الطيب البكوش: مباشرة مسؤولياتي في وزارة التربية (الحلقة السادسة)
عندما قصدت وزارة التربية أول يوم، وجدت الإطارات السامية بالوزارة في انتظاري خلف مبنى الوزارة في شارع 9 أفريل، وعندما نزلت من السيارة للتسليم عليهم، سألتهم عن سبب استقبالهم لي خلف الوزارة لا في مدخلها بشارع باب بنات، فقالوا إن دخول الوزارة من بابها الرسمي أصبح غير ممكن لأن آلافا من أصحاب الشهائد الجامعية العاطلين عن العمل معتصمون أمام الوزارة مطالبين بالتشغيل.
وعندما سألتهم ما العمل؟ قالوا يوجد من خلف الوزارة باب صغير يمكن الدخول منه.فقلت لهم ممتعضا: »أتظنون أنني سأقبل الدخول خلسة كالسارق؟ لن أفعل هذا ولو كلفني رفض المنصب والعودة الى منزلي. سأذهب لأدخل من الباب الرئيسي«. وتقدمت وهم خلفي مشيا على الأقدام.
وما إن رآني المعتصمون حتى التفوا بي رافعين شعارات المطالبة بالشغل. فاستمعت اليهم مدة دون ردّ أو حركة، ثم قلت لهم : «هل أستطيع أن أفهمكم وأنتم تتكلمون جماعيا أو ان تسمعوا كلامي في هذه الفوضى؟ اختاروا منكم عشرة ينوبونكم ويدخلون معي الوزارة. وسأبدأ أول عمل بالاجتماع بكم والاستماع اليكم».
واغتنمت فرصة انشغالهم بالتفاوض في اختيار ممثليهم وتقدمت الى المدرج صاعدا الى مدخل الوزارة الكبير، ووقفت أمامهم في انتظار ممثليهم، ولم أشأ أن أدخل الوزارة إلاّ بهم.
وبعد لحظات, تقدم نحوي عشرة شبان. دخلت معهم إلى قاعة اجتماع بحضور أعضاء الديوان وبعض المسؤولين. ومن أهم ما ذكروه أن البعض منهم تقدم لمناظرة الانتداب منذ سنين عديدة تتجاوز أحيانا العشر، وذكر البعض أنهم أربعة في عائلة واحدة لهم شهادات جامعية وهم جميعا عاطلون عن العمل.وأكدوا على الفساد والظلم المتمثل في أن غيرهم ينتدب خارج المناظرة بالتدخلات والرشوة، فوعدتهم بوضع حدّ لهذه الممارسات. ثم واصلت مشاوراتي مع إطارات الوزارة للاطلاع على جميع المشاكل.
شعار الترحيل (ديڤاج)
اغتنمت عديد الأطراف والأفراد، مناخ الفوضى لرفع شعار "ارحل" عن حق أو عن باطل، لتصفية حسابات شخصية. واشتد الضغط عليّ في وزارة التربية وخاصة من نقابات التعليم الثانوي، بما سموه تنظيف الوزارة من رموز "النظام البائد" وطرد جميع المنتسبين إلى الحزب الحاكم وتغيير جميع أطر الوزارة.
ولكن موقفي المبدئي هو الإصلاح وعدم الإضرار بأحد من أجل أفكاره إلا إذا ثبت عليه الفساد والإضرار بالصالح العام، خاصة وأني أبغض الانتهازية واغتنام الفرصة للانتقام من الخصوم وتعطيل سير دواليب الإدارة. ولعل خير مثال لذلك مدير الديوان الذي وجدته، وشاءت الصدف أن يكون من طلبتي السابقين، وأذكر جيدا أنه كان من خيرتهم وذا كفاءة وأخلاق عالية. وعلمت أنه تحمل مسؤولية في الشبيبة الدستورية التابعة للحزب الحاكم. فرفضت إقالته ليقيني أنه سيكون مخلصا في عمله كما كان مع سلفي.وبعد مدة صارحني بأنه متأثر جدا بالضغط المسلط عليّ إعلاميا لتغييره وعبّر لي عن رغبته في التخلي ليسهل عليّ العمل مؤكدا أن ثقتي فيه تكفيه اعتزازا بالرجوع إلى القسم أستاذا كما كان. وعندما أدركت إصراره على ذلك سألته : «هل تنصحني باقتراح من يعوضك؟» فقال: لا أرى أفضل ممن كان مساعدا لي في الديوان، وهو قاض كفء، فعينته مكانه.
وصرحت للجميع وللإعلام، أنني لن أقيل أحدا بدون حجة لأن التواصل في الإدارة والدولة ضروري لسير العمل وخاصة في فترة انتقالية، الوقت فيها أثمن من الفترات الطوال.
وقد أكدتُ هذا الموقف في اجتماعي بالمندوبين الجهويين لوزارة التربية خلال الندوة الاستثنائية التي جمعتهم فيها يوم الأربعاء 16 فيفري 2011.
وقد حدثوني عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمؤسسات التربوية الراجعة إليهم بالنظر، من حرق ونهب ومس من كرامة بعضهم بالتهجم اللفظي ومحاولات الاعتداء بالعنف.وقد شرحت لهم موقفي باعتباري مربيا جامعيا قبل أن أكون نقابيا وحقوقيا.
والمسؤولية السياسية لم أقبلها إلا ظرفيا للمساهمة في إنقاذ السنة الدراسية والباكالوريا والحفاظ على مكاسب الشعب وتحقيق أهدافه من ثورته على الظلم والقهر والفساد، وإني أعتبر هيبة الإدارة من هيبة الدولة، إذا كانت صالحة ناجعة، في خدمة مصالح المواطن.
الطيب البكوش
قراءة المزيد
الطيب البكوش: الحكومة الأولى الانتقاليّة والمجلس الوزاري الأول، جانفي 2011 (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش في ورقات جديدة من مذكراته: بين وزارتي التربية والخارجية (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من الحكومة الانتقاليّة (جانفي 2011) (الحلقة الثالثة)
الطيب البكوش: بين لجنة الإصلاح السياسي وهيأة حماية الثورة (الحلقة الرّابعة)
الطيب البكوش: استغلال الثورة لبث الفوضى (الحلقة الخامسة)
- اكتب تعليق
- تعليق