فاخر الرويـسي: التجنيس والشاعر الشعبي

فاخر الرويـسي: التجنيس والشاعر الشعبي

في محاولة منها طمس هوية البلاد التونسية وفرنستها سنّت فرنسا قانونا سنة 1887 أي بعد ست سنوات من بداية الاحتلال، يسمح للتونسيين نيل الجنسية الفرنسية بشروط ميسّرة. ومن اجل ذلك وبغية تثبيت وجودها الاستعماري عملت على انتهاج سياسة ممنهجة لفرض اللغة الفرنسية واقصاء العربية، ومنع أطفال عامة التونسيين من الالتحاق بالمدارس. كما تولّت تحريض واغراء مواطنيها للهجرة والاستيطان بتونس. لكنها لم تفلح في اقناعهم وجلبهم بالعدد الذي طمحت اليه، رغم الجهود المبذولة بتوليها تشييد ونشر الكنائس في المدن والقرى، الشيء الذي اعتبره قادتها المتعصبين فشلا ذريعا لسياستها الاستعمارية الاستيطانية.

  وإزاء هذا فشل ولبلوغ أهدافها، توخت عن طريق وزير خارجيتها حيل وطرق أخرى بسنّ قانون يوم 20 ديسمبر 1923، يرغّب الغافلين من التونسيين ويغريهم بامتيازات وحوافز تمنح لهم مقابل التجنيس. وأهم هذه الامتيازات السماح لهم بمواصلة اعتناقهم الدين الإسلامي بكل حرية، مستنجدة بالبعض من رجال الدين من المذهبين الذ ين أفتوا بانّ المتجنس لا يعدّ كافرا ويجوز دفنه في مقابر المسلمين.

  أما الوطنيون فقد استنكروا هذا الاجراء واعتبروه استفزازا ومخططا استعماريا يمس من كرامة وطنهم وهويتهم.  فقام زعماء الحزب الدستوري والحزب الشيوعي والقادة النقابيين بتحريض المواطنين للتصدي لهذه السياسة والردّ على الاستفزازات الفرنسية.

فعمّت الإضرابات والاضطرابات كل جهات البلاد وخاصة بنزرت والوطن القبلي والعاصمة من ديسمبر 1924 الى جانفي 1925 شملت الوطن القبلي والعاصمة.         وتولت إيقاف العديد من الوطنيين الدستوريين وحاكمت جنائيا مناضلين من الحزب الشيوعي يوم 7 فيفري 1925 يتقدمهم الزعيم النقابي "فينيدوري" Finidori   ورفاقه من جامعة عموم العملة التونسيةCGTT.

يوم 15 افريل 1933 بعد " أن راجت إشاعة نية دفن زوج أحد رموز المتجنسين  بمقبرة الزلاج ، وهو موسى بن سعيد، حاجب بإدارة المال، محال على المعاش، يقطن بحي باب سويقة بالعاصمة" .  

تواصلت الاحتجاجات وصعّدت النخبة تحركاتها لتصبح المواجهة جماهيرية وأكثر حـدّة خاصة بعد ان فضحت جريدة "العمل التونسي" الذين تفاعلوا مع المؤامرة الفرنسية، من رجال دين وغيرهم من الخونة "مستدلّة بالآية الكريمة ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت، ويسلموا تسليما“.

واحتدم الصراع يوم غرة ماي عند دفن زوج كبير المتزعمين لحركة التجنيس "عبد القادر القبايلي"، إذ أضربت العاصمة ثانية وتجمهر الشعب وأصر على منع الدفن بمقبرة الزلاج. واضطرت السلطات إلى تسخير الشرطة والجند رمة لحراسة المقبرة بالليل والنهار بعد أن عمد الأهالي إلى إخراج جثة الميتة من قبرها ليلا وتوجست من نقمة الشعب المسلم على أعداء جنسيته الوثيقة الصلة بدينه الحنيف.

ولم تمض أيام قلائل حتى استصدر "مانصرون"Manceron من احمد باي يوم 6 ماي 1923 ما سمته جريدة العمل التونسي بـ "الأوامر التعسفية" Les Decrets Super-Scélèrats القاضية بإبعاد كل شخص يقوم بأي عمل أو أية دعاية ضد نظام الحماية وتصرفاتها إلى "دوّار" أو مقر قبيلة أو أي مكان آخر يعينه المقيم العام بعد التشاور مع السلطة الادارية المتمثلة في الوزراء التونسيين الصوريين ورؤساء المصالح الفرنسيين ذوي النفوذ الحقيقي." ...

يوم 6 أوت 1933، في الواحدة بعد الظهر توفي الطفل علي بن عبد السلام بن علي الصيـّادي، عمره ثماني أشهر وهو ابن لمتجنس فرنسي، يعمل كاتبا بمحكمة "دريبة" تونس وصباح الغد أتى المدعو محمد التريكي، مهنته خياط "تارزي" ليعلم والد المتوفي وكذلك "الشيخ" أن أهالي البلدة يرفضون دفن الطفل بمقبرة المنستير الإسلامية. ولقد وقع تشتيت   عائلة الطفل  من طرف عصابة من "المساترية" رغم تدخل السلطة التونسية. والجدير بالذكر انه ما إن انتشر خبر مرض الطفل علي الصيـّادي والموت المحدق به، انعقد اجتماع بمنزل الإخوة محمد والحبيب بورقيبة، إذ صادف أن أتوا إلى المنستير أواخر جويلية لحضور جنازة أحد أقاربهم. والملاحظ انه خلال هذا الاجتماع تكونت لجنة يوجد من بين أعضائها الشاذلي قلاّلـة رئيس شعبة المنستير الذي حكمت عليه المحكمة الجنائية بسوسة بسنة سجنا وبخطية قدرها 500 فرنك.

وتولت هذه اللجنة مراقبة ومتابعة تطورات مرض الطفل وتعمد أعضاؤها نشر خبر وفاته وحرّضت على وجوب الاعتراض على دفنه بالمقبرة الإسلامية. وفي الليل وقع تكديس الحجارة قرب باب المقبرة.

وما أن علم المراقب المدني "قرانييك" أتى إلى مكان تجمهر الناس قرب المقبرة، فتدخل "خليفة" المنستير عزيز القروي لدى المتظاهرين للتفاوض معهم. فتولى شخصان نيابة عنهم تبليغ "الخليفة" باستحالة مخالفة "فتوى" رأي المفتي.

بعد رفض كل وساطة تولى المراقب المدني الاستنجاد بالبوليس والصبايحية والوجق الذين وجدوا قرابة 500 نفرا أمام المقبرة. فحاول المراقب المدني التفاوض مرة أخرى دون جدوى. ومن داخل المقبرة أمطرت مجموعة من المتظاهرين، المراقب المدني وكوميسار الشرطة وأعوان الآمن بوابل من الحجارة.

كما ورد في مقال "الديبيش تونسزيان" أن المراقب المدني وأعوانه أصيبوا بجروح مختلفة جراء تعرضهم للقذف بالحجارة والطلقات النارية. ولقد حاولت القوات التي استنجد بها المقيم العام للحيلولة دون ذلك وتفريق المتظاهرين، الذين أصروا على التجمهر مما حمله على الاستنجاد بفيلق عسكري الذي تمكن من إيقاف 23 من المتظاهرين، أحيلوا على القضاء بعد خمس سنوات قضوها في السجن رهن الإيقاف، لاقوا خلالها شتى ألوان العذاب والتعسف.
كان من بين هؤلاء المختار بوزقندة الذي اقتيد لدى مساعد حاكم التحقيق الفرنسي لإحالته للمحاكمة.ولما تيقن من عزم جلاديه على إعدامه قفز من مكتب التحقيق ليصيب بجروح جراء طلقة نارية.

كان سجّل الشعراء الشعبيون من شمال البلاد الى جنوبها ثريّا جدا وتعبيرا صادقا لردود فعل الشعب إزاء عديد المظالم الفرنسية التي نالته ويعكس الاحداث التاريخية التي عاشها المجتمع التونسي في مختلف مراحل تاريخه. وكانت مساهمة الشعراء ثرية جدا وهادفة تعبّر بصدق تلقائي على ما تشعر به خاصة الفئات الأكثر بؤسا.

كان الشعر الشعبي الشائع المتداول والمتنقل في كل الجهات التونسية طريقة جد فاعلة لتوعية الشعب. ولقد أورد الأستاذ محمد علي بالحولة  ما جاء على لسان الشاعر الميزوني الغضباني في قصيدته الشعبية المستوحاة من أحداث التجنيس ما يلي:

آش ألجانا ندخلوا الجنسيــــــــــــة *** أنخلو الشريعة الطاهرة المرضية
آش الجانـــــــــــــــــــــــــــــــــــا *** نخلوا ديـــن أجدادنا وأبانــــــــــا
نتجنسوا نتدينوا بديانـــــــــــــــــة *** ما الحامل لينــــا على هذيـــــــــة
سيدنا عيسى طلب مولانــــــــــــا *** يكون مالأمــــة المحمديــــــــــــة
آش احوجنــــــــــــــــــــــــــــــــا *** آش الذي عن ديننـــا خرجنـــــــا
كمن يقص الراس ويمجمجـــــــنا *** لا نخرجوا على الطائفة السنية
كمن يجيب البنج ويبنجنـــــــــــــا *** عند الافاقة نذكروها هيــــــــــة

والله مـــا نتجنــــــــــــــــــــــــــس *** كمن يدقدق العضم ويهـــرس
الله يلعن من حضر وأســـــــــــــس *** وقبلت نفس الشروط هذيــــة
هذي حماسة يذوقها المتحمـــــــس *** وهذي مسائل واعرة دينيــة

والله ماتجنســــــــــــــــــــــنـــــــــا *** كمن يدق عضامنا يهرسنــــــا  
فضلا على رؤوسنا ينكسنــــــــــــا *** هذا نروه على الديانة شويــة
قولوا لسيدنا الباي يارايسنــــــــــا *** اذا تجنسنا اعلاش باش تتبية

علاش مـــــاش تتولــــــــــــــــــى *** إذا خرجنا من ديننا والملـــــة
والواجب الراعي تكون عنده رجلة *** يضحي بكل عزيز للرعيــــــة
واجب الشعب يثور يعمل حملـــــة *** ونقاوموا  ونخرجوا الرجعيــة

بالـــــــــك تبنــــــــــــــــــــــــــــــا *** ولى نظرنا  للي قهر وغلبنـــــا
ما زادنا إلا عمى وكلبنــــــــــــــــا *** ولا ردعتنا أقوال نبويــــــــــــــة
لو استقمنا الله ما ينقمنــــــــــــــــا *** صادق رسول الله سيد رقيـــــة

ترضوا هكـــــــــــــــــــــــــــــــــــة *** ترضوا مذلة ديننا والهلكــــــــة
تكونوا كما " الحسين" حاكم مكـة *** ضيع اخوانو لا بقت رعيــــــــة
وأصبح مثل "المرا" يتبكـــــــــــى *** ضاعت أيامو ما يدل ثنيـــــــــة

يا شيوخنا يهديكــــــــــــــــــــــــــم *** ويني الأمانة اللي تودعت فيكـم
يا مسلمين غيروا على ماضيكـــــم *** ثماش منه فارس اللزيمــــــــــة
وتهاونوا على اعانة ذراريكــــــــم *** شبان جونا بالنصيحــــة الحيــة

(الماطـــري )  و (بورقيبـــــــة ) *** الله يجازيهم في الحرم والهيبــــة
اذا يخلصوا اللاسلام من شطيبــة *** تعود العروش بكلها حزبيـــــــــــة
وحماسهم ع الدين حاجة عجيبــة *** والمسلمين بالوعد واللزميـــــــــة

أما اليوم، فان البحر يلفظ العشرات والمئات من أبنائنا الذين خاب ظنهم في حكامهم وفقدوا كرامتهم في وطنهم ففضلوا "الحرقة" المغامرة في تحد صارخ للموت من أجل التجنّس لتغيير نمط حياتهم وما بأنفسهم غير عابئين بلوعة و"حرقة" أهلهم وذويهم..... وشتان بين الامس واليوم.

فاخر الرويـسي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.