أدب وفنون - 2017.03.26

الثـّــورة الرقمـيّــة: أحلام الكونيّة وواقع الهيمنة

الثـّــورة الرقمـيّــة: أحلام الكونيّة وواقع الهيمنة

إنّ ما يميّز الثّورة الرّقميّة عن سابقاتها من الثّورات التّكنولوجيّة منذ أقدم العصور، سرعة النّسق وسعة الانتشار وشمولها لكافة مجالات النّشاط الإنساني  فهي لا تفتأ تنتج كمّا هائلا من الأنظمة والشّبكات والبرمجيات وأجهزة الاتّصال المختلفة ذات التّأثير البالغ في مختلف أوجه النّشاط الإنساني وسائر القطاعات الإنتاجية والخدمات التي تحتاجها الحياة البشريّة على كوكب الأرض.

من مظاهـر تلك الشّموليّة، على سبيـل المثـال النّموّ المنقطع النّظيـر لســوق الاتّصــالات الهاتفيّة، حيث بلغ عدد حاملي الهواتف النقّالة في السّنة الحـاليّة نسبــة 99.7% من سكان العالم؛ وكذلك الشــّأن بالنّسبة للشّبكة العنكبوتيّة (World Wide Web)، وهي التّطبيق الأشهر للأنترنت منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث قُدّرَ عدد المتّصليــن بها سنة 2016 عبر الهواتف الذّكية، 1,712 مليار نسمة؛ وبلغ عدد المشتركين في فايسبوك نحو 1,8 مليار، وتشير الإحصـاءات إلى أن 53% من التـونسيين مشتركون في الشّبكــة الأخيــرةومــن المشــروع، والحالة تلك، طـرح بعـض الأسئلة والخواطــر السّــريعة حول تلك الطبيعـــة الشّمـــوليّة للظاهـرة الرّقميّـــة بتطبيقاتها وآثارها في الأفــراد والجماعات ومدى استجابة نتائجها للشّـــروط المفترضة لها كثورة رافقت العــولمة الاقتصاديّة ووعدت بشائرها بعالم أكثر توازنا وعدالة.

الشّبكة العنكبوتيّة: طوباويّة جديدة

ليس الهدف هنا بيان التّعارض بين من يرون في الشّبكة العنكبوتيّة التعبير الأسمى عن حضارة «كونيّة» جديدة، وبين من يعتبرونها مؤامرة خبيثة تحاك ضدّ الإنسانيّة، فتلك خطابات تغلب عليها المثاليّة أو المزاجيّة؛ وإنّما المراد محاولة فهم منظومة بالغة التّشعّب والتّعقيد، أكسبتها قدرة الحواسيب الفائقة على معالجة المعلومات هيمنة تتجاوز مراكز السّلطات التّقليديّة في العالم؛ ويجدر أن نتساءل حول حقيقة ما وعدت به من لامركزيّة التّحكّم في الأنترنت وضمـــان لِحيــاديّته، مع الإشـــارة إلى ما رافق نشوء التّكنـولوجيـات الـرّقمــيّة وتطبيقاتها المختلفة من آمال في بناء مجتمع كونيّ أكثر عدالة  وتوازنا ضمن «القرية العالميّة» حيث تتواصل الحضارات وتتضـاءل أسبـاب التـــوتّر بينها بفضل يسر الاتّصال وفضيلة التّعارف.

هيمنة قديمة في شكل جديد

لقد كانت للثّورات التّكنولوجيّة السّابقة منذ أقدم العصور آثار حاسمة في تطوّر المجتمعات الإنسانيّة، إلاّ أنّ تأثيرها من حيث النّسق والعمق والاتسّاع قد اختلف من مجتمع إلى آخر؛ فبينما كانت مُرتكزا للقوّة والازدهار ومحرّكا للتّحوّلات الجذريّة عند بعضها، كان أثرها في المقابل بطيئا ومحدودا عند بعضها الآخر واختلف التّفاعل معها والإفادة منها باختلاف القابلية لتمثّل مدلولاتها الفكريّة والرّمزيّة والاستفادة من منجزاتها ماديّا في تغيير أساليب العيش وتطوير رؤى واضحة للمستقبل. والثّابت أنّها كانت في كلّ العصور عنوان تفوّق حضارات على أخرى وأداة لتوسيع هيمنتها عليها ولا تشذّ الثّورة الرّقميّة في ذلك عن سابقاتها حيث انطلقت موجاتها الأولى تطويرا وإنتاجا في مناطق أوروبا الغربيّة وأمريكا الشّماليّة واليابان وهي مراكز نفوذ اقتصادي عريقة ثمّ بلغت بالتّدرّج مجتمعات أخرى ذات بنية اقتصاديّة نامية نجحت في مواكبتها والاستفادة منها، بينما ظلّت غالبية من المجموعات البشريّة منها في موقع المستهلك. واليوم لا تزال وسائل إنتاج الصّناعة الرّقميّة وأجهزتها وبرمجياتها الأكثر تعقيدا وفعاليّة حكرا على مجتمعات دون أخرى في إطار علاقة غير متكافئة بين الصّانع والمستهلك، بما يصاحب ذلك الاحتكار من إملاءات معلنة أو ضمنيّة وشروط مفروضة تصبّ جميعا في المحافظة على مصالح القوى المنتجة دون اعتبار لمصالح المستهلكين ممّا يذكّر بأشكال أخرى من الاحتكار أو التّحكّم في مجالات اقتصاديّة عديدة مثل المواد الأوّليّة والطّاقة لا تزال البلدان الأقلّ نموّا تعاني منه إلى اليوم. فالثّورة الرّقميّة وإن أتاحت لبعض الدّول أو المجموعات البشريّة تحقيق بعض المكاسب الاقتصاديّة والعلميّة، فإنّ تلك المكاسب تظلّ رهينة بمدى خضوعها لشروط منظومة تتجاوزها ولا تملك بحال التّأثير في توجيهها؛ ومن الأدلّة على زيف مبدأ لامركزيّة شبكة الأنترنت استمرار الوكالات الأمريكيّة في التّحكّم في إدارتها واحتكارها لإسناد العناوين الإلكترونيّة وأسماء المجالات للمستخدمين عبر أنحاء العالم وإحاطة المفاتيح المتحكّمة في أنظمتها القاعديّة بالسّريّة المطلقة وبإجراءات أمن استثنائيّة.

زيف حياد الشّبكات ولا مركزيّة التّحكّم

أمّا بخصوص مبدأ حياديّة الأنترنت فإنّ الاختراقات التي يتعرّض لها لا تحصى ممّا يثير بين الحين والحين تساؤلات وشكاوى من مستخدمي الشّبكة ومن مؤسّسات عالميّة معنيّة بحريّة التعبير وحقوق الإنسان والحفاظ على الحياة الخاصّة والبيانات الشّخصيّة، من بينها جمعيّة الأمم المتّحدة نفسها التي حاولت في مناسبات التّصدّي لمزيد بسط نفوذ بعض الحكومات عليها؛ كما لا يخفى ما لشبكة فايسبوك من علاقات بالأجهزة الحكوميّة الأمريكية ومنها السي آي إي التي تربطها بها استثمارات ماليّة وتغنم من ذلك الاغتراف من أضخم بنك للبيانات الشّخصيّة في العالم. وهكذا يتبيّن أنّ الثّورة الرّقميّة وتطبيقاتها «الكونيّة» لم تحقّق على مدى عقد ونصف من الزّمن تلك الصّورة البريئة الرومانسية للقرية العالميّة، بل لقد أفرزت نسخة جديدة من تلك الهيمنة التّقليديّة للاقتصاد الليبرالي، لعلّها أشدّ سطوة وتحكّما وشموليّة وأداة رهيبة للتّلاعب بالعقول والتّدجين ومراقبـــة كلّ ما يتحرّك على البسيطة.

المشكلة الاقتصادية: سطوة النّظام التّجاري وقد يكون قبول المجتمعات المستهلكة لعلاقة الهيمنة في مجال الاقتصاد الرّقميّ مبرَّرا آنيّا نظرا لعجزها عن المنافسة في مجالات تصنيع المعدّات والأجهزة وباعتبار حاجتها القصوى لها في مشاريعها التّنمويّة، غير أنّ ذلك التّبرير سرعان ما يسقط لأنّها لا تكتفي من مزايا الثّورة الرّقميّة بما هو ضروريّ وحيويّ بل تتجاوزه إلى الكماليّات والتّرفيه لتصبح أسواقا مفتوحة لشتّى إليكترونيات اللّهو وتجزية الوقت التي يقبل عليها النّاس من كلّ الطّبقات، حيث بات متاحا لأقلّ المستعملين تأهيلا، بل حتّى للأمّيين، زيارة مواقع الأنترنت والمشاركـة في شبكات التواصل الاجتماعيّ. والواقع أنّ استهلاك المنتجات الرّقميّة لا تحكمه الضّرورة وحدها وإنّما توجّهه السياسات التّجاريّة للشّركات المتعدّدة الجنسيّة التي لا ترى في المجتمعات النّامية سوى سوق استهلاكيّة كونيّة تجني منها الأرباح الطّائلة، ناهيك أنّ صافي ربح شركة فايسبوك لسنة 2016  بلغ 10,2 مليار دولار متأتيّة من عائد الإعلانات وحدها. وفي المقابل نلاحظ أنّ النّظام التّجاري الليبرالي المسيطر قد أمات في الدول والحكومات الأقلّ نموّا إرادة المواجهة الجادّة لذلك الوضع واستنباط أي استراتيجيات تضامنيّة فيما بينها لترشيد استعمال تكنولوجيات المعلومات بما يتلاءم مع واقع مجتمعاتها ويضمن الحفاظ على مصالحها الاقتصاديّة.

المشكلة الثّقافيّة: استهلاك الدخيل وضعف المناعة

إذا قيل إنّ من محاسن الثّورة الرّقميّة وتطبيقاتها أن شملت العالم وغنم منها المليارات من البشر مجالا واسعا للتّواصل والمساهمة في بناء ثقافة كونيّة مشتركة، وجب الرّد بأنّ نسب استفادة المجتمعات المستهلكة من المنظومة محسوبة ومحدودة من قبل القوى المركز المتحكّمة ومن يدور في فلكها أو يشاركها في الفوائد الحقيقيّة. ويبدو إسهام الدول النّاميّة في صياغة الثّقافة الكونيّة الموهومة ضئيلا لاكتفائها في الغالب بدور المستهلك لأنماط فنيّة وفكريّة دخيلة تسعى إلى طمس ما بقي من إرث حضاريّ محلّي لا تتوفّر له أسباب المناعة، وإن هي تناولته فعلى نحو سريع ومُبْتَسَر وفولكلوري. وما تزايد  أعداد مواطنيها المستخدمين للأنترنت وتطبيقاته وشبكات التّواصل فيه سوى تضخّم للكمّ على حساب الكيف ولا يستجيب للحاجات الجوهريّة الملحّة للمجتمعات النّاميّة ولا يضمن الحفاظ على ثقافاتها الأصيلة والأمثلة على ذلك كثيرة يضيق المجال عن ذكرها؛ ذلك أنّ المادّة الغنيّة والرّفيعة وفرص تطوير المهارات الشّخصيّة واكتساب المعارف المتاحة في الشّبكات الجادّة المتخصّصــة لا يستفيد منهـا سوى القـلّة إذا ما قيست بالأعداد الخيالية من المستخدمين ذوي الاهتمامات السّطحية الضاربين في مجــاهل العوالم الافتراضيّة على غير هدى، ممّن هم أكثر قابليّة للتنميط الثّقافي والسّلوكي.

وإذا كانت الشّبكات الاجتماعية الأكثر انتشارا مجالا لربط الصّداقات وتبادل الآراء والانطباعات السّريعة عن الأحداث والمناسبات وتجديد الصّلة بأصدقاء قدامى واكتساب آخرين، وهو أمر لا اعتراض عليه، إلاّ أنّها تعجّ أيضا بسلوكيات وممارسات سلبيّة يتبدّى فيها ضعف الصّلة بالواقع والإخبار عنه دون رويّة وتعمّق بل بالتّزوير والتّعتيم وطمس الحقائق وعادة المناكفة والتّلاحي.

بقي أن نتساءل إذا ما كان ذلك النّفاذ السّريع لتكنولوجيات المعلومات والاتّصال إلى واقع الإنسانيّة المتنوّع في أقلّ من عقدين قد أفضى إلى ثقافة كونيّة تستلهم روحها وثراءها من تنوّع الثّقافات كما بشّر بها مفهوم القرية العالميّة المتفائل، وهل صدق وعده بالتقريب بين الشّعوب وسدّ الفجوات ورأب الصّدوع بينها في المؤتمرات والقمم العالميّة حول مجتمع المعلومات؟ إنّ الواقع يشير إلى أنّ الشّروخ لا تزال قائمة إذا ما نظرنا إليها من زاوية تكافؤ الفرص. أمّا العالم الأفضل في عصر وسائل التواصل فلا يعدو أن يكون أسطورة إذ نرى أفرادا وجماعات تُدفَعُ إلى ممارسات أقرب إلى التوحّد النّفسي وفئات تنغلق على نفسها وتتأجّج الصّراعات الإيديولوجيّة والطّائفيّة بينها في معامع الحروب الإلكترونيّة. ونرى الشّبكة العنكبوتيّة تتوزّع إلى طبقات ودهاليز منها ما ينعت بالعميق (deep web) والمظلم (dark web) حيث يُمارس كلُّ غامض ومشبوه وإجراميّ من المعاملات في غياب استراتيجيات مضادّة وفي غفلة كونيّة أكثر المستفيدين منها قوى الهيمنة والمال. والواضح إنّ الوعي بتلك المشكلات قد أدّى ببعض الدّول الأكثر نموّا إلى سنّ التّشريعات لحماية فئات من مواطنيها وخاصّة الأحداث من مضارّ الأنترنت ومضاعفات إدمانه وآثاره السّلبيّة على التّربيّة والثّقافة، بينما تبقى غالبيّة الدول الأخرى في حالة شبيهة بانبهار طفل أمام لعبة إلكترونيّة. وبينما يمنع أصحاب الشركات المنتجة للأجهزة والبرمجيات في السّيليكون فاليه بكاليفورنيا أبناءهم من استخدامها مطلقا في مراحل التّعليم الأولى اقتناعا منهم بمضارها، لا يزال بعض منّا يبشّر بـ «المدرسة المعلوماتيّة الشّاملة» ابتداء من الطّفولة المبكّرة!.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.