عز الدين المدني - بمناسبة افتتاح السّنة المدرسيّة الجديدة : تلميــذ متفـوق (1)
كان تلميذا نجيبا في الاقسام الأولى بالمدرسة الابتدائية، وهي الفرع التّابع للمعهد الصّادقي الشّهير، معهد تكوين أبناء النّخبة التونسية حيث تعلّموا اللغة العربية وآدابها واللّغة الفرنسيّة وآدابها وعلومها في بحر القرن العشرين، على أيدي معلّمين تونسيّين وفرنسيّين يكنّ لهم الآباء والأولياء تقديرا عظيما نظرا لمستوى ثقافتهم المتينة العالية ولمهارتهم التربوية ولأخلاقهم الجميلة.
واسم هذا التلميذ إذا ما أردنا أن نتعرّف عليه في الأقسام الأولى لم يبلغ من عمره القصير أكثر من أربع سنوات، فاسمه هو ما درجت عليه تقاليد منح التسميات في العهود الماضية لأطفالهم الذّكور لا الإناث وذلك إلى نهاية الحرب العالمية الثّانية على وجه التقريب وهو ما كان يختاره الآباء وأحيانا الأمّهات من قائمة اسماء "عُبّـِد أو حُمِّد". أما كاتب هذه السّطور فإنّه يُسمى ذلك التلميذ الصغير من باب الإختصار: ع.
كان هذا الطفل مجتهدا في تعلّمه، وكان شقيقه الأكبر ينصُحه دائما بمراجعة ما درسه بالأمس في القسم وبحفّظه حفظ "شربة ماء" كما يقولُ النّاس حتّى إذا ما استظهاره وعرضه فلا "يلكلك" نصّه ولا يتعثّر فيه ولا ينسى أجزاء منه. كذلك أوصاه أخوه الأكبر بأن يحاول قراءة نصّ الصفحة التّالية ولو بتهجية الحروف وبتذكر الكلمات وبتقليد الصّور الصّغيرة التي تتحلّى بها...من أجل أن يكون سابقا على ما سيعلّمه المعلّم يوم غد من درس جديد.
لقد عمل ع. بنصائح أخيه الأكبر وبتوصياته على طول السّنة الدراسية وثابر على المراجعة والحفظ وواظب على السّبق ونسخ ما أشكل عليه من الكلمات ورسم الصّور التي تحلّي الصفحات. وصار ينزوي في الغرفة ولا يخرج بعد إتمام فروضه الى صحن الدّار الا للعب والتشعبط في عنان السّماء! إلى أن صار الإنزواء عادة في حياته، والدّرس والبحث والكتابة لا تكون عنده إلاّ داخل الإنزواء.
وأخوه الأكبر هو محمّد هو بكْر والده رحمهما الله. وكان قارئا أي متعلّما بل مثقّفا قد مزج بين الثقافة التونسيّة والثقافة الفرنسيّة. وقد تحصل على الشّهادة الابتدائية من الصّادقية الابتدائية ثم انخرط في التعليم بالخلدونية.
والتعليم في هذه المؤسسة التي أنشأها رجال تونس قد أخذت أطرافا من التعليم الزيتوني العريق وأطرافا من العلوم الطبيعية والصّحيحة وقد أتت بأغلبها الثقافة الفرنسية الاستعمارية واللّيبيراليّة المتحرّرة. لذلك كان أخوه يتقن اللغتين، ويحسن فهم الثقافتين ويستوعب معظمها، فصار مترجما. وكان يفضل جريدة "الزُّهرة" المسائيّة وجريدة "الوطن" العربيتين كما كان يطالع جريدة "ميسيون" التي كان يحرّرها بالفرنسية الحزب الحرّ الدّستوري التّونسي وذلك قراءة من ألِفِها الى يائِها، ومطالعة وتفكيرا. وكانت له أيضا اهتمامات بالصحّة والطبّ.
رنّ ناقوس المدرسة إيذانا لدخول التلاميذ الى أقسام الدرس. وظلّ نفس هذا الرّنين يعرفه ع. ويذكّره بالصّادقية وبطفولته وبأترابه وبعم مختار عامل المدرسة في الكنس والتنظيف وتعمير محابر الحبر بالحبر الخزامي وبتسخين ما في الكروانات والشقالات من أطعمة متنوّعة يأتي بها التلاميذ صباحا لتناولها عند منتصف النهار عوض العودة الى ديارهم...ولا عودة لهم إلاّ في آخر العشيّة الى عائلاتهم التي تنتظرهم متشوّقة إليهم بل على أحرّ من الجمر كما يقال!
من بين المعلّمات كانت المعلّمة السّمراء التي تركت في نفس الصّبي ذكرى حيّة مدى السنين حسب قول ع. ولا يمحو تذكّرها. فأثّر ذلك في نفسه وفي عينه تأثيرا ثابتا قويّا. فمنظر هذه المرأة السّمراء، البدينة، في عزّ السنّ، ذات شعر فاحم هائج قد تصدّر رأسها كلّه الى حدّ أذنيها ورقبتها وكاد يزحف على احدى كتفيها. وإذا ما ركّزت عينيها السّوداء عليك تحديقا وفحصا مع الصّمت الجامد تأخّرتَ عنها بخطوات وأغمضت عينيك رهبة من عينيها الشديدتين. إنّها شريفة المسعدي السّيدة المعلّمة السّمراء المعنيّة بتعليم صغار التلاميذ في الصّادقية بل في روضتها الطّفولية.
هي زوجة الكاتب والوزير السابق محمود المسعدي. وقد عرفها ع. وصار من أصدقائها طوال ستين حسب قول ع.
لم يستطع ع. أن يرومها، لا هي ولا عصاها الحرشاء الغليظة ولا صوتها العالي المتنمّر، ولا خطواتها الحازمة على المصطبة ولا لغتها الفرنسية التي تتكلم بها وتلقّنها للتّلاميذ الصّغار.
قال ع. : كنت أخشاها وأتمنّى أن تبلعني الأرض لو كلّمتني!
ومع مرور الأيّام والدّروس الأولى بدأت تتّضح الرّؤية وتنخفض شيئا فشيئا خشية ع. من معلّمته السّمراء، ومن صوتها العالي، من عصاها التي لا تضرب بها التلاميذ الصّغار وانما تُخبّط بها جانبا من مكتبها الخشبي حتى يتوقف المشوّشين.
قال ع.: وعلمتني الهدوء في مكاني، ورسم الحُروف بقامتها العاديّة بالطّباشير على اللّوحة الأردوازية التي أرفعها بيديّ في الهواء حتى تراها معلّمتي من بعيد...
كان ع. سريعا في إجاباته الصّحيحة فحوّلته من مقعده الى الجلوس في الصّفوف الأماميّة بالقسم لكي يكون دائما تحت نظرها، وقد توسّمت في ملامحه النّجابة والفطنة...فزاد هو استظهارا فرسم الحروف بشكلها العادي ثم خطّها في شكل التّاج أي الشّكل الكبير، ففرحت وتهلّل وجهها بالسّرور!
وسألته: من علّمك؟
أجاب: أخي سيدي محمد في الدار!
فأمرته أن يعيد كتابة هذا الحرف الأوّل من حروف الألفباء بشكل التّاج على السّبّورة الخضراء بالطّباشير الأحمر حتى يراها كلّ من في القسم...
لقد شملته المعلمة السّمراء بلطفها ع. واعتبرته ابنها لأنها لم تنجب إلاّ البنات ولأنّها أعدته تلميذا مجتهدا نجيبا، ذا مستقبل منتظر عظيم، لما عليه من أمارات الفطنة والحركة ولوامع من الملاحظات والذّكاء حتّى سمّته للمعلم سي بوجميل وللمعلم سي الزغواني وقد استرق ع. السّمع من كلامها:" شُعلة ها الفرخ! شعلة وربي يستره!!!
عز الدين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق