أخبار - 2017.03.27

تونس‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬هنـري‭ ‬دونان: أوّل‭ ‬فائز‭ ‬جائزة‭ ‬"نوبل للسّلام"

تونس‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬هنـري‭ ‬دونان: أوّل‭ ‬فائز‭ ‬جائزة‭ ‬"بنوبل للسّلام"

اشتهر هنري دونان (1828-1910) على الصعيد العالمي بوصفه مثقّفا إنسانويا ومؤسّسا لمنظمة الصليب الأحمر الدولي، وبفضل مآثره في مكافحة الحروب وتكوين شبكة دولية للإسعاف وإنقاذ الأرواح البشرية استحقّ أن يكون أوّل من يحصل على جائزة نوبل للسلام في 1901. غير أنّ شخصيته الثرية تنطوي على أبعاد أخرى غير معروفة، فهو أيضا مستشرق ورحّالة ومناصر للإصلاحات في الغرب الإسلامي، وبخاصة في تونس والجزائر اللتين زارهما في أواسط القرن التاسع عشر.

سافر دونان الشاب إلى الجزائر بوصفه رجل أعمال سنة 1853 آملا في إقامة مشروع زراعي وصناعي (مطحنة حبوب) في ضاحية مدينة سطيف، ولم يتعدَّ سنُّهُ آنذاك أربعة وعشرين عاما. إلا أنّ المستوطنين الفرنسيين عرقلوه ورفضوا منحه ترخيصا بسبب انتمائه إلى جنسية أخرى ومذهب ديني مختلف (كان بروتستانتيا إصلاحيا أو كالفينيا Calviniste)، فذاق مبكرا سوء المعاملة والتمييز، وهو ما تحدّث عنه بعبارات صريحة في رسائله. ولذا توجّه إلى تونس وأقام فيها ستة أشهر بين 1856-1857، على الأرجح لدراسة إمكانات إقامة مشروعه فيها. وقد أعجب بانفتاح البلد الذي كانت تتعايش في مدنه الساحلية أقليات عرقية ودينية آتية من الحوض المتوسطي، مثل الطليان والمالطيين والأندلسيين مسلمين ويهودا المطرودين من اسبانيا. إلا أنّ ما أثار إعجابه بتونس أكثر من سواه، هو قرار المشير أحمد باشا باي في 1846 سنّ مرسوم يُلغي الرقّ. وشكّلت سنة 1857- 1858 منعطفا في حياة دونان، إذ مهّدت لتبلور أهم المحطات في مسيرته وهي إصدار كتابه عن تونس Notice sur la régence de Tunis في 1857 وحصوله على الجنسية الفرنسية في 1859 ومقابلته مع نابليون الثالث في 1859، الذي كان يُدير معركة سولفيرينو ضدّ الامبراطورية النمساوية، ومن ثمّ تأسيسه للجنة الدولية للصليب الأحمر في 1863، وحصوله على جائزة نوبل للسّلام سنة 1901.

كان دونان من روّاد الدّعوة السّلميّة المسيحية، وهي قناعة بدأت تتبلور خلال إقامته في تونس، فبوصفه رجل عقيدة، كان مولعا بزرع السلام في الأرض المُخضّبة بالدماء. ويُعتبر كتابه عن بلادنا، الذي قدّم وصفا إيجابيا للمجتمع والدولة على السواء، من بواكير الكتابات الأنثروبولوجية، فضلا عن كونه فتح بابا واسعا في علم الأثنوغرافيا. لكنّنا لا نعرف من أين أو ممّن استقى المعلومات التي أتاحت له وضع هذا التأليف. ونلاحظ أنّه يُقسّم سكّان تونس إلى أعراب Arabes ويقصد بهم البدو bédouins وعرب Maures ويقصد بهم الحضريين citadins، بالإضافة إلى «الجبالية» أي البربر.

كما قدّم الكتاب أيضا صورة عن نظام الحكم والاقتصاد والعادات الاجتماعية، وتطرّق أيضا إلى الجانب الدّيني، إذ اعتمد على مصادر لا نعرفها للحديث عن القرآن والرّسول، وإن تضمنت بعض الأخطاء أحيانا، التي يمكن إرجاعها إلى المصادر الغربية التي اعتمد عليها، ومن بينها كتاب الأديب الفرنسي شاتوبريان عن تونس، الذي زارها قبله. وتبدو تونس في مرآة دونان رومانسية فهي جميلة وراقية في موسيقاها وهندستها ونظافتها حتى أنكّ تحلم بالعيش فيها. كما مدح في الكتاب أحمد باي واصفا إيّاه بالمصلح باعتباره مؤسّس المدرسة الحربية Polytechnique  الأولى في العالم العربي، ونعته بالكريم لأنّه قدّم مساعدة بثلاثين الف فرنك فرنسي لمساعدة ضحايا الفيضانات في فرنسا، وبمُحرِّر العبيد لأنه سبق أمريكا وفرنسا في إلغاء الرَّقَّ.

ويُعتبر موقف دونان من الإسلام مُتميّزا ومُتقدّما قياسا على المواقف الدونيّة المنتشرة في الغرب اليوم، فنظرته بعيدة عن العداء والازدراء، إذ رأى فيه مستوى من الروحانية أعلى ممّا في المسيحية. ويقول في هذا السياق إنّ العودة إلى الأوضاع التي كانت سائدة في الجاهلية تُبيِنّ أنّ الاسلام جاء مُخلّصا من تلك المصائب، وهو دين يعترف بالرسل وبالدين المسيحي. كما اعتبر أنّ وضع العبيد في بلاد الإسلام، وخاصة تونس وتركيا والمغرب، قبل إلغاء الرق كان أفضل بكثير من وضعهم المُهين في أمريكا. وعزا الاختلاف في المعاملة إلى سماحة الإسلام، واستدلّ بأقوال بعض العلماء في وجوب حسن معاملة العبيد، لكن تلك الأقوال هي في الواقع أحاديث نبوية. وأحبّ دونان أيضا اللغة العربية وكان مفتونا بجمال حروفها وخطوطها. بهذا المعنــى كـانت نظرته للإسلام منسجمة ومتّفسّقة مع رؤيته الإصلاحية للمسيحية أيضا. وقد استحسن تأييد علماء المالكية والحنفية في تونس، ومن بينهم الشيخ ابراهيم الرياحي، لقرار عتق العبيد الذي تُوِّج في 1846 لكن أحمد باي بدأه بقرارات تدريجية من 1841.

ويمكن إدراج كتاب دونان في سياق الإقبال الكبير في أوروبا خلال القرن التاسع عشر على علم الجغرافيا بوصفه مفتاحا للسيطرة على المستعمرات ولمعرفة مواقع الثروات الطبيعية. واعتمدت الدول الاستعمارية كثيرا في هذا المجال على كتابات الرحالة والمبشّرين لتجميع المعلومات عن البلدان المنوي احتلالها. وقد كان دونان مؤسّسا للجمعية الجغرافية السويسرية وانتزع بذلك الاعتراف به في الأوساط العلمية. والمُلاحظ أنّه بعد عودته من تونس بسنتين توجّه إلى سولفيرينو لمقابلة نابليون الثالث، الذي كان يقود القوات الفرنسية. وفي الطريق إليه اضطرّ إلى أن يعبُر ميدان المعركة المليء بالجرحى وجثث القتلى، إذ سقط في تلك الحرب 38 ألفا بين قتيل وجريح، من دون وجود وسيلة للإنقاذ أو دفاع مدني، فكانت تلك الصدمة القادح الذي حفّزه على تأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.