رجل الخير والمكارم, محمد العش بعد 91 عاما على رحيله: في التاريخ يحلق عاليا، وفي الحاضر منسي في موسوعة الثقافة والفن
بقلم د. رضا القلال (مؤرخ وكاتب صحفي)
مقدمة
بما أن التساؤل هو باب المعرفة، فدعنا نطرح حشدا من الأسئلة، لتكون بمثابة إشكالية ندخل من خلالها متن هذه المقالة: متى رأى محمد العش النور ومتى رحل؟ وما بين البداية والنهاية كيف سارت حياته؟ ما هو وقع طفولته على كهولته، ألم يقل الانجليز طفل اليوم هو كهل الغد؟ ويستحضر الباحثون اليوم خصوصيات مرحلة الطفولة المبكرة وطرق التربية خلالها وعلى تأثيرات الابوين في حياة الفرد وسلوكياته المستقبلية، وهو ما يعرف بالبسيكو تاريخ؟ كيف تعاطى محمد العش مع أوضاع نهاية القرن التاسع عشر المأساوية التي أدت الى الاحتلال الفرنسي سنة 1881؟ تكرر الحديث عن ثرائه وأعماله الخيرية في التعليم ووقوفه الى جانب الفقراء، وبعض أنشطته الثقافية والفنية، لكن كيف نقيّم تجربته الحقيقية في عالم المسرح والموسيقى، وعلاقته بألمع نجوم الفن في تونس ومصر وسوريا؟ وماهي الآفاق الثقافية /الفنية التي فتحها لمدينته؟ لماذا لم يقع الحديث عن وطنيته ومعاداته للاحتلال؟ ولماذا لا تذكره صفاقس اليوم، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، رغم أنه من الصنف العصيّ على النسيان؟
I - مبادر ومؤسس لأولى الحركات المسرحية والموسيقية بصفاقس في بداية القرن العشرين
هذه الأيام أنظر في جسر عمر رجل الخير والمكارم الصفاقسي محمد العش. في معمار تكوينه، وفي خارطة تجربته. حياته تثير كل الدهشة، فقد تراكمت إسهاماته في تطوير غراسة الزياتين، وفي اثراء التعليم، ونشر الفنون. لم ير النور وفي فمه ملعقة من ذهب، ولم "تلفه أمه في محرمة حرير" ولم يكن "مفطوم على الفزدق" كما ننطقها، ونقولها مثلا دارجا في جهتنا. لقد صنع ثروته بجهد يديه وعرق جبينه، لأنه صعد من عائلة متواضعة من طريق سيدي منصور، حتى أن خالته في وضعية معدمة من الفقر. رحلة حياته- على غرار أغلب الأثرياء كما أعلم- كانت مشيا بأقدام حافية، فهو لا يمل من الكد والعمل، وخبزه اليومي، لا أقول كان معجونا بالدمع، ولكنه كان ممزوجا بالجهد والعناء والتضحية... لهذا شكل قنديل ذكرياته أفقا إنسانيا ورمزيا، وكان حقيقة، أيقونة فكرية وثقافية أيضا.
عاش محمد العش 76 سنة، قضى عمره بين ضفتي القرنين 19/20 وسطع نجمه في سماء صفاقس في الثلث الأول من القرن الفائت. قدّمه محمد الشعبوني في برنامج رياض النفوس بإذاعة صفاقس، وكتب عنه محمد الحبيب السلامي في شمس الجنوب (أكتوبر 2002)، ثم على جداره في الفيسبوك، وأشار إليه عبد العزيز داود في كتابه، وثلاثتهم يكتبون بقلم سيّار لا يهدأ. ولكنهم أعادوا وكرروا المألوف من الحديث عنه (طاحونة الشيء المعناد)، فلم يحفزوا مناطق الأسئلة؟ ولم يعيدوا قراءته بمقاربة مختلفة، أو بشروط جديدة؟ كما كتبت عنه جريدة "العصر الجديد" في 9 أفريل 1925 بمناسبة افتتاح مدرسة الهلال، التي أصدرها رائد الصحافة المحلية أحمد حسين المهيري سنة 1920. وفي 2 افريل 1933 كتب محمد الشرفي بجريدة الزهراء تحت عنوان"فاجعة صفاقس" لقد رزئت صفاقس في بطل ما بالهيّن عليها فراقه....وكتب من ناحيته زين العابدين السنوسي، الذي زار مدرسة الهلال برفقة الأستاذ الشادلي خزندار، في ركن مكاتبات بجريدة النهضة (8 فيفري 1928) عن مدرسة الهلال وعن مؤسسها محمد العش ومديرها محمد الشرفي فأشاد بما أصبح عليه التلاميذ الصغار من إلمام ومعرفة بأسس العلوم العصرية والحياتية باللغتين العربية والفرنسية. وتساءل عن رأي العائلات.... من بيوت العاصمة الكبرى في هذا الأسلوب من الخير؟
اول ما اكتشفت محمد العش في كتاب الأستاذ عبد السلام القلال (الحلم والمنعرج الخطأ، ص.25. دار الجنوب 2018) وهو الذي يكتب بشكل حيوي، وقد قال عنه الكثير في حيز محدود: "كانت لمحمد العش، خال الوالد، أياد بيضاء على الجهة ، حيث بنى العديد من المدارس والجوامع والفسقيات، كما كان يخصّص منحا للطلبة الزيتونيين، ليساعدهم على مواصلة تعليمهم بتونس. وكان باعثا لجمعيات ثقافية وفنية، وانطلقت بمساهمته وبتشجيع منه خلال سنة 1912 أول فرقة مسرحية بصفاقس، وأول فرقة موسيقية نحاسية وفرقة السلامية للإنشاد الصوفي والأناشيد الدينية. وكانت له علاقة حميمة مع "البارون ديرلنجي" واستضافه بمنزله بصفاقس، وهو بدوره يقيم في قصره الكائن بسيدي بوسعيد عندما يتنقّل إلى تونس العاصمة. وقد استضاف في بيته بصفاقس شيخ الطرب علي درويش (وليس السيد كما جاء في النص) لمدة أسبوع ، فكانت لقاءات وأمسيات بين ضيفه وشيوخ الفن والطرب بصفاقس.
في هذا النص دفع الكاتب إلى الكشف عن قائمة طويلة من المؤسسات التعليمية والثقافية والفنية والصوفية، وكوكبة وازنة من الأسماء في الحياة الثقافية/ الفنية وطنيا وعربيا. كما حث على واجب البحث في مسيرة محمد العش، الذي يبدو أنه أخذ منزلة اجتماعية وثقافية/فنية متفوقة على سواه من الناس، بهدف استخراج هذا المخزون التاريخي، الذي لا شك، أحدث حراكا ثقافيا منتجا ومثمرا على المدى الطويل في مشهد المدينة وهي في بداية القرن العشرين.
الشيء المدهش أن محمد العش، الذي يكاد يكون مشبعا بثقافة تقليدية بسيطة ومحدودة، فتعليمه لم يتجاوز الكتّاب وتعليمه الديني البسيط، سيؤسس لنفسه رحلة تاريخية حاشدة بالأحداث والاسماء والعناوين... وهذا ما يدهش حقيقة بطريقة ما، وبشكل ما، في سيرة هذا الرجل الذي تفوّق على نفسه وتحقّقت له شخصيته الحرة بكل ثقة واعتزاز بنفسه وبقدراته!
الفنان علي الحشيشة نضجت تحت أصابعه الكتابة، إلى حد ما، في الحديث عن محمد العش. سطر عنه عديد الصفحات في كتابه "السماع عند الصوفية، والحياة الموسيقية بصفاقس في القرنين التاسع عشر والعشرين (سوجيك، 2000). وقدم عنه محاضرة ببرج القلال الذي اهتم بذاكرة أعلام صفاقس (24 افريل 2010) قبل ظرفية أحداث 2011. وقدّمه كأحد رجالات الثقافة التونسية الذي أشاع حولها الطرب، وعدّد خصاله في التفاني والعمل والاجتهاد وبعد النظر من ناحية، ونكرانه للذات واتخاذه مبدأ العطاء والخير ومحبة الآخر، منهجا وسلوكا في حياته من ناحية أخرى. أما الذي تواصلت معه وأمدني بغزير معلوماته هو الصديق فؤاد المؤخر الذي استقى سيرة محمد العش من ابنته فطومة - وهي جدته – حرم محمد بن محمود غربال. كما حصلت على معارف أخرى، عن محمد العش، من أحد أحفاده هو الصديق نجيب عبد الكافي. ومن الكتب التي اشارت الى محمد العش نذكر "الجمعيات بصفاقس زمن الاستعمار الفرنسي" للباحث كمال الحكيم (صفاقس، 2017)، وكتاب علمان من صفاقس في القرن التاسع عشر، محمد ومحمود عمار، للباحث خالد عمار (صفاقس 2016). والباحث الوحيد الذي تناول الحراك السياسي لمحمد العش هو صديقي د. عبد الجليل بن عباس في كتابه "تاريخ الحركة الوطنية بصفاقس، من 1920 الى 1955".
II - فى غابات زياتينه الشاسعة: نقل الجنة إلى الأرض
رأى محمد العش النور سنة 1857 في مدينة صفاقس الحاملة لعبق التاريخ، ورحل عن الدنيا في 24 جانفي 1933 ليلة ال27 من رمضان المعظم. كان بيته ومقر عمله قرب مدرسة الهلال التي أسسها سنة 1925 بساحة بربروس، بطحاء سيدي بلحسن، التي كثيرا ما شهدت ارتفاع أصوات المناضلين الهادي شاكر، محمود كريشان أحمد دريرة وغيرهم ضد الاحتلال الفرنسي. وهذه المدرسة رعاها محمد العش ورعى معلّميها وتلامذتها واستقدم إليها أفضل المدرّسين. أوّل من أدارها معلّم اللغة الفرنسية محمد الشرفي (مراسل جريدة النهضة) ثم صهره محمد غربال، ومن معلّميها الكبار المختار دريرة، عبد السلام التركي، محمود غربال، أحمد الجديدي ...جاء في جريدة النهضة (9 فيفري 1928) ولا شك أن محرر المقال هو محمد الشرفي: "ابتنى (لمدرسة الهلال 1925) بنايتين أو مكتبين كما جاء في مصدر آخر، أوقفهما لفائدتها يعطيانها دخلا (سنويا) قدره 25 ألف فرنك، كما تعهّد بنفقة ولباس 70 تلميذا من أبناء الفقراء". وبنى مدارس أخرى في مركز كمون 1924 (طريق قرمدة) وساقية الداير 1922 (طريق المهدية).
في هذا السياق، لا يجب ان نتغاضى عن رصد المشهدية الاجتماقتصادية التي تزامنت مع فترة حياة محمد العش، والتي كانت فيها بلادنا غارقة في الجهل والفقر والمجاعة إلى جانب واقع سياسي مرير انهارت فيه الدولة مثل بناية من ورق: ثورة علي بن غذاهم (1864) تلتها ثورة المشري وعسل بصفاقس، دخول الاحتلال الفرنسي بقوة وعنجهية عبر بحر صفاقس (16 جويلية 1881), الحرب الكونية الاولي (1914-1918)، الازمة الاقتصادية العالمية (1929) وما اعقب هذه المحطات من فقر ومجاعة وأوبئة.
ينتمي محمد العش إلى عائلة الأعشاش التي ذكرها محمود مقديش في كتابه "نزهة الأنظار في عجائب التاريخ والأخبار" (تحقيق علي الزواري ومحمد محفوظ)، نسبة إلى آل العش وآل عشيش، وهي من العائلات الصفاقسية المعروفة إلى اليوم. وجاء هذا الكلام في سياق حديث مقديش عن تأسيس مدينة صفاقس في منتصف القرن التاسع للميلاد كمحرس من المحارس.
والده امحمّد بن علي العش وكلاهما (أي والده وجده) كان خبازا، وأول مخبزة للعائلة كانت بسيدي منصور كلم 4، ثم تفرعت إلى سلسلة من المخابز في بعض أنحاء المدينة، إلى جانب ذلك وعلى طريقة النموذج الصفاقسي، كان فلاحا وتاجرا شريكا للبشير البش من جبنيانة.
والدته تنتسب إلى عائلة ادريس، وكان ابنا وحيدا، وشقيقاته الثلاث تزوّجن من عائلة القلال والخراط والفخفاخ. ومن صلبه أنجب ولدين هما الهادي والطاهر وبنتين منهما فطومة زوجة صهره محمد غربال. وقد واصلت عائلته من بعده في تقديم الدعم المالي والمعنوي لمختلف الجمعيات، فكان مكتب ابنه الهادي المجاور للجامع الكبير قبلة للفقراء كل يوم جمعة. وابنه الطاهر نسخة من أبيه في محبة الفنون ومجالس الطرب وفتح بيته لكل الموسيقيين من تونس ومن الشرق، كما يذكر ذلك الفنان علي الحشيشة. وهو الذي شيد مبنى القندول بطريق سيدي منصور في منابه من أرض أجداده.لو نعود إلى مرحلة مبكرة من عمر محمد العش، لم يتجاوز تعليمه في الصغر سوى قليل من التعليم القرآني في الكتّاب، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع معرفي، ولكنه لم يكف عن تحصيل العلم. في مرحلة من حياته المبكّرة دأب على حضور حلقات الوعظ والإرشاد بزاوية سيدي عبد الرحمان الطباع بنهج مكة. هذه الزاوية التي حضر فيها فريد الأطرش موكب انشاد بعد صلاة العشاء، اثناء زيارته الى صفاقس سنة 1951. أي بعد رحيل محمد العش بحوالي 18 سنة. وقد استقبله جمهور غفير تتقدمه عائلة البش (عبد السلام وأشقاؤه) البارعين في هذا الفن الديني، وامحمد بركية من زاوية سيدي سعادة. وكان محمد العش يبحث دائما عن تعلّم المزيد، فاستقدم مدرّسين لينمّي زاده اللغوي في العربية والفرنسية والإيطالية، فالمجتمع الصفاقسي كان مجتمعا كوسمبولوتيا، تتعدّد فيه الثقافات الأوروبية من إيطاليين وفرنسيين ومالطيين ويونانيين...ولتغذية هواياته المتصلة بالفنون ومعارفها، فتح ببيته في سيدي منصور مجلسا للأنس والطرب هو بمثابة حلقات تعارف وتكوين لأهل الفن ومحبيه. ومن بين زواره الذين مهّد لهم الطريق لدخول مدينة صفاقس نذكر: البارون ديرلنجي، سلامة حجازي، أحمد الوافي، الهادي الشنوفي، سعيد العمران، بكير الفراتي، أحمد قصيعة، الشيخ برّوطة القروي، الشيخ محمد بودية الشيخ بركية .... الشيخ محمود عمار كان أيضا حريصا على تنظيم مجالس خاصة به، ولهذا الغرض اقتنى أرضا محاذية للبحر بجانب مقام الولي سيدي منصور وبنى بها برجا خاصا بمجالس المالوف والإنشاد الصوفي ، وكان يحضر مع محمد العش حفلات محمد بودية. ولمحمود عمار مخطوط بعنوان : "ديوان المسرات في علم النغمات" بخط يده.
ويذكر أن حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر، استمالت محمد العش بنظرياتها وأشهر أسمائها مثل الجنرال حسين، الجنرال رستم، الشيخ محمود قبادو، ابن ابي ضياف، المصلح خير الدين.... وأنه تعرف على البعض من المتخرّجين من المدرسة الحربية بباردو(1840، قبل ولادة محمد العش بـ 17 سنة )، والمدرسة الصادقية (1875، وعمره 18 سنة). هذا التكوين وهذه المعارف الراقية من الشخصيات، وهذا الصمود الذاتي في وجه الزمن وقدرته في "الدّوام إلّي ينقب الرّخام" جعلته يزيح كل السدود التي كانت تحول بينه وبين التعبير عن ذاته وعن أفكاره.
III- محمد العش: دستوري وله صوت مسموع في صفوف الأهالي
أول باحث تناول الحراك السياسي لمحمد العش هو صديقي د. عبد الجليل بن عباس في كتابه "تاريخ الحركة الوطنية بصفاقس، من 1920 الى 1955"، تقديم أ.د فتحي ليسير وكنت قدمته في الصحافة الوطنية (المجلة الالكترونية الشهيرة الشارع المغاربي) وعلى منبر المكتبة الجهوية بصفاقس. فعندما تأسست جمعية الموسيقى العصرية (سنة 1920) وأسندت لمحمد العش أول هيئة إدارية، سعت هذه الجمعية إلى إحياء المناسبات الدينية، والتنشيط المجاني في أفراح وختان الفقراء والأيتام. وقد تداول على رئاسة هذه الجمعية من بعده أحمد بن سلامة وعبد الله السيالة وجميعهم من العناصر الدستورية البارزة بصفاقس . ويمكن القول، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ عبد الجليل بن عباس: "إن العمل الجمعياتي بمدينة صفاقس حتى بداية القرن العشرين كان مظهرا للنشاط الوطني". وقد هدّدت السلطات الفرنسية عديد المرات جمعية التهذيب وجمعية الموسيقى العصرية من النشاط من خلال احتضان المحاضرات التي يلقيها الدستوريون بين فصول المسرحيات لبث الوعي الوطني.
كما انخرط محمد العش في الدعاية الحزبية في شكل اجتماعات في منازل أعيان المدينة العتيقة وأحوازها، وهو منهم، ومثل علي القرقوري رئيس الحزب بصفاقس والباشا الشرفي وأحمد بن سلامة وأحمد السلامي والطاهر كمون وحسن بن سالم وغيرهم. وقد انتمى محمد العش إلى الحزب الحر الدستوري إلى آخر حياته، ولو أنه وقف لفترة قصيرة مع الحزب الإصلاحي الذي أسسه الحسن القلاّتي. وقد حضر محمد العش أولى الاجتماعات التي عرفها منزل علي القرقوري قبل أن تصبح عامة وعلنية في 15 نوفمبر 1921 أشرف عليها من العاصمة كل من علي كاهية وصالح فرحات. وفي 17 سبتمبر 1922 تجمهر الناس في ساحة سيدي بلحسن للاحتفال بانتصارات مصطفى كمال على جيوش الحلفاء الذين احتلوا الأناضول في الحرب العالمية الأولى، وقامت الفرقة العصرية بالعزف، وجابت أهم أنهج المدينة العتيقة. وكلما مرت أمام دكان أحد أعضاء الحزب تتوقف، وتقوم بعزف قطعة موسيقية، مثل توقفها أمام منزل محمد العش بنهج الصايغية. وهو من العناصر الدستورية المعروفة بصفاقس، وله صوت مسموع في صفوف الأهالي. وقد يكون من المفيد الإشارة الى منازل محمد العش بسيدي منصور، وبنهج الصايغية ، وبالعروسين، وهنا يقطن طبيب العائلة الحكيم الحبيب العكروت والد أحمد العكروت. وقد حدثني الصديق فؤاد المؤخر عن منزل له شيد على النمط الصفاقسي الباذخ القديم في أرضه قرب (القيادة) غربي باب الديوان، هدم في الحرب العالمية الثانية، كما دمرت القنابل الامريكية البريطانية اكثر من 90% من الحي الافرنجي وريث الربض القبلي.
ولا شك ان هذه المنازل تعود الى زيجاته المتعددة، فقد تزوج منانة اللومي من صفاقس، ثم خديجة ادريس من صفاقس أيضا انجبت منه 6 بنات منانة وبية وفطومة وعيشوشة ومحسونة وقميرة . ثم ارتبط بزبيدة زقلاوي من سوسة انجبت له ولدين هما الهادي (1906) والطاهر (1913) زوجته الرابعة من تونس هي جميلة الحشايشي كانت تحب الغناء وتعشق الموسيقى وتعزف على البيانو وزوجته الاخيرة هي السيدة اللوز من صفاقس تزوجها قبل وفاته ببضعة أشهر.
IV- كيف نجعل لمحمد العش حضورا رمزيا بعد أن بسط في المجتمع الصفاقسي أجنحة الثقافة والفنون منذ بداية القرن ال20؟
يبدو أن محمد العش كرس حياته لتحقيق أهدافه، وبالتالي انسجم في نمط حياته مع قناعاته ورؤيته. وكان هذا منواله الذي سار عليه، وخريطة طريق مسيرة حياته:
1- فجر 'ثورة زراعية" في دائرته جسد فيها قيم العمل والجهد والعرق بإحياء أراض شاسعة بناحية بلتّش بجهة جبنيانة ، وزراعتها بغابات أشجار الزياتين. وكان هذا "الذهب الأصفر" مصدر ثروته، ومصعده الاجتماعي إلى صفوة الأعيان والأثرياء.
2- أحدث "تغييرا هيكليا" في منظومة التعليم التقليدي البائس. وأحدث سلسلة من المدارس أهمّها مدرسة الهلال، ومدرسة جبنيانة وغيرهما. أدرج فيهم نظام اللباس (مدرسة الهلال)، والمقاعد بدل حصير الجامع، وبالخصوص العلوم الحديثة وتعلّم اللغات والانفتاح على العصر
3- فتح المجتمع لأول مرة على أجنحة الثقافة والفنون لتهذيب الأخلاق والنفوس والطباع، وإعطاء معنى للحياة. فكان من مؤسسي جمعية التهذيب سنة 1912، وهي أول جمعية بصفاقس تهتم بالمسرح والفن إلى جانب الحبيب العكروت ومحمد القرمازي، وجمعية البر العربية سنة 1913، وترأس هيئتها الإدرية الحاج الفندري، وترأس محمد العش الهيئة التأسيسية لجمعية الموسيقى العصرية عند ظهورها سنة 1920 ونشر السلامية بصفاقس.... هذه المؤسسات رائدة في المسرح والتمثيل والموسيقى والطرب، فتح من خلالها صفاقس على أشهر الوجوه الموسيقية، للتدريب والتعلّم، من القيروان وتونس والقاهرة وحلب، ودفع بالكفاءات المحلية إلى مراتب أرقى في الجدارة والتألق، مثل الشيخ محمد بودية، ومحمد النابلي، كما جعل من البشير البش، شريك والده في الفلاحة والتجارة بجبنيانة، "فريد عصره" في بحور السلامية، المعروف بشبيه الفنان والممثل المصري الشيخ سلامة حجازي ، وهو والد الممثل عبد السلام البش ومحمد الطاهر والتيجاني وكلهم أعلام في عالم الفنون.
أعتقد أن البحث في ذاكرة رجل الخير والمكارم محمد العش (1857-1933)، يمدنا بسجل وثائقي، ومرجع تاريخي على غاية من الأهمية، لا سيما في الفترة الفاصلة بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والثلث الأول من القرن العشرين. ومن أبرز الخلاصات التي ننتهي إليها:
من ناحية، حياته تمجّد العمل والاجتهاد والمبادرة. وهذه من الخصال الايجابية عرفت في أنثروبولوجيا الصفاقسي منذ القديم، الى جانب ذلك كان يتميز بالصدق والعقل والموهبة، مضاف إليها سماحة السريرة وطيب القلب والأخلاق الرفيعة.
من ناحية أخرى لم يكن محمد العش ثريا فقط، بل كان من الوجوه الثقافية البارزة في بداية القرن العشرين. فهو من أوائل المؤسسين لأركان الحركة المسرحية والموسيقية بصفاقس، والأول الذي فتح بيته ومدينة صفاقس لكبار وألمع الوجوه الثقافية داخل تونس وخارجها، وكانت له في ذلك البصمة المتفردة. ومن الحكمة أن يدرج اسم محمد العش ضمن الموسوعة الثقافية لصفاقس، وليس للثقافة المحلية الحق في هذا النسيان؟ الى جانب أن محمد العش، كان وطنيا، وحركيا أيضا في الانضمام إلى الاهالي في مقاومتها للاحتلال سنة 1881، الذي فتح جحيم دانتي على المدينة بوحوشه العائمة (الأسطول العسكري الفرنسي)، ومعاداته فيما بعد، وله في ذلك جهد واضح وجليّ. ومحمد العش قام طول مسيرته بإضاءة حياة آلاف من الناس، وأنفق في ذلك الغالي والنفيس لينفي مظاهر الجهل الموجود في كل مكان، وليخفف من وطأة آلام الجوع والمرض والفقر والعطش، في زمن تفشت فيه هذه الآفات بهمجية وبلا رحمة. فهل قدرنا شحنة القلق والتمرد التي كانت عنده؟
علي سبيل الخاتمة: الحاجة الماسة لتذكّره
اردت الحقيقة أن أنصف محمد العش – وما أكثر المنسيين في تاريخ المدينة والمظلومين أيضا- وإعادته، بعد 91 سنة على رحيله، كطائر فينيقي متحدّ للنكران، لينتقل من مضيق النسيان إلى منصة ذاكرة تاريخ المدينة، وهو الذي تعالت أمواج أعماله في القطاع الفلاحي المرتبط بشجرة الزيتون وفي المجال الاجتماعي (فقد عرف بأب الفقراء) والمقاومة الوطنية وفي الفضاء الثقافي/الفني. قد لا يحتاج محمد العش أن يتذكره المجتمع الذي عاش فيه، وقد يكون في غنى عن ذلك لمن لهم ذاكرة معطوبة. لكن من المؤكد أننا نحن الذين بحاجة إلى أن نتذكّره ونذكّر به. عاش بيننا 76 عاما وكأنها مئات السنين لتجربته العريضة والخصبة وإنجازاته المترامية الأطراف. فما أضيق حدودنا وقصر رؤيتنا وما أمرّ عجزنا عندما لا نستطيع تكرار مثال محمد العش ومحمود عمار وغيرهما.
د.رضا القلال
مؤرخ وكاتب صخفي
- اكتب تعليق
- تعليق