أخبار - 2021.05.28

الشاذلي القليبي: شخصيّة متعدّدة الأبعاد

الشاذلي القليبي: شخصيّة متعدّدة الأبعاد

بقلم الأستاذ عبد السلام القلال - بمناسبة مرور سنة على وفاة الأستاذ الشاذلي القليبي، أتوجه بهذا المقال إلى المواطن الذي لم يعرف قامة من قامات الفكر التونسي ومهندس الثورة الثقافيّة بعد الاستقلال، والذي جمع في شخصه بين الابداع الفكري والقدرة على التصرّف والتسيير، ممّا جعله شخصية متعدّدة الأبعاد وأهله للنجاح في كل المهمّات التي تحمّلها في مسيرته الطويلة وذلك كمساهمة مني لإحياء ذكراه وقد عرفته من قريب وعملت معه سنوات لتطوير الفعل الثقافي ولتجديد مفهوم الثقافة وجعلها في مستوى العامّة من الشّعب.  

كان الشاذلي القليبي وطنيّا صادقا، عرفته لأول مرّة في السنة الدراسيّة 1951-1952، كأستاذ عربيّة في فرع الصادقيّة بخزندار، توطدت علاقتي به من بداية السنة حيث استنجبني وتابعني في دراستي عن قرب، كان يتابع نضالنا خارج المعهد بعد النداء الذي توجه به الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 13 جانفي 1952 من مدينة بنزرت للدخول في المعركة الحاسمة من أجل تحقيق الاستقلال، وكنت آنذاك من المسؤولين المنظمين للتظاهرات والاحتجاجات وأحداث الشغب، وجدت في الأستاذ الشاذلي القليبي التفهم الكامل لدورنا في هاته المرحلة، ساند عملنا بدون تحفّظ، خلافا لإدارة المعهد وبعض الأساتذة الذين كانوا يدعوننا إلى الهدوء ومواصلة الدارسة وإشعارنا بأن نضالنا في الحركة الوطنيّة غير مجد.

كان الشاذلي القليبي بورقيبيّ التوجه وفيّا لشخص الزعيم، عمل معه كمدير لديوانه سنوات، نجح إلى حد بعيد في ترجمة مشاغله وتوجهاته ومواقفه في كل القضايا، سواء كانت وطنيّة أو دوليّة، وكان أبرع كاتب لخطب الرئيس، أتذكر لما يستحضر الرئيس، عند إقامته بالكاف، علاقاته مع أعضاده قبل الاستقلال وبعده، ويستعرض خصال البعض منهم، كان يخصّ الشاذلي القليبي بودّ وتقدير خاص، وكان من جملة ما يقوله لي في شأنه " إنه يفهمني". الشاذلي القليبي أقام الدليل على وطنيّته الصادقة وكفاءته العالية في كل المسؤوليات التي تحملها طيلة حياته السياسيّة كمدرّس، ونقابي، وعضو في الديوان السياسي للحزب الدستوري، ومدير للإذاعة الوطنيّة، وكاتب دولة للشؤون الثقافيّة، ومدير للديوان الرئاسي، وأمين عام لجامعة الدول العربيّة.

كان الشاذلي القليبي على خلق عظيم، وفيّا ومخلصا لعائلته وأصدقائه، حتّى ولو لم يشاطرهـم في اختياراتهم. حافظ على صداقته مع أحمد بن صالح، الرجل القوي في عشريّة الستينات، ولم يقبل طريقة الإطاحة به ومحاكمته، وبقي على اتصال دائم به، يزوره في بيته من حين لآخر. لما سنحت فرصة تكريمه من طرف قيادة التحرير الفلسطينيّة حضر الحفل وقال فيه كلمة مؤثّرة، كلمة حقّ نوّه فيها بخصاله، ووطنيّته، ودوره في بناء الدولة الوطنيّة، لأن أحمد بن صالح أعطى الكثير لتونس قبل الاستقلال وبعده، بقطع النظر عمّا حدث من تجاوز في سياسة التعاضد آخر الستّينات.

وأن أنسى لا أنسى الودّ والتقدير الذين كنت أحظى بهما لديه، وهو الذي شجعني على الكتابة حول عشريّة الستّينات وتجربة التعاضد، حيث كنت واليا على جهة الكاف، وبوصفي شاهدا وفاعلا في هذه العشريّة، لم يكتف سي الشاذلي بالتشجيع على الكتابة بل راجع النسخة الأولى لمؤلفي " الحلم والمنعرج الخطأ" قبل تسليمه لدار النشر، وكتب التوطئة، وحرص على حضور حفل التقديم في بيت الحكمة، وكان حضوره غير متوقّع نظرا لحالته الصحيّة، لكن بالرغم من ذلك حضر الحفل وتولى تقديم الكتاب " الحلم والمنعرج الخطأ" صحبة الأخوين الدكتور عبد المجيد الشرفي رئيس بيت الحكمة وزميلي الأستاذ عادل كعنيش.

الشاذلي القليبي هو الذي دعاني إلى تأليف كتاب عن بورقيبة ودوره في تحرير تونس وبناء الدولة الوطنيّة. فأجبته سي الشاذلي كتب الكثيرون عن بورقيبة تونسيون وأجانب، وأنت كتبت عنه وأبدعت، فكيف لي أن أكتب؟ وما الجديد الذي سآتي به؟ فأجابني " مهما كتبنا على الزعيم الحبيب بورقيبة لا نفي بحقه" فاستجبت وكتبت وآسف بأنه انتقل إلى جوار ربّه قبل أن يقرأ الكتاب الذي عنوته " الحبيب بورقيبة زعيم أمّة ورئيس دولة".

الأستاذ الشاذلي القليبي مبرّز في الآداب العربيّة ومثقّف حتّى النخاع، يعتبر أن الثقافة في معناها الواسع تشمل ملكة الخلق والإبداع، والإنتاج الفكري، والتاريخ القديم والحديث، والمعالم الأثريّة لمختلف الحضارات التي عرفتها تونس، والمسرح والفنون بجميع أشكالها، والمهارات اليدويّة، والسلوك والمعاملات وهي أساس التنمية الشاملة للإنسان، وهذا المفهوم الجديد يبرز في العديد من خطب رئيس الدولة حول الثقافة.

كان يشاطر الزعيم الحبيب بورقيبة في رؤيته للثقافة كفكر وفعل والتزام وهي الأرضيّة التي دفعتــــه إلى العمــــل والتضحية مــــن أجل القضيّـــــة الكبرى، التي سخر لها حياتـــــه، فهـــــو يقـــول " الثقافة غذاء دائم للفكر وتكون عديمة القيمة إذا لم تكن قوّة فعل وتضحية." هذا المفهوم الذي آمن به الشاذلي القليبي وعدد قليل من النخبة آنذاك، يتمثّل في مشروع يعتمد على ثلاثة عناصر وهي: اللامركزيّة، والشموليّة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعيّة.

اللامركزيّــة

الشاذلي القليبي يجمع في شخصه بين الفكر المستنير والقدرة على التسيير والإنجاز، وهذه خصال قلّ ما تجتمع في شخص واحد، فكان سي الشاذلي الاستثناء أدى بكلّ مسؤوليّة كل المهمات التي اضطلع بها، وأوّل ما كلفه به الرئيس بورقيبة هو إدارة الإذاعة الوطنيّة فطوّر برامجها ورفع من مستواها وجعلها أداة لصقل المواهب وتفجير القرائح وتثقيف المواطن، ثمّ دعاه بعد ذلك ليتولّى كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة على أساس مشروع تقدّم به، استحسنه الرئيس من بين مختلف المشاريع التي عرضت عليه، ورأى فيه ما كان يحلم به للنهوض بالشعب التونسي والرفع من مستواه فاختاره دون سواه، لأنه كان يرى فيه الرجل المناسب لهذه المهمة والقادر على إنجازها. فعينه كاتب دولة للشؤون الثقافيّة واستعان سي الشاذلي في تحمل مسؤوليّته سواء في الإذاعة أو في كتابة الدولة بمجموعة من خيرة الكفاءات في الميدان الثقافي، أذكر البعض ممن أستحضر أسمائهم، عبد الحكيم عبد الجوّاد، والطاهر قيقة، وعبد العزيز قاسم، ومحمّد النيفر، ومحمد الطالبي، ومصطفى المصمودي ومحمد المغربي وحسن العكروت ومصطفى الفارسي والتيجاني زليلة وغيرهم من الكفاءات.

اللامركزيّة تعني الخروج بالقرار من دائرة كتابة الدولة حتى لا يكون حكرا على المصالح المركزيّة بها، وتشريك الجهات ومختلف القطاعات في إعداد البرامج الثقافيّة وأخذ القرارات لتنفيذها والقطع مع سلبيات المركزيّة المقيتة، التي كانت تنحصر في المهرجانات والمنتديات والتظاهرات التي تنظم داخل بعض المدن الكبرى وفي مستوى النخبة على منأى من سكّان القرى والأرياف، الذين هم في حاجة إلى التنوير والتوجيه، فكان لهم ذلك بفضل التوجهات الجديدة لكتابة الدولة للثقافة بالتعاون مع اللجان الجهويّة للثقافة وذلك بإعداد وضبط خطة طويلة المدى لتنمية كل أشكال الفنون والإبداع الفكري، والتراث المادي واللامادّي، والمهارات اليدويّة، وكل ما يتعلّق بالثقافــــة قصــــد نشــــرها على أوسع نطاق.

دور الثقافة في كلّ الجهات

ولتنفيذ هذه السياسة على أرض الواقع، أقام الشاذلي القليبي دُور الثقافة في مختلف الجهات، وعيّن لإدارتها كتّاب عامّين من مستوى ممتاز، ولجان ثقافيّة جهويّة تتكون من رجال الفكر والفنّ والمسرح، لتنشيط الحياة الثقافيّة في إطار هامش كبير من حريّة المبادرة، وإعداد برامج تثقيفيّة وترفيهيّة يسهرون على إنجازها لفائدة المواطنين أينما كانوا داخل الجهات، وتشرف على هذه اللجان لجنة قوميّة تترأّسها شخصيّة مرموقة من رجال الفكر. وأوّل من ترأس هذه اللجنة الأمين الشابّي أول وزير للتربية في دولة الاستقلال وفيما بعد الأستاذ محمّد الطالبي من مؤسّسي الجامعة التونسيّة وأول رئيس للجامعة التونسيّة ومؤسسها.

كان الشاذلي القليبي مؤمنا بدور اللجان الجهويّة الثقافيّة فدعّمها وخصص لها وسائل الاتّصال والتغلغل في أعماق الشعب بالمناطق النائية، خصص في عهده الحافلات المتجوّلة بالجهات لتوزيع كتب المطالعة على التلاميذ في مختلف المدارس والأرياف وقد عرفت بالمكتبات المتجوّلة، وكذلك الحافلات لعرض الأفلام السينمائيّة، مما أدخل البهجة والفرح على كل المواطنين بالقرى والأرياف، كما تم بعث شركة لصناعة السينما وتشجيع الإنتاج التونسي، وتكوّنت الفرق المسرحيّة والموسيقيّة ونظمت معارض الفنون التشكيليّة والتعريف بمدرسة تونس في هذا الفنّ وإقامة المتاحف وحرصنا على إنجاحها فبعثنا في جهة الكاف ثلاث متاحف بولاية الكاف، المتحف الأول في مدينة مكثر لعرض ما استكشف من آثار المدينة الرومانية والبيزنطيّة، والثاني متحف جهوي للفنون والتقاليد الشعبيّة بمدينة الكاف، والثالث متحف للذاكرة الوطنيّة بنفس المدينة.

إذاعة جهويّة بصفاقس

وأوّل مشروع بعث في نطاق سياسة اللامركزيّة، الإذاعة الجهويّة بولاية صفاقس حين تأكّد الشاذلي القليبي من أن الجهة تنطوي على مخزون ثقافي هام، يتعيّن إبرازه بتمكين الجهة من وسيلة تسجيل وبثّ تساهم في إحياء هذا التراث والتعريف به، وتفتح المجال في مستوى الجهة أمام المبدعين من أدباء، وشعراء، وفنّانين، ومسرحيّين، وصحفيين للإنتاج وإثراء المشهد الثقافي الجهوي والوطني، وعيّن على رأس هذه المؤسّسة أحد المناضلين من الجهة، صديقه ومساعده في الإذاعة الوطنيّة عبد العزيز عشيش لِمَا كان عليه من كفاءة في التعبئة والتسيير، وتوالت بعدها الإذاعات في كل الجهات.

مهرجان قرطاج ومهرجانات داخل الجهات

كان الشاذلي أول من بعث مهرجان قرطاج الصيفي لإقامة عروض موسيقيّة ومسرحيّة، للترفيه على أبناء العاصمة، وتثقيفهم، وفتح هذا المهرجان على الثقافة العالمية وكان يدعو على ركحه أشهر الفنانين والفرق المسرحيّة من أنحاء العالم مما يعطي لهذا المهرجان بعدا دوليّا وقد ساهم في إشعاع تونس في الخارج، وهذه المبادرة لم تقتصر على العاصمة فقط، بل سرعان ما عمل على تنظيمها في عواصم الجهات إلى أن أصبحت تقام كل سنة في أغلب جهات الجمهوريّة، وقد طالت اللامركزيّة كل أنواع الفنون وأشكالها.

في عهده بعثت الفرق المسرحيّة والموسيقيّة في كلّ المدارس وأقيمت المتاحف في كل الجهات وحرصنا على تهيئة ثلاث متاحف بولاية الكاف في مختلف الجهات،

مهرجان يوغرطة للتاريخ والآثار

اختصّت جهة الكاف بمهرجان يوغرطة للآثار والتاريخ الذي ينظم كل سنة في الأسبوع الأوّل من شهر سبتمبر أي في بداية السنة الدراسيّة ونهاية فصل جمع صابة الحبوب تنظم فيه مختلف التظاهرات ويتزامن إقامة المهرجان مع إقامة رئيس الدولة في مدينة الكاف الذي كان يشرف على برامجه بصورة مباشرة وبحضور الشاذلي القليبي، ويترأّس الندوات الفكريّة حول التاريخ القديم والمعالم الأثريّة ومشاركة المختصين التونسيين والأجانب، الذين تتم دعوتهم من والي الكاف كل سنة من جامعات فرنسيّة وألمانيّة وأنقليزية وإسبانية وإيطاليّة، مما يعطي لهذا المهرجان بعدا دوليّا.

وقد امتاز هذا المهرجان بتنوّع برامجه وشمولها لكل الفئات المجتمعيّة ولمختلف نشاطات المواطن بجهة الكاف، ويُختم بإشراف الشاذلي القليبي بتوزيع الجوائز على المتميّزين من المتبارين في الأدب، والشعر، والمسرح، وإنتاج الحبوب، والزياتين، وتربية الحيوان، والفروسيّة فكان فرصة سنويّة تمكن مواطني جهة الكاف من الترفيه السليم والتثقيف. 

الشموليّــــــة 

اتسع مفهوم الثقافة إلى كل نواحي حياة الانسان من أجل خلق مواطن تونسي جديد في تفكيره وعلاقاته وتصرفاته وهندامه، وإخراجه من حالة الجهل والفقر والمرض والجمود، فكان الرهان صعب المنال لكن بفضل العزائم الصادقة، والانقطاع للصالح العام، تمكنّا من قطع أشواط نحو تغيير المجتمع إلى الأفضل.

  أصبح الانسان محور اهتمام كل برامج التنمية في مختلف الميادين، فإلى جانب العناية بتحسين مستواه المعيشي، كان الاهتمام أيضا بغذائه الفكري من أجل تنمية مداركه، وتوسيع معارفه وتهذيب سلوكه حتّى يكون في مستوى انسانيته ومواكبا لنسق القرن الذي يعيش فيه، وكل هذا بفضل تعميم التعليم وبعث مراكز رفع الأميّة ومراكز التنمية الريفيّة، ودور الثقافة والعمل التوعوي الذي كان يقوم به الحزب في كل الجهات والقرى والأرياف كان يعتمد المفهوم الجديد للثقافة،     وهكذا أصبحت الثقافة لا تقتصر على النخبة بل في متناول المواطن في أي مستوى وفي أي مجال كان، وكان الشاذلي القليبي يدعو إلى " الغوص في المجتمع وخباياه" للكشف على ما له من مخزون أدبي وفنّي لإبرازه وإحياءه من جديد، في ثوب جديد إن لزم ذلك وإخراجه من طي النسيان والتلاشي ليصبح في متناول العامة من الشعب ويحظى باهتمام النخبة التي هي في حاجة للرجوع إلى الجذور.

ومن هنا نفهم العناية الفائقة التي كان يوليها الشاذلي القليبي للإنتاج الفكري في الأدب والشعر وبالخصوص للشعر الملحون الذي كان الرئيس بورقيبة شغوفا به وهو الذي يعبّر عن هموم الشعب وتطلعاته، وأفراحه، وأحزانه، أتذكّر أن أوّل مؤتمر للشعر الملحون أو الشعر الشعبي انتظم في الكاف، خلال شهر سبتمبر من سنة 1967 بحضور شعراء من كل جهات الجمهوريّة برئاسة الرئيس الحبيب بورقيبة وبعد أن استمع إلى خطاب الافتتاح الذي تقدّم به الشاذلي القليبي علّق عليه وقال:" الشيء الجديد الذي كوّنه السيّد الشاذلي القليبي خلال الستّ سنوات التي مضت، كان مستجيبا للإشعاع الثقافي ومتّسما بطابع الشمول وهذا ما كنت أفكّر فيه من زمان وأحلم بتحقيقه." ويواصل:" على أنّ الشيء الذي يزيد في إكبار المجهود الذي بذله السيّد الشاذلي القليبي لا يقتصر فحسب، على أنّه فكّر في تكوين أشياء كثيرة من لا شيء، بل أيضا استطاع أن يجد الإطارات الكفأة التي يعتمد عليها في جهات نائية كانت من قبل محرومة من كل وسائل التثقيف والترفيه."

الفرقة الجهويّة للمسرح بالكاف

عرفت الجهات في عهد الشاذلي القليبي نهضة ثقافيّة غير مسبوقة متنوعة وشاملة برز فيها العديد من المبدعين أمثال المنصف السويسي حيث تمكن عندما جئنا به إلى ولاية الكاف في آخر سنة 1966 من إيجاد وإبراز عناصر من الشباب إناثا وذكورا، الذين تحسّس فيهم الموهبة والاستعداد الفطري ليكونوا ممثّلين مبدعين، وكوّن بهم الفرقة الجهويّة للمسرح بالكاف، وفي ظرف مدّة وجيزة خرج للجمهور بمسرحيّات تجاوب معها إلى أقصى حدّ واستحسنها الرئيس الحبيب بورقيبة، وتابعها بعناية المرحوم الشاذلي القليبي، وتوالت المسرحيّات وتحوّلت الفرقة إلى الولايات والمعتمديّات بالولاية عارضة إنتاجها الذي لاقى إقبالا جماهيريّا غير منتظر وسرعان ما اشتد عودها وأخذت بعدا دوليّا، فتنقل بها إلى كل البلدان المغاربيّة والعربيّة والخليجيّة، ثم انتهى به المطاف إلى مسرح برلين بألمانيا ومسرح شيّو Chaillot في باريس، ومثلت بمبادرة من الشاذلي القليبي الفرقة المسرح العربي عن كل البلدان العربيّة في اللقاء العالمي للمسرح المنعقد في بلغراد عاصمة يوغسلافيا.

كانت فرقة الكاف قصة نجاح وإنتاج متميز للسياسة الثقافيّة التي كان يقودها ويشرف عليها الشاذلي القليبي وكانت وراء بعث عدة فرق جهوية في الوسط والجنوب التونسي، كما عملت هاته الفرقة في شخص مديرها منصف السويسي، على استقطاب العديد من العناصر الشابّة من خارج جهة الكاف، وتمرّسوا على العمل المسرحي وحرص الشاذلي القليبي على توجيههم إلى الجامعات والمعاهد المختصّة بالخارج لاستكمال تكوينهم وأصبحوا فيما بعد بفضل كفاءتهم من المبدعين والفاعلين في المستوى الوطني، الشيء الذي أدّى بالمرحوم الشاذلي القليبي أن يقرّ ويكتب  بأن النهضة الثقافيّة التي عرفتها تونس بعد الاستقلال انطلقت من جهة الكاف.

التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة

الشاذلي القليبي وطني ومثقّف، شاءت الظروف أن نلتقي في بداية الثورة الثقافيّة التي عرفتها تونس بعد الاستقلال في الستّينات وهو كاتب دولة للشؤون الثقافيّة، وأنا وال على جهة الكاف وسليانة وكنت مغرما بالثقافة، وطبيعة الجهة وما تنطوي عليه من معالم أثريّة فرضت عليّ أن أعطي الأولويّة للاستثمار في الثقافة، لنجعل منها موردا أساسيّا في حياة الجهة التي تفتقر لموارد قارّة ومتنوعة حتى تخرج الجهة من عزلتها وتصبح مزارا للسواح من الداخل والخارج، فكان التجاوب بيني وبين سي الشاذلي إلى أبعد الحدود والتقت الإرادات والاهتمامات حول المشروع الجديد.

جئنا في الستّينات بأساتذة المعهد الوطني للآثار في نطاق حضائر التنقيب عن المخزون الأثري بمدينة الكاف وبقيّة المناطق الأثريّة داخل الولاية، تمكنّا بفضل كفاءتهم وحماسهم، من إبراز معالم أثريّة وتهيئة فضاءات ثقافية ترفيهيّة وإعداد مسالك سياحيّة تربط بين مختلف المواقع الأثرية بالجهة وخلق حركة اقتصاديّة تساهم في التنمية الجهويّة وتجعل من مدينة الكاف مركز إقامة يطيب فيه العيش ولا مركز عبور كما كانت عليه، وأذكر ممن ساهموا في هذا المجهود محمد فنتر، عز الدين باش شاوش، الحبيب سليم، ومحمّد بالوذنين، ومحمد الفندري، وعبد المجيد النابلي، الذين عملوا مدة طويلة بالكاف تحت إشراف مدير معهد الآثار السيّد الهاشمي السبعي ومباركة كاتب الدولة للثقافة السيد الشاذلي القليبي.

إن شمول الثقافة لكلّ المجالات، وكل نواحي شخصيّة الإنسان، يُؤسّس لتنمية اقتصاديّة واجتماعيّة متوازنة وبنسق سريع، لأنّها تعتمد وعي المواطن، وتجعل منه الإنسان الوسيلة والغاية فيصبح قادرا على التغيير والتطوّر والخروج من حلقة الجهل والفقر والمرض، وأعطينا للثقافة بفضل هذه السياسة دورا تنمويّا، فأصبحت عاملا من عوامل التنمية تستقطب الاستثمار وتوفّر الشغل بالتنقيب على الآثار القديمة وإبرازها وترميمها، وهي من صميم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلد تمثل السياحة نسبة هامة من المنتوج القومي الخام، العناية بالآثار واستغلالها يعتبر رافدا من روافد المنتوج السياحي وتنويعه فضلا عن دوره في تنمية البحث العلمي وربط الحاضر بالماضي والتعرّف على مختلف الحضارات التي عرفتها تونس طيلة تاريخها الطويل.

وكان الرئيس بورقيبة يخصص من وقته حيزا كبيرا لمتابعة النشاطات الثقافية والعناية بها وتشجيع عناصرها ويسهر على توفير التمويلات اللازمة لها وقد جاء في خطابه " إني كثيرا ما أعمد في اجتماعات مجلس الجمهوريّة إلى ترجيح كفة الثقافة مؤكّدا أن لها فائدتها وجدواها حتى في شؤون الزراعة والتجارة وغيرها ذلك لأن تحسين حال المواطن يبدو من خلال التثقيف أمرا ظاهرا لما مراء فيه." 

الخاتمة

الشاذلي القليبي هو من كبار رجالات الفكر والثقافة الذين عرفتهم تونس في القرن العشرين له شخصية متعددة الأبعاد جمعت بين الثقافة والسياسة والديبلوماسيّة، ممّا يفسّر نجاحه في مختلف المسؤوليات التي تحملها كمدير الإذاعة الوطنية وككاتب دولة للثقافة وكأمين عام لجامعة الدول العربيّة، كانت له مؤلّفات تناول فيها العديد من القضايا ما يتّصل بالفكر، والدين، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن أهم ما حقّقه كمثقّف في مسيرته الطويلة هو تنزيل الاستحقاق الثقافي من مستوى النخبة إلى عموم الشعب حتّى ينعم بالغذاء الفكري والترفيه السّليم. لقد وجد كاتب الدولة للشؤون الثقافية السيّد الشاذلي القليبي لدى والي الكاف تناغما وتكاملا أدّيا إلى تعاون وثيق مدة سنوات، عملنا فيها معا لتجسيم المفهوم الجديد للثقافة بإيصال وسائل التثقيف ومضامينه إلى المواطن أينما كان في القرى والأرياف.  

كان الشاذلي القليبي يستلهم من فكر بورقيبة البحث والتعمّق في تاريخنا دعما لكياننا الوطني واعتزازا بأصالتنا مما ينير سبيل المستقبل ويجنب العثرات والمزالق، وهكذا ربط ماضي تونس بحاضرها طوّر مفهومنا للتاريخ، باعتبار كل الحضارات والأحداث التي سبقت العهد الإسلامي على هذه الأرض هي جزء لا يتجزّأ من تراثنا القومي، إن تجربة الكاف الثقافية في الستينات، وما حققته من نجاح بفضل اللامركزيّة والشموليّة، تبرز الدور الفاعل الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة في مجال التنمية الشاملة وذلك هو الرهان الذي راهنت عليه الدولة وراهن عليه بعض المسؤولين وكسبوا الرهان إلى حين.

رحم الله الشاذلي القليبي المثقف المبدع الذي ترك بصماته في عمق تاريخنا المعاصر.

الأستاذ عبد السلام القلال
مناضل من جيل الاستقلال

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.