في افتتاح السنة المدرسية الجديدة: تلميذ متفوق(2)

في افتتاح السنة المدرسية الجديدة: تلميذ متفوق(2)

بقلم عز الدين المدني - في أواخر السّنة المدرسيّة الماضية وختامها يوم ثلاثين من شهر جوان وقبل العطلة الصّيفية، تسلّم ع. شهادات الشّرف الكبيرة البيضاء وشهادات الاستحسان الحمراء الأصغر حجما من الأولى بوصفها جوائز معنويّة مهمّة على اجتهاده الملحوظ في الدّراسة سواء باللّغة العربيّة أو باللّغة الفرنسيّة وعلى انضباطه وجدّيته وأخلاقه، وباختصار على أنّه تلميذ مجتهد نجيب يكاد يكون مثالا للآخرين من أترابه وأصدقائه الصّغار، تسلّمها من يد معلمته السّمراء التي اعتبرته ابنها وفضّلته، بحضور المعلّمين سي بوجميل وسي الزّغواني وبحضور والدي بصفة استثنائية. رحم الله الجميع.

انتقل ع. الى قسم السّنة الثّانية من التّعليم الابتدائي وكانت تسمّى في تلك الأيّام البعيدة عنّا اليوم السّنة الخامسة باعتبار التدرّج العكسي في ترتيب درجات التّعليم إزاء سنة الباكالوريا كانت تسمّى السّنة الأولى طبقا للتّنظيم الفرنسي. لقد تغيّر كل شيء في عينه! القسم ليس كما عرف في سنته الماضية لأن ّهذا القسم أقلّ ضياء واتساعا وزينة ملوّنة. ذلك أنّ لون السّواد يتغلّب عليه. فالسبّورة سوداء ومكاتب التّلاميذ سوداء ومكتب المعلّم أسود والمصطبة قديمة كأنّها مهترئة وواطئة وصحون فوانيس الكهرباء التي تتدلّى من السّقف مغبرّة سوداء ونشّافة السّبورة سوداء في سواد!
وقبالة هذا القسم ساحة رحيبة هي ساحة الرّاحة، قد زرعت فيها أشجار الشِّلهبْ وعُرْفِ الدِّيكْ. ورغم ذلك فهذه السّاحة الكبيرة مملوءة بشعاع الشّمس الضّاحكة في الصّباح وبزقزقة فراخ العصافير المنتقّلة من غُصن الى غُصن مُرحّبة بقدوم التّلاميذ ومُودّعة لهم أوقات مغادرتهم. وانفاس من السّرور والحبور تسود السّاحة التي تقع على أطرافها جنينة يانعة الخُضرةِ والازهار والرّوائح العطرة. إنّها جنينة المعهد الصادقي العتيد وما أدراك!

احتلّ ع. مقعدا شاغرا بعد الدّخول بنظام إلى هذا القسم الجديد تحت اشراف أحد المعلّمين الجدد فيما يبدو وبحضور مدير المدرسة نفسه وعلى رأسه برْطلّتهُ الشّخْماء. كان هذا المقعد الشّاغر يقع بين المقاعد الأخرى المجهّزة بكلّ مقعد بمكتب، وجلوس ع. لم يكن في الصّفوف الأمامية ولا في صفوف آخر القاعة...

أحسّ ع. بوحشة. فلا بدّ أنّ هذا الشّخص هو معلّمه التُّونسي الجديد بقامته الوافية، وبِكْرَافاته الحمراء الأنيقة على صدره، وهو ما انفكّ يذْرع طول المصْطبة جيئة وذهابا، وحذاؤه الأسْود الملمّع يُقزْقِزُ كلّما خطا خطوة وشاشيّته الاسْطنْبُوليّة الحمراء وهي مائلة لا تحبّ ان تستقرّ على الجانب الأيسر من رأسه على موضة الأعيان والمُستخدمين من الوزارة الكبرى= (اليوم هي مقرّ الحكومة في القصبة) لأنّ شاشيّته أكبر من دماغه! فقد غطست الى حد أذنيه! فضخك ع. على هذا المشهد وعلى انفعال هذا المعلّم لإرجاع شاشيّته إلى مكانها الأيمن ثم الأيسر، إلاّ أنّ ضحكته كانت مكبُوتة ولكنّ المعلّم الجديد لم تخف عنه تلك الضّحكة، واستأنف حذاؤه قزْقزَتهُ المُوسيقية العنيدة!

لم يكن ع. مرتاحا لا بسبب تغيّر أجواء هذا القسم الجديد، بل لأسباب أخرى. فالمعلّم الجديد الذي يدرّسه اللّغة العربيّة ليس ع. منشرحا به. ولكن سوف يتعوّد ع. بجو القسْم وبكلام المعلّم وسلوكه وطبعه، وماذا يُريد وماذا لا يُريد، وعلاقاته بالتلاميذ. وقد سألهم المعلّم واحدا بعد واحد عن وظيفة الأب وعن عُنوان السّكنى الخ...وشرع يدرّس الصّباح تلو الصّباح وكتاب القراءة مفتوح أمامه دائما.

في أحد الأيّام التّالية سأل المعلّم سي؟؟؟ أحد أصدقاء ع. الجالس على مقربة منه، واسم صديقه هذا حمّادي، عن تفسير كلمة جاءت في نصّ سابق من نصوص كتاب القراءة كان المعلم قد فسّرها من قبل. تلعثم لسان التّلميذ واحمرّ خدّه فبدا كأنّه نسي تلك الكلمة. وأصرّ المعلّم أن يفسّر حمّادي معناها إصرارا شديدا، فانكمش الطّفل وبرهن عن خوفه بخفض عينيه وكَسْرِهما واحْمِرار وجْهه كلّه، فصارت أصابع يديه ترتعش من الخوف والهلع وقال بصوت خفيض:"... والله يا سيدي نسيتها... سامحني نسيتها!!! وشرق فجأة بالبكاء. فلم يحتمل ع. ذلك المشهد ولا بكاء تربه الصّغير المسكين. صاح المعلّم، وبيده عصاه الخشنة الثقيلة فضرب بها رأس الطّفل ثم ضرب بها كفّ يده الممتدّة للعقاب، فصفعه على خدّه الأيمن صفعة حادّة ، وقرص أذنيه، والطّفل يصرخ من الألم... ويصيح المعلّم من جهته بأعلى صوته: " يا بهيم! يا حمار! انهار الكلّ وانْتِي تلعبْ! يا بهّامي! وقتاشْ تحفظْ وتِفهمْ؟ وقْتاشْ؟ توّا ناكلّكْ لحْمِكْ بطريحة إذا اتعاود صنْعتكْ يا خاسرْ!"

قال ع.: وكنت قبل أن "يؤدّب" هذا المعلم العنيف صديقي المسكين بضربه بالعصا وبالصّفع والقرص رفعت إصبعي وأنا أقول: يا سيدي خلّيني نعوّضه. آنا انقلّك تفسير الكِلْمه...! التفت اليّ متنمّرا: "إنت أُسكتْ! بلّع سكّرْ فُمّك! وصرخ صرخة الرّعد: صه! صه! أخرج عليّ!" فخرجت أجري وإذا بي أعترض على عتبة باب الدّخول إلى القسم عمّ مختار ذلك الرّجل الطيّب الخدُوم عامل المدرسة فسألني: آش فمّه؟ ...ها الصياح!!! آش وقع؟

ومن الغد صباحا هاج والد حمادي المسكين على مدير المدرسة سي حمّادي صاحب الطابع وماج! وأظنّ أنّه هو المدير التُّونسي الأوّل بعد إحالة المدير الفرنسي ناتالي على المعاش ان لم تخني الذّاكرة لأنّ حادثة الضّرب المبرح إنّما هي فضيحة في أيّام هذا المدير الوطني المنضبط في إدارة المدرسة. احتجّ الوالد صارخا وهو يجرّ خلفه ولده المسكين: "يحبْ يُقتلْ لي وِلدي؟ شوفّ خدُّه. شُوفْ الكفّْ الّي ضربُه بيهْ. هَايْ الأمارَه. آشْ كُون هوَّ ها الجحشْ الّي ما يِسْوَاشْ؟ توّا نقْلبْ عليه الدِّنيا! غُدوة عند سِيدْنا وعند المقيم انْسوَّدْلُه سعْدُه!!!" العنف له تقاليد راسخة في تونس وفي غيرها منذ قرون. فهو الشراسة والوعيد وقلّة الرّحمة والتخْويفْ بالضّرب ومنْع الأكل والشّرب والتّجويع! ذلك في مجال التعليم والتربية والتثقيف والمعرفة. والصّحيح أنّ صاحب المعرفة إنّما هو صاحب سلطة أمام من لا يعرف المعرفة أو حتّى من يرغب فيها. ولكنّها هي في حقيقتها سلطة فكريّة وأخلاقيّة ورُوحيّة لا غير فليست سُلطة مادّية نفعيّة او استعلائيّة عنيفة قاهرة للإنسان!

ونحن نعلم اليوم أنّ الكتاتيب التونسية كمؤسسة تعليمية دينية ولُغوية كانت تمرّر العنف من عصر إلى عصر ومن جيل الى جيل حتى نُعتتْ بـ" العصا والفلقة" ولكنّ لمن؟ وهل هي مرادف للعنف؟ وهل هي العقاب؟ هل هي فوق العقاب لدفع الإنسان إلى العلم والمعرفة؟؟؟

وهذه إشكالية فكرية مزمنة وقد خاض فيها المفكّرون والمربّون التّونسيّون إلى ان ألغيت" العصا" ومنعت وحرّمت اليوم.

عز الدين المدني

قراءة المزيد

عز الدين المدني - بمناسبة افتتاح السّنة المدرسيّة الجديدة: تلميــذ متفـوق (1)
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.