الطيب البكوش: بين لجنة الإصلاح السياسي وهيأة حماية الثورة (الحلقة الرّابعة)
أمام ضغط الاعتصامات بالقصبة قبل استقالة محمد الغنوشي، والخوف من انتشار الفوضى في الشارع والمؤسسات وما يمكن لها أن تدخل البلاد في المجهول، جرت مفاوضات بين فاعلين في الساحة السياسيّة والاجتماعيّة والسلطة المؤقتة برأسيها، وبدون تشريك الحكومة. وبينما كنا في بداية اجتماع مجلس وزاري، وكان قبالتي الوزير أحمد نجيب الشابي، قدم لي وثيقة قائلا: «هل أنت على علم بهذا؟» فقرأتها بسرعة وإذا بها اتفاق على تأسيس "هيئة عليا لحماية الثورة والانتقال الديمقراطي" فقلت له : «لا علم لي بها». وساءني ذلك لعدم إعلامنا على الأقل.
ولما دخل الوزير الأول وجلس، قلت له بلهجة غضب: «تتفاهمون مع الناس من وراء ظهورنا؟ نحن هنا لمساعدتك على إنجاح المهمة بتحقيق أهداف الثورة. إذا تواصل هذا فاني أفضل الاستقالة».
وعندما افتتح الرئيس الجلسة، قلت له: «كان من الأنسب أن نتشاور. أتعلمون ما معنى حماية الثورة؟ في ذهن الذين يستعملونها هي حمايتها منكم ومنا جميعا إذ يصفون هذه الحكومة بأنها "حكومة التفاف على الثورة " بينما نحن هنا لتحقيق أهداف الثورة وإنقاذ البلاد من الفوضى».
وألححت على ضرورة تغيير الاسم مقترحا «الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي»، فاستحسن الرئيس فؤاد المبزع الفكرة وتقرر تغيير الاسم منذ ذلك الوقت كما اقترحت.
وهكذا تكونت هذه الهيئة رسميا في 17 مارس 2011 بتركيبة مزدوجة متكونة من لجنة خبراء ومجلس تشاوري تكون مداولاته بالتصويت كما لو كان برلمانا. كان العدد في البداية 71 ثم ارتفع الى 155 مما جعلها تستقر بمجلس المستشارين بباردو، وترأسها عياض بن عاشور. وقد أمكن لها أن تصوغ نصوصا تُرفع الى الحكومة، ويمضيها رئيس الجمهورية المؤقت، وتواصل نشاطها الى 13 أكتوبر 2011. ويمكن اعتبارها حلا وسطا بين الحكومة الانتقالية ومجلس يضم ممثلين عن بعض الأحزاب المعارضة وبعض المنظمات الاجتماعيّة الممثِّلة للمجتمع المدني وشخصيات مستقلة، إلا أن تمثيل النساء كان ضعيفا إذ يقارب الخُمس.
ويذكر بعض أعضائها أنّ ما شاب أعمالها من تعثر يرجع الى محاولات حزب النهضة الإخواني الهيمنة عليها بحجة أنهم يعتبرون أنفسهم أغلبية في المجتمع وأقلية في الهيئة.
ولما كانت الثورة تلقائية الى حد ما، وبدون قيادة سياسيّة حقيقية وإنما كانت ثورة شعارات مشروعة تتلخص في الحريّة والكرامة الوطنيّة، وهما القيمتان الأساسيتان اللتان يمكن تحقيقهما على أرض الواقع بتوفير الشغل وتجسيم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة، فإنه من الطبيعي أن تحدث خلافات حول السبل الموصلة الى ذلك ميدانيا.
لكن الحرية التي وفرتها الثورة مهددة بالتآكل إذا لم تتعزز بالكرامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعيّة. والسبب الأساسي في ذلك هو ضعف الطبقة السياسيّة التي رَكِبت على الثورة، وهو ضعف يتمثل في نقص الكفاءة السياسيّة والأخلاقيّة، نقصا تملأه الأنانيّة والانتهازية اللتان تتحكم فيهما مقولتان "أنا أو لا أحد" و "علي وعلى أعدائي يا رب". وهما مقولتا هدم لا بناء. وقد يرجع ذلك الى "التصحر" السياسي طيلة عقود ما قبل الثورة، بغياب الثقافة السياسية والديمقراطية.
استقالة الوزير الأول محمد الغنوشي
عندما اشتد الضغط على حكومة محمد الغنوشي الانتقالية باعتصامات القصبة بين فيفري ومارس 2011 واحتل المعتصمون ساحة القصبة ولم يعد بإمكان الوزير الأول دخول مكتبه انتقل الى قصر قرطاج بجوار الرئيس فؤاد المبزع. وأصبح مجلس الوزراء يجتمع هناك.
ورغم أنه أجرى تعديلا وزاريّا منذ البداية غادر بمقتضاه الوزراء الذين عملوا مع الرئيس بن علي في سنواته الأخيرة، مصرّا على الاحتفاظ بالبعض منهم، معلنا أنه لا يستطيع العمل بدونهم، وهم حقا من الكفاءات الوطنيّة، تواصل الاعتصام ورُفعت شعارات تنادي برحيله وحتى بإعدامه، فأصبح يفكر في الاستقالة.
وأذكر أنه عندما قرر الاستقالة، اتصل بي هاتفيا يوم 26 فيفري 2011 في ساعة متأخرة من الليل ليعلمني بقراره.فقلت له : «لا تقرر وحدك، اِجمع غدا مجلس الوزراء لنتناقش في الأمر ونقرر الاستقالة الجماعيّة إذا لزم الأمر، فأنت تعرف أنني لم أقبل الوزارة إلا للمساهمة في تحقيق الانتقال الديمقراطي وعودة الحياة الي طبيعتها خدمة لمصلحة الوطن . ولنا الوقت، للتفكير المعمق ليلا الى الغد». وظننت أنه اقتنع صامتا.
ومن الغد صباحا 27 فيفري 2011، انتظرت أن يعلمني بموعد الاجتماع. وحين لم يصلني أي اتصال، ذهبت بمفردي الى قصر قرطاج، وسألت من كان بباب المدخل عن الوزير الأول، فقال لي إنه في تلك القاعة مع الصحفيين. ففهمت أنه بصدد تنفيذ قراره.
وعندما فتحت الباب، لم أر في المجلس إلا الجنرال عمّار الذي أشار إليّ بيديه وملامح وجهه ما فهمت منه أنه قُضيّ الأمر. فتقدمت نحوه وجلست بجواره وأنا أسمع صوت الوزير الأول وقد أحاط به الصحفيون وحجبوه عن الأنظار، يقول: «ولهذه الأسباب قررت الاستقالة من مهامي». وكان واضحا أنه شرح للصحافيين هذه الأسباب. فسألت الجنرال عمار عن بقية الوزراء، فقال هم مجتمعون في القاعة المجاورة، فأسرعت الخطى نحوهم، ولم أشأ أن انتظر الوزير الأول الذي لم أره بعد ذلك إلا في مناسبات نادرة.
وما إن دخلت قاعة اجتماع الوزراء حتى بادروني بالقول : «لقد ناقشنا الوضع واتفقنا على نقاط، انقلها أنت الى الرئيس بصفتك المتحدث باسم مجلس الوزراء:
1- الرئيس المؤقت لا حق له في إقالة الحكومة.
2- نحن مستعدون لمساعدته بالاستقالة الجماعية إن رغب في ذلك».
فقلت لهم : نعم القرار.
ثم توجهت الى مكتب الرئيس فوجدت أمامه الباجي قائد السبسي.
سلمت دون أن أجلس وبادرت بإعلام الرئيس بقرار المجلس.
وقبل أن يجيبني بادر الباجي قائد السبسي بسؤالي بالفرنسية : «بماذا تنصحنا؟»
استعماله لنون المتكلمين، أشعرني بأنه الوزير الأول الجديد. فقلت بالفرنسيّة مثلما تكلم هو: «أنصحكم بتثبيت هذه الحكومة، مع أني أدرك أن بعضهم سيستقيل وأنكم ستغيرون البعض الآخر»
فردّ الباجي قائد السبسي بالفرنسيّة : «نصيحة طيبة، أنت نصوح».
فودعتهما وعدت الى مجلس الوزراء لإعلامهم بذلك، وأنا أتصور من سيستقيل تضامنا مع محمد الغنوشي، ومن سيستبدلون، وخاصة واحدا لم يتصرف بشكل لائق، وكنت اقترحت على محمد الغنوشي استبداله مبينا له الأسباب، لكنه فضل أن يترك ذلك لمن يخلفه، وقد تم ذلك فعلا.
قراءة المزيد
الطيب البكوش: الحكومة الأولى الانتقاليّة والمجلس الوزاري الأول، جانفي 2011 (الحلقة الثانية)
الطيب البكوش في ورقات جديدة من مذكراته: بين وزارتي التربية والخارجية (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من الحكومة الانتقاليّة (جانفي 2011) (الحلقة الثالثة)
- اكتب تعليق
- تعليق