداد تقرير في الغرض يُبيّن كفر صاحبه.
وخلُص المبخوت من جهة ثانية إلى أنّ الجانب المؤسّسي في التّكفير يُعزَّز عادة بالنّزعة إلى خلق الفضيحة في المجتمع وتحويل المسألة إلى قضيّة رأي عامّ ليحظى الحكم الشّـــرعي بالتّكفير بانتشــار أوسع وشرعيّة شعبيّة حتّى يُتخّذ من كُفّر عبرة لمن يعتبر.
ولعلّ أهمّ مـــا تحصّل للمؤلّف من دراسة تــاريخ التّكفيــر في تـــونس هو أنّ التّكفير وإن اتّخـذ غطاء شـــرعيّا دينيّا يظلّ ذا جوهر سياسيّ، فالثّعالبـي كان مناهـــضا للحمــاية الفرنسيّة ناشرا للفكر الإصلاحي مهدّدا لسلطة المشايخ المستكينين الموالين للاستعمار والمعارضين لكلّ إصلاح وتجديد دينيّ من شأنه أن يمسّ من امتيازاتهم ومناصبهم وتأثيرهم في المجتمع. أمّا الحدّاد فإنّ عـــلاقته بحــركة محمّد علي الحامّي وانشقاقه عـن الحـــزب القـديم كانا وراء الحملة المغرضة التّي تعـــرّض لها. وأمّا بورقيبة فإنّ الإصـــلاحات الجوهريّة التّي أقدم عليها بعد الاستقلال مباشرة ولا سيّما إصـــدار مجلّة الأحوال الشّخصيّة وإعــلان الجمهوريّة وحلّ الأحباس وإلغاء القــضاء الشّرعي وتوحيد مناهج التّعليم لم تكــن دون أن تثير أحقاد الطّبقات المهيمنة القـــديمة ذات النّزعة المحافظة سيــــاسيّا (حكم البايات) وإيديولوجيّا (شيوخ جامع الزّيتونة).
ورقــــات مـن الكتاب
الفيلـــســـوف الكـــافــر
في سنة 1904 كان الشّاب الثّلاثيني قد عاد من المشرق العربيّ منذ سنتين تقريبا. أخذ يجلس في مقهى التّوتة بحيّ الحلفاوين وقد طلب من صاحبه محمّد كمّون استصلاحه على النّمط الغربيّ الحديث بوضع الطّاولات وتوفير الكؤوس والملاعق وقوارير الماء وباحترام قواعد النّظافة (بن ميلاد وإدريس، 1991، ص 50)
وسرعان ما اتّخذه الثّعالبي مقرّا لنشر أفكاره. فكان شبّان الزّيتونة والخلدونيّة من طلبة العلم بالخصوص يختلفون إلى مجلسه يروي لهم رحلاته ومشاهداته ويحدّثهم عن الشّخصيّات الكبرى التّي التقاها ويعلّق على الأحداث الجارية في تونس وخارجها. ولكنّ هذا المحدّث البارع الذّي يشدّ إليه الأسماع لم يكن يستنكف من الحديث في كلّ شيء من السّياسة إلى الفلسفة إلى المجتمع والإصلاح الدّيني. فله عن كلّ سؤال جواب وفي كلّ مسألة رأي عادة ما يكون مغايرا لما ألف النّاس سماعه.
بدا لأهل الحيّ منذ عودته غريبا مثيرا. فبلحيته التّي أهملها وبشكله الذّي صار يميل إلى السّمنة وبمعطفه الهنديّ الملوّن بالأصفر والأخضـــر لا يترك مــارّا بالشّارع دون أن يلتفت إليه ويجد فيه المتسكّعون والمتشرّدون والأطفال ما يُبهجهم ويسرّهم.
إنّه شخصيّة طريفة متميّزة محبّبة في حيّ الحلفاوين. ولكن سرعان ما التصقت بها صفة الفيلسوف بما تثيره هذه الكلمة آنذاك لدى العوامّ من معنى الغرابة والشّذوذ ولدى الكهول والشّيوخ من قلّة الجديّة.
لقد وجد أهل الحيّ خصوصا منهم جلّاس مقهى التّوتة، شخصا مغايرا تماما للنّماذج التّي يعرفونها. كان لا يُشبه أحدا. نسيج وحده كما يُقال على المعنيين الحرفيّ والمجازي معا. يقول الفاضل بن عاشور عنه: «عاد من [الأستانة ومصر] غريب الشّكل والنّزعة والمنطق والقلم (...) يدعو إلى التّطوّر والحريّة وفهم أسرار الدّين وأسرار الوجود ويغرب بمقالات الحكماء والطبيعيّين. ذلك هو الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي الذّي لم يكد يرجع من مصر حتّى أحاطت به هالة من أهل العلم والأدب وأصبحت ألزم له من ظلّه فكان ينتقل بهم في مجامع العاصمة ناديا سيّارا مأخوذين بحلاوة تعبيره وفصاحة منطقه وقوّة عارضته ومقدرته على تحليل المواضيع استرسالا بلا ملل ولا فتور» (ابن عاشور، 2009، ص 86 - 89).
وعلى مرّ الأيّام يبدو أنّ اللّعبة استهوت هــذا الشّابّ المتقّد حيويّة وأفكارا وآراء وتجـــارب لا عهـــد للمحيطين بها. وبدأ خطابه يتّجه نحو شيء من الحدّة والعنف. فقد صار يقول كلاما خطرا يدّك معتقدات النّاس دكّا ويزلزل ما استقرّ في عقليّتهم البسيطة.
فالأولياء الصّالحون عنده دجّالون يكيل لهم من الشّتائم البذيئة ما شـــاء له أن يكيل. وأتباع الزّوايا سذّج مغرّر بهم. أمّا القرآن فقد نزل في عصر لم تشهد فيه العلوم ما يشهده عصره (بداية القرن العشرين) من تطوّر علميّ مذهل. لذلك لا بدّ من إعادة فهمه وتأويله على نحو جديد غير حرفيّ. وأشاع الشّابّ الثّلاثيني المحمول بروح نقديّة جارفة لا تبقي ولا تذر أنّ سور القرآن متفاوتة من جهة بلاغتها.
ولم ينج التّعليم الزّيتوني نفسه، مفخرة التّونسيّين ومشتل العلماء والشّيوخ والقلعة الصّامدة في وجه الاستعمار الذّي يعمل على مسخ هويّة التّونسيّين، من النّقد. فهو تعليم بائس لا نفع فيه ولا بديل منه إلّا تعلّم العلوم الحديثة.
وإذا كانت الأحاديث الغريبــــة تنتشر بين النّاسّ بشيء مـــن التّزيّد والمبالغة كما لو أنّ الطّريف يحتاج إلى بعــــض الكذب ليكون أطرف فما بالك بحديث من البيّن أنّه مُهين للدّين والعقــائد السّائدة مُفرط في مخالفة المأنوس في عقول النّاسّ. ولمّا لم يكن صاحبنا يحتاط ممّن يُحدّثهم وكان يُلقي أفكاره في مكان عامّ فقد بدأت تشيع خارج جدران المقهى إشارات إلى كُفر الرّجل بسبب إهانته للإسلام والقُرآن والتّهجّم على الأولياء الصّالحين والزّوايا وسبّ العلماء والشّيوخ . وإذا أثبتت الأدلّة ذلك فإنّ مصير الرّجل الوقوف أمام المحكمـــة الشّــرعيّة التّي لن تتردّد بثبــوت التّهمـــة من الحكــــم بما يقتضيه الكفر وهو القتل.
الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق