بيّنتم في كتابكم «مرجعيات الإسلام السياسي» أن المرأة في جوهر الإسلام السياسي، ولا سيما في قضايا تعدد الزوجات والخمار والإرث؛ وأنّ الخطاب الإسلاموي مهووس بالمرأة ويرى فيها الإسلام السياسي مصدر فتنة، لا كائنا كامل الحقوق والواجبات. هل يمكن في رأيكم تجاوز هذا المأزق وكيف ؟
ليس فقط يمكن، بل نحن نعيش تطورا في هذا المجال؛ ولعلّ العامل الأساسي في هذا التطور هو خروج المرأة إلى مجالات العمل المختلفة. نسبة النساء العاملات عندنا ما زالت ضعيفة، هي الآن في حدود 30 بالمائة ؛ حين تصبح نسبة النساء العاملات 60 أو 70 بالمائة فلا شك أنّ العقلية العامة ستتغير. من ناحية أخرى نحن نرى أن النساء أصبحن يطالبن بحقوق لم تكن تخطر على بال أمهاتهن.
كما هو الشأن في مسألة المساواة في الإرث مثلا، ما هو رأيكم في هذا الموضوع؟
هذا السؤال هو نفسه الذي ألقي علي في لجنة الصحة والشؤون الاجتماعية بمجلس نواب الشعب. قلت لهم العبرة ليست برأيي، لأنني بصفتي مواطنا يمكن أن يكون لي رأي.المهم هو أن نتبيّن ما يؤدي إليه البحث في النصوص . الرأي لا يُبنى من فراغ. فإما أن يُبنى على سلطة الخبر والإجماع؛ أو أن يُبنى على ما يؤدي إليه البحث في النصوص؛ وذاك لن يكون رأيا خاصا بقدر ما يكون الرأي الذي له أسس علمية متينة.وضربت لهم مثلا بسيطا. قلت لهم هناك آلاف الحالات لأزواج يتوفون ويتركون زوجة وابنتين وأمّا وأبا، آلاف الحالات وليست حالات شاذة: إذا ما نظرنا في النصوص القرآنية التي يقال لنا إنها صريحة وقاطعة وبتت في الأمر، فإننا نلاحظ أن الأنصبة، أي نصيب كل واحد من الورثة، لا يمكن أن يطبّق. لأن الزوجة لها الثمن والأب له السدس والأم لها السدس والبنتين لهما الثلثان. حين تجمع هذه الأنصبة فإنك تتحصل على أكثر من التركة نفسها.
عمر بن الخطاب وجد الحل ؟
لا، بل يُنسب إليه الحل الذي يسمى « العٓوْل» ، وليس من الثابت أنّه طُبق في عهد عمر؛ وانطباعي أنّ العلماء توصلوا إليه بعد ذلك.
أريد أن أقول إنّ الآيات التي تُعتبر صريحة هي لفض مشاكل وقعت في عصر النبوة، وليس المقصود بها التشريع بدون اعتبار الزمان والمكان والحالات المختلفة. فإذا ما كان التشريع الإسلامي في القديم مستجيبا للعقلية الموجودة في المجتمع التي فيها عدم مساواة ، فنلاحظ من ناحية أنّ الحالات التي تعرّض إليها النص القرآني مثّلت ثورة على ما كان موجودا من قبل، لأنها مكنت المرأة من نصيب من الإرث كانت محرومة منه، ولكن من ناحية ثانية لم يقصد من هذه النصوص التشريع بدون اعتبار الظروف المستحدثة والقيم المستحدثة. لذلك قرر الفقهاء وأجمعوا على ذلك: أنه «لا وصية لوارث» وأنّ «الوصية لا يمكن أن تتجاوز الثلث»؛ هذا خلافا لما هو وارد في النص القرآني.
لذلك أقول إننا إزاء منظومة قديمة، حصل حولها إجماع، ونحن نعرف لماذا حصل حولها هذا الإجماع؛ حصل لأنّ القيم المجتمعية كانت تفرضه؛ ونحن في حاجة إلى قيم جديدة هي قيم المساواة. النص لا يقيدنا بل بالعكس. هذا بالإضافة إلى أنّ الضمير الجمعي التونسي ليس موحّدا. هناك حالات معروفة لدى الجميع لا تتجرأ المرأة فيها على المطالبة بنصيبها من الإرث لأنّ أهلها سيقاطعونها. وهناك حالات أخرى في المجتمع التونسي إمّا أن صاحب التركة يقسّم في قائم حياته بين أبنائه بالتساوي أو يوصي بهذه المساواة أو أن يقرّ الورثة أنفسهم باعتماد مبدإ المساواة. فليس هناك حالة واحدة تُطبق على المجتمع التونسي.
المجتمع التونسي ينتظر من التشريع أن يكون قاطرة له نحو التقدم، والتقدم لا يكون إلا بالسير نحو المساواة كما حصل في بداية الاستقلال؛ حيث أنّ التشريع وسنّ مجلة الأحوال الشخصية كانا قاطرة جرت المجتمع. هذا هو المنتظر. وهذا لا اعتبره رأيا خاصا وإنما الرأي الذي يؤدي إليه تحليل النصوص والرأي الذي يؤدي إليه تحليل الرهانات الكامنة وراء الإجماع؛ أي أنّ تطبيق المناهج الحديثة في دراسة التاريخ وفي دراسة النصوص هو الذي يؤدي إلى ذلك.
صدر في الأسابيع الأخيرة عن دار نشر فرنسية كتاب مثير للجدل، وهو كتاب « أيام محمد الأخيرة » لهالة الوردي. كيف تفاعلتم مع هذا الكتاب؟
رأيت فيه جهلا بقراءة النصوص وتأثرا بنزعة موجودة الآن في الغرب نحو التشكيك في كل مقومات المجتمعات الإسلامية. لذلك يُعتبر هذا الكتاب إرضاء لفئة من المجتمعات الغربية تعادي الإسلام والمسلمين. ليس هذا الكتاب بكتاب علمي؛ وإن كانت فيه إحالات على مئات النصوص فصاحبته لا تحسن قراءة النصوص، إضافة إلى التناقضات التي تقع فيها. فمرّة تعتبر أن الرسول مات مسموما لكن بسم أعطي له قبل سنوات من وفاته، ومرة تعتبر أنه لم يتوفّ في سنة 632 (م) بل في سنة 634 (م)، لأن هناك كاتبا مغمورا من غير المسلمين تحدث عن وفاة الرسول في تلك السنة.لا، هذا ليس تمشيا علميا؛ هي تأخذ بعض النصوص كأنها حقيقة مسلّم بها والروايات الشيعية معروفة. لا أعتقد أنّ هذا الكتاب يستحق أن يُعتبر دراسة علمية ثابتة؛ لذلك هو يندرج في نطاق الكتب التي يهواها الغرب؛ لكن لا صلة لها لا بمجتمعنا ولا بتاريخنا.
"المصحف وقراءاته"
ما الجديد في إنتاجكم الفكري ؟
فرغت منذ مدة من الإشراف على عمل جماعي قامت به مجموعة من الباحثين ومن الأساتذة ومن طلبة الدكتوراه حول القراءات القرآنية ؛ وصدر هذا الكتاب منذ مدة وجيزة ومن سوء الحظ لم يصل بعد إلى تونس؛ وهو عمل ضخم في خمسة أجزاء بعنوان: « المصحف وقراءاته». وأنا مسرور بصفة خاصة بأن طبع هذا العمل وأصبح الآن متوفرا في بيروت حيث طُبع عى الأقل، وسيصل إلى تونس في المدة القادمة إن شاء الله.
أنا مسرور لأنه يوفر مادة خاما للباحثين حتى لا تكون الآراء المعبر عنها آراء انطباعية فقط، ولا يكون فيها التأثر بالمقولات التي تأتينا من الغرب أو من التراث. كما يفتح هذا العمل الباب لدراسات عديدة. من الأمثلة على ذلك، هناك من يعتبر أنه من الضروري العودة إلى أسباب النزول لفهم النص القرآني؛ حيث تبيّن لنا بالإحصائيات أن هذا لا ينطبق إلا على عدد قليل من الآيات.
ما يعتبر غير مفكر فيه تماما أنّ الايات التي تتحدث عن الإرث مثلا، فيها آية في قراءة قالون وفي قراءة حفص وغيرها من القراءات تقول : « يورث كلالة»؛ بالنسبة إلى بعض القراءات التي هي موجودة في التراث ومنسوبة إلى أعلام مشهود لهم بالمعرفة ويعتبرون حجة، ومنهم الحسن البصري، ُتقرأ الآية التي ذكرتها : « يورث كلالة» ( بسكون الواو وكسر الراء)؛ بينما يقرؤها آخرون «يورث كلالة » ( بفتح الواو وتشديد الراء)؛ وهناك فرق كبير – في المعنى - بين القراءتين.
هذه أمور كانت إمّا مغيبة في الضمير الجمعي أو مجهولة. نحن جمعنا كل ما يتصل بالقراءات، القراءات السبع والقراءات العشر والقراءات الأربع عشرة والقراءات الشاذة وغيرها، المعترف بها وغير المعترف بها لدى أهل السنة والشيعة، ووضعنا بين أيدي الدارسين هذه المادة، ونرجو أن تكون الدراسات القرآنية في المستقبل على الأقل متخلّصة من المقولات التي ليست مبنية على معرفة دقيقة.
This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is
the rest of the menu, the sidebar too
is fully color customizable.