عامر بوعزة: بقرة المزغني وما أثارته من جدل
ماذا قال المنصف المزغني حتى يثير غضب جزء من الجمهور ويستثير حميتهم على الشّعر؟، لقد قرأ نصّا يشبه كل النصوص التي يكتبها منذ أكثر من ربع قرن والمعروفة بقِصرها وسخريتها وقلّة تكلّفها ووضوح مقصدها.
المزغني شاعر تجريبي مجدّد منذ كتابيه «قوس الرياح» و«حنظلة العلي»، ثم «حبات» و«محبّات» وعبر هذه التجارب المتنوعة التي بدأها بكتابيه «عناقيد الفرح الخاوي» و«عياش» استقرّ في نمط مخصوص من الكتابة يمتزج فيه النصّ بالأداء الصوتي والحضور المسرحي والتنغيم الموسيقي، حتى اختص بحضور لافت في مختلف المحافل الشعرية العربية، فكتابه الأول ظهر بعد عام من نشره في طبعة صوتية 1982 مستبقا بذلك كل مجايليه، هكذا هو المزغني أكثر من شاعر، هو ظاهرة شعرية، فماذا قال بالضبط حتى يجلب إليه نقمة فئة من الجمهور تدعي الغيرة على الشعر والبلاغة؟ لقد أصبح الفايسبوك منذ تلك الأمسية الشعرية التي شارك فيها عشرات الشعراء ساحة مفتوحة لرمي المزغني بشتى أنواع المقذوفات، يتخلّل حفلة الرجم هذه لطم وعويل على شعرية الشعر ومنافاة ما قال الشاعر لقواعد الذوق السليم!
نصّ المزغني يتكون من ثلاث جمل تتناظر في تركيبها النحوي وتتدرج بالمعنى من المادي إلى التجريدي، وكل جملة تقوم على علاقة ثلاثية محورها الشاعر أولا مع البقرة وبائع الحليب، وثانيا مع النحلة وبائع العسل، وثالثا مع الله و«رجل الدين». (قلت للبقرة أحب الحليب، وقلت لبائع الحليب أكره خلط الحليب بالماء، وقلت للنحلة أحب العسل، وقلت لبائع العسل أكره خلط العسل بالسكر، وقلت لله أحب الدين، وقلت لرجل الدين أكره خلط الدين بالسياسة).
يقوم النص بلاغيا على التشبيه، فالتناظر البنيوي بين الجمل الثلاث يفضي إلى تقابل بلاغي يظهر أن خلط الدين بالسياسة يشبه خلط الحليب بالماء وخلط العسل بالسكر، ووجه الشبه هو الغش.فمشكلة هذا النص حينئذ هي في وضوحه أو ما يعتبره النقد «خطابا مباشرا» لا سيما في مستوى الجملة الأخيرة وهو ما قد يرفضه من يعتبرون إيغال الاستعارة في الغموض شرطا من شروط الشعر، ويتصورون أن القياس المنطقي والتناظر الرياضي يضعفان طاقة الكلام الشعريعلى الإيحاء وقدرته على التخييل.
والمباشرة في الشعر ليست من صنيع المزغني بل فرضتها على الشعر العربي سياقات سياسية ملتهبة ولم ينج منها كبار الشعراء، فمحمود درويش يعتبر قصيدته «عابرون في كلام عابر»بيانا سياسيا أكثر منها قصيدة شعرية وظل دائما يتجنب طلب الجمهور في كل مرة بأن يعيد قراءتها ولا يستجيب، وسعدي يوسف بصق على العرب في قصيدة بعنوان صباح الخير أيها العرب صائحا: «للقدس التي صلّى بها الجربُ، صباح الخير، صباح الخير، تُف...تُف...أيها العربُ!»، ولا يعترض أحد بلا شكّ على صرخة مظفر النواب: «أولاد القحبة، لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم...» والصغير أولاد أحمد ظلّ طيلة حياته في مرمى النبال لتوخّيه كثيرا من المباشرة في نقد الإسلاميين.
والمزغني في السياق التونسي ليس جديدا ولا طارئا، فكثير من الذين ينتقدونه اليوم بشدّة حين يخاطب البقرة قد صفقوا ولا شك وضحكوا كثيرا عندما ألقى جملته الشعرية الشهيرة «خروف دخل البرلمان قال: ماع، ردّ الصّدى: إجماع» ،فتلك الجملة على قصرها كانت تعتبر قولا جريئا في التهكم على برلمان بن علي وديمقراطيته، لكن نقد المزغني خرج من مجال القراءة الأدبية الرصينة المتأنية ووقع تحت تأثير الاسكاتشات الفكاهية التي قدمها المقلّدون في المنوعات التلفزيونية والمقاربة الساخرة التي تضمنها فيلم«مرجان أحمد مرجان» لعادل إمام، فنقد المزغني إذن تقف وراءه ذائقة تقتات من المرئيات ولا تنغمس في أعماق السياق الشعري المحلي والعربي وهذا أمر من السخف والتهافت بمكان.
فإذا وضعنا المزغني في سياقه الأدبي سنجد أنه ليس أول من ابتكر هذا الضرب من الكلام الساخر في الشعر، وليس أول من وظف قاموس الحيوان، يكفي أن نذكر تجربة «في غير العمودي والحر» ورائديها الطاهر الهمامي في كتابيه «الحصار» و«الشمس طلعت كالخبزة» ومحمد الحبيب الزناد في كتابيه «المجزوم بلم» و«كيمياء الألوان»إذ كانت نصوصهما في حوار مستمر وجدلي مع الواقع بكل أصواته وألوانه وشخصياته وروائحه وفي تصادم معلن مع الذائقة التقليدية المحافظة،يقول الهمامي في معارضة ساخرة للموروث التقليدي في قصيدة بعنوان «مذكرات على السرير الأبيض»: «في الجهة الشرقية، قطة رمادية، داهمها المساء، تتمرغ في الأرض، تموء مواء، أقول وقد ماءت بقربي قطة...»، ونجد في نصّ للزناد بعنوان «نداءات في صباحات المدينة» توظيفا موسيقيا لنداءات باعة «الروبافيكيا»، كما نجده في نصوص أخرى يحاكي صوت الديك، وفي مواضع غيرهايوظف صياح بائع «الفريقولو» في قيلولات الصيف، والزناد كان أكثر أبناء جيله قدرة على اختراق المواضعات وقلب الأنساق، ففي نصّ نشره في 2005 بعد أن كان قد ترك هذا الضرب من الكتابة وعاد إلى الشعر العمودي والكتابة ذات المنحى الصوفي نجده يقول في رثاء الميداني بن صالح: « ذبابة، أشهر قصيدة على الإطلاق، مذ كتبت صارت الأسواق، تشكو أزمة في الفليتوكس»، ومؤكد أن هذا المقطع لا يمكن أن يفهم الا في سياقه النصي مع مختلف المتتاليات الشعرية التي تحيل على مجتمع الستينات لا سيما وأن القصيدة عنوانها «في مقهى لونيفار»، كما تمثل في هذا الاتجاه تجربة صالح القرمادي الشاعر ورائد علم اللسانيات علامة مهمة ومن أطرف قوله في المحاكاة الساخرة: «ألا ليت الدجاج يعود يوما فأخبره بما فعل المبيض» أو قوله :«حب قفص، حب ليس يغتنم الفرص، حب نصف عمومي، نصف خفي، حب طري شهي، ككتف العلّوش على الكسكسي».
أما إذا كانت الحملة على المزغني بسبب استخدام لفظ البقرة في سياق شعري فسورة البقرة عند السلف«ذروة سنام القرآن الكريم» وفضلها لدى المسلمين عظيم. ولا شيء يمنع البتة استخدام هذا اللفظ أو ذاك في الشعر، إذ أصبحت تلك النظرة الكلاسيكية التي تفصل القاموس إلى مفردات شعرية وأخرى غير شعرية نظرة بائدة عفا عنها الزمان،لا سيما وأن لغة «اليومي» دخلت مجال الشعر والغناء العربيين وأنزلت القصيدة التقليدية من عليائهاوصفويتها لتختلط بالواقع، فعل ذلك كُتّاب وشعراء ينطلقون من خلفيات يسارية على وجه الخصوص، وانتهى الجمهور العربي أخيرا إلى تقبّل فيروز في شكلها الجديد الذي صاغه لها ابنها زياد الرحباني منذ «هدير البوسطة» و«كيفك انت» وغيرهما من الروائع التي لم تعد فيها جمالية الشعر تستند إلى عمق الصورة وبعدها البلاغي بل إلى قربها من نسغ الحياة ودفقها الإنساني.
قد تكون المباشرة السياسية أضعفت نص المزغني من وجهة نظر أدبية بحت، لكن هذا لا يبرر مطلقا الحملة الشعواء التي تستهدف الشاعر، فحفلة الرجم هذه ليست الاّجزءا من صراع مستعر في الشارع التونسي ومفتوح على كل الاحتمالات، صراع سياسي لا علاقة له بالنقد الأدبي، ومن المفارقات أن تكون هذه الحفلة بسبب دعوة الشاعر إلى الفصل بين الدعوي والسياسي رغم أن زعماء التيار الإسلامي في تونس يدعون أن هذا الأمرقد حدث فعلا، فما الذي يغضبُ عندما يقول الشاعر ذلك؟
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق
كل ما قاله ابنقد صحيح فالمنصف المزغنى من الشعراء القلائل التى انجبتهم العربية ولايستطيع اى شاعر ان ينشد بعده..جمعتنى به مهرجانات عربية كثيرة وكنت اتحاشى ان اكون رغم جماهيريتى معه فى أمسية واحدة