أخبار - 2020.04.24

الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور راهنا

الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور راهنا

هل مازلنا في حاجة إلى فكر محمد الفاضل ابن عاشور؟ هل مازالت آراء الشيخ في ما عالج من قضايا دينية وحضارية قادرة على تهيئة أجوبة لأسئلة يطرحها الراهن؟ أسئلة تقتضي إجابتها المعرفة بمقومات هذا الفكر وببرنامجه الإصلاحي والمعرفة بالواقع المحلي والإقليمي وما تحقّق من ذلك البرنامج وما لم يتحقّق حتى نعرف ما إذا كنّا ما نزال في حاجة إلى فكره الإصلاحي وما إذا كانت سياقات الراهن ومقتضياته قابلة لمثل تلك الآراء أم إنّ هذا الفكر قد  تجاوزه الزمن ولم يعد له موقع فيه.

مبدئيا مازلنا إلى اليوم نطرح عددا من  الأسئلة نفسها التي طرحها أعلام النهضة والإصلاح ورواد الفكر التنويري الاجتهادي في تونس، ممّا يحمل على الاعتقاد أن تلك الكتابات إما أنّها غير معروفة معرفة كافية لدى الأجيال الطالعة، أو هي، في أحسن الأحوال، لم تقرأ القراءة المثمرة التي تجعل من الأفكار الواردة فيها قاعدة عملية تقام عليها برامج الإصلاح والبناء الحضاري العام وتُحَوِّلها بذلك إلى وقائع فعلية أو إلى مؤسسات. فقد دشنت النخبة التونسية منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مقاربة لا تخلو من عناصر جدّة كثيرة في التعامل مع النص الديني ومع قضايا التشريع خاصة، كما أنها طرحت أسئلة وأثارت إشكاليات وعالجت قضايا مازال بعضها يطرح ويعالج إلى اليوم، على غرار قضية موقع الدين والتشريع الديني من تنظيم المجتمع ومن القانون، وقضية إصلاح التعليم والإصلاح الثقافي العام وقضايا منهجيات التعامل مع المعارف الحديثة وكيفيات استيعابها والاستفادة منها في سياق كوني فقدت فيه المعارف الكثير من حيادها وموضوعيتها وحوّلت إلى أداة أو سلاح يستخدمان في إدارة الصراع على المصالح. وقد نرى في تردد طرح الأسئلة نفسها وإثارة القضايا والإشكاليات التي أثيرت منذ ما يناهز القرن من الزمان دليلا مباشرا على أننا لم نحقق النقلة النوعية ولا القطيعة المعرفية اللتين تؤولان ضرورة إلى القطع مع السابق من النظم والأنماط والمؤسسات والمعارف وتأسيس الجديد مثلما حصل في تجارب حضارية أخرى مثل التجربة الغربية.

في سياق هذا التوصيف المبدئي لعمل رواد الفكر الإصلاحي التونسي من جهة وللراهن وقضاياه من جهة أخرى نطرح السؤال: هل مازلنا في حاجة إلى الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور؟ وهل في ما جاءنا من فكر هذا الشيخ ما هو راهن حقّا؟

شهد الشيخ طيلة حياته مسيرة حافلة بالأعمال الأدبية والفكرية والثقافية وبالأنشطة السياسية والنقابية وبالمشاركات في المؤتمرات العلمية واشتهر خاصة بإسهامه في وضع مجلة الأحوال الشخصية. قد يكون الأب غطى بإنتاجه الوفير وذي القيمة العالية علميا وبشهرته على ابنه، ولكن إنتاج الابن 

يستحق هو الآخر العناية والاهتمام خاصة وأنه اعتنى فيه بمواضيع واستخدم من المنهجيات ما  يجعل الكثير منه  يبلغ مستوى إنتاج الأب في الدراسات الفقهية والقرآنية  خاصة، 

يمثّل إنتاجه المنشور في الدوريات في شكل مقالات فكرية وثقافية وأدبية أكثر ما كتب، وقد جمع الكثير من مقالاته ومحاضراته في  كتب منشورة نذكر منها : ومضات فكر، المنشور بتونس عن الدار العربية للكتاب سنة 1982، وروح الحضارة الإسلامية، ط2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.)

1 - في الحاجة إلى الأخذ بمنهجيات جديدة في دراسة الإسلام:

أثار الشيخ عرضا في المقال الأول من هذا الكتاب مسألة تدل على وعي بالمباحث الحديثة التي أخضعت لها الكتب الدينية ومنها تحديدا البحث المقارني، حيث ضبط منهجا لدراسة مقارنية بين القرآن والكتاب المقدس، وبالرغم من كون ما قاله الشيخ بشأن  هذا المنهج يعتبر أوليا وبسيطا نسبيا  من منظور اليوم ومقارنة بما حققته الدراسات المقارنة بين الأديان من فتوحات علمية، فإنه مهم في وقته خاصة بقدر ما هو مهم في ما أشار إليه من قواعد منهجية أساسية عندما أكد على أن ما يجب أن يعتدّ به في المقارنة لا ما يقوله أصحاب الكتب التأسيسية عن كتبهم أو عن كتب غيرهم لأن هذه الأقوال لن تكون موضوعية ولا تصف الحقيقة وصفا محايدا، وإنما تبنى المقارنة بالاعتماد على ما سمّاه أربعة أركان هي ركن الأسلوب وركن القصد وركن طريقة النقل وركن اللغة، لأن هذه الأركان تضمن النظر في ما هو "موجود في كل من الطرفين المقارنين " (ص15)

إن ما يبقى راهنا وحاجة متأكدة من حاجاتنا اليوم إنما هذا التأكيد المتكرر على وجوب التعرف على مناهج التفكير والنظر والبحث الجديدة والعمل على الاستفادة منها في دراسة القرآن والإسلام والثقافة الإسلامية عامّة، وعلى تأصيلها في المجال الفكري العربي والإسلامي .

2 - في الحاجة إلى إعادة النظر في وظائف الدين وفي وضعه في المجتمع وفي الثقافة:

في حديثه عن العوامل التي تفسر ما بلغته الحضارة الإسلامية من تطور وازدهار خلال فترة من تاريخها بدا الشيخ متفرّدا في رأيه، فهو لم يرجع الأمر إلى ما أرجعه إليه كثيرون غيره من عوامل عامة دينية (تأثير الدين الجديد وما استتبعه من ازدهار فكري) وسياسية-اقتصادية (ظهور الدولة وتحولها السريع إلى امبراطورية وما تبع ذلك من تراكم في الثروات ..) بل أرجعه إلى عامل أساسي ومؤثر هو الفرد، فالفرد أصل كل بناء، وإذا لم يبن الفرد على قاعدة سليمة فإن كل بناء حضاري سيظل مهدّدا بالانهيار. ويمكن أن نعد هذا الرأي من أهم التصورات التي مازلنا في حاجة كبيرة إليها.

فالفرد هو حقّا أساس كل بناء حضاري، ولا تقدر أمة من الأمم أن تبني حضارة إذا لم تبدأ ببناء الفرد، يقول: "كان العامل التربوي الإسلامي الذي كوّن الفرد عقلا ونفسا وخلقا وسلوكا هو العامل الأصلي الذي ولّد الحضارة وكوّن المجتمع الأمثل ومهد للثقافة طريقها إلى أن تتناول عناصر المعرفة، وتؤلف كيانها فقامت الحضارة الإسلامية على ذلك المجتمع المتلائم وبرزت الثقافة بأزهارها اليانعة من بذور تلك العناصر المتلاقحة" (روح الحضارة الإسلامية ص39)

هذه هي الأطروحة العامة التي بنى عليها الشيخ محاضرته المطولة "روح الحضارة الإسلامية" وفي باب الاستدلال لها أشار الشيخ إلى بعض الشروط التي تجعل من الدين فاعلا في البناء الحضاري العامّ عن طريق الفرد، ومن بينها أن يكون الدين نفسه فاعل بناء للشخصية الفردية على قاعدة من القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تجعل منه بدوره شريكا في البناء  الحضاري العامّ. ومن هنا كان  تركيزه على البعد الوجداني والروحاني للدين وعلى ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق في تعامله مع الناس ومن قيم هما التجسيد السلوكي لخلق القرآن ولما يحث عليه من قيم. ويتفق الكثيرون على أنّ هذه الحاجة ملحة راهنا حيث هيمن التدين الشكلي الاستعراضي المقترن بكثير من مظاهر الزيف من جهة ومن مظاهر السلوك العنيفة من جهة أخرى. وهو في تركيزه هذا يؤكد على التكامل بين العقل والدين والسلوك يقول:"إذا كان العقل سند الحقيقة الدينية وبرهانها كما كان الإيمان أصل توجهها إلى مناهج السلوك...هذا هو الذي أخمد في نفس الفرد نار المعارك الحامية التي كانت قائمة بين العقل والدين وبين العلم والدين وبين المدنية والدين فاتصلت الشخصية الفردية بالمحيط الاجتماعي على ذلك النحو من الأمن "(م. س. ص 28) وقد بدا للشيخ أن هذا المطلب غير قابل للتحقّق دون عقلنة الدين ودون رفع التعارض بين العقل والوحي ودون إرساء علاقات تكامل وانسجام بين مختلف مكونات الثقافة، علما ودينا وفلسفة، وهذا هو في نظره أحد العوامل الفاعلة في تشكل الحضارة العربية، فلا الدين ناهض العلم ولا العلم قاوم الدين وإنما كان لكل مجال ولكل موقع 

في الحاجة إلى اجتهاد متجدّد:

في مقال يتعلق بالاجتهاد، ورد ضمن كتاب "ومضات فكر "تفطن الشيخ إلى أصل المشكل الذي واجه التشريع الإسلامي في العصر الحديث، وهو ليس ناتجا عن غلق باب الاجتهاد كما هو شائع عند كثيرين بل راجع في القرنين الأخيرين كما يقول إلى "أن الأوضاع انقلبت انقلابا تاما بحيث أصبحت المسائل المدونة في كتب الفقه قليلة النظائر في الحياة العملية الحاضرة وذلك هو الذي جعل مشكلة الاجتهاد مصوّرة في يومنا الحاضر بما لم تتصور به في القرون الغابرة ولا يمكن أن تتصور به. فقد أصبحت مظهرا لانعزال الدين عن الحياة العملية "(ص 39) وتساءل الشيخ تعليقا على هذا التشخيص:" فإذا استطاعت الدولة الإسلامية أن تلفق قوانين للأحوال الشخصية تستمد من المذاهب المختلفة نصّا أو تخريجا فأين هي من بقية القوانين العامة والخاصّة" (ص40) ومعنى هذا أن الاجتهاد بالمفهوم التقليدي وضمن حدود الشروط التي وضعها له الأصوليون لا يصلح لحل المشكلات التي يواجهها التشريع الإسلامي، ذلك أن الاجتهاد في الماضي لم يتعرض إلى مسائل في مستوى المسائل التي أثيرت في العصر الحديث ،يقول:"إنّ كل ما سبقت محاولته في هذا الباب(يقصد باب الاجتهاد) راجع إلى مسائل جزئية أكثرها نازل بمراتب عن مرتبة الاجتهاد المطلق الذي تكلمنا عن انقطاعه"(ومضات فكر ص40) فما الحل إذن؟ في هذا المقام استدعى الشيخ والده وفكره المقاصدي معبّرا عن اتفاقه معه حول الحاجة إلى استبدال فقه الحروف بفقه المقاصد، أما الأهم من هذا فهو ما أشار إليه من أن ما قد يفتحه الاجتهاد المقاصدي من آفاق تساعد التشريع الإسلامي على تجاوز المآزق التي انتهى إليها لا يمكن أن يكون في مستوى الآفاق التي تفتحها والإمكانيات التي تتيحها العلوم الإنسانية الحديثة في التعرف إلى المجتمعات وفي تقدير حاجياتها، يقول:"وأين الدارسون للشريعة والباحثون في الأحكام والداعون إلى الاجتهاد فيها من مبالغ الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي تطفح على بلاد الإسلام؟" (ص40) فهل يمكن أن نفهم من هذا أن الشيخ يحثّ على استخدام العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة في تطوير المنظومة التشريعية؟ يتأكد لدينا هذا الطرح عندما يقترح الشيخ حلا إجرائيا يتيح إمكانية تجاوز قصور الاجتهاد الفردي ويسمح بالاستفادة من المكتسبات المعرفية والمنهجية الحديثة بقدر ما يدعم العمل المؤسساتي الذي يجعل من تطوير التشريعات والقوانين مسؤولية جماعية . فهو يدعو ، ويؤكد بذلك دعوة والده الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، إلى "جمع مجمع علمي يحضره من أكابر العلماء من كل قطر  إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين ليبسطوا بينهم حاجات الأمة ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعيّن عمل الأمّة عليه"( ومضات فكر، ص 40)

فضلا عن هذه المواقف والتصورات التي تؤكّد أن للشيخ مكانة في راهننا وأننا مازلنا في حاجة إلى رؤيته تقدم لنا مؤلفاته أنموذجا للشخصية التونسية ورمزا من رموزها .يجمع في شخصه بين المعرفة الواسعة والمتنوعة بقديم الثقافة التي ينتمي إليها وبجديد المعارف الناشئة في ثقافات أخرى، فهو على دراية دقيقة بالفقه الإسلامي وقضاياه وبأصول الفقه وتاريخه وأعلامه وما عرف من أطوار واجتهادات، وعارف بالفلسفة الإسلامية وبعلم الكلام وما بينهما من اتصال وانفصال، كما أن معرفته بأجدّ ما وصله وقته من نظريات في علوم اللغة وفي القانون وعلم الاجتماع وسعت آفاق الرؤية الإصلاحية لديه. ولم تكن معارفه هذه مجرد جمع وعرض وحفظ، بل إنه كان يناقش ما يعرض من الأفكار والمواقف ويمحص ما يسرد من الوقائع ويدقق ما يستدلّ به من النصوص وينقد المواقف ويقابل بينها. وبالرغم من أن جانبا هاما من المعارف التي عبر عنها يعتبر تقليديا ومتجاوزا من منظورنا الراهن فإنها في عموما ممّا يسمح لنا بتبين ملامح المدرسة التونسية التي بدأت أسسها تتشكّل مع الشيخ وجيله والجيل الذي سبقه، مدرسة مازالت ترزح لا محالة تحت وطأة القديم إلا أنها بدأت تنفتح على المعارف الحديثة وتأخذ بناصيتها كما تبدو وقد سارت شوطا في إصلاح نظامها وبرامجها، وكان لهذا العلم ورفقائه من رواد الإصلاح دور هام في ذلك الإصلاح وفي وضع أسس المدرسة التونسية الحديثة. وتمثل المقالات المجموعة في كتاب "ومضات فكر" دليلا ثابتا على هذه المعرفة ومرآة عاكسة لملامح تلك المدرسة، وهو الكتاب الذي نرى أنه لم ينل حظه كاملا من عناية الدارسين.

زهية جويرو

أستاذة الحضارة العربية بالجامعة التونسية

قراءة المزيد:

الشاذلي القليبي: محـمّـد الفـاضـل ابن عـاشـور في ظـلال الشّيـخ والــده

الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور: يتحدّث عن نشـأته ومسيرته العلمية والمهنية (صور)

الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل ابن عاشور (1909 - 1970): منـارة الفكـر والاجتــهـاد

الذكرى الخمسون لوفاة الشيخ الفاضل بن عاشور

الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور راهنا

جمال الدين دراويل: في راهـنية فكر الشيخ محمد الفاضل ابــن عاشور

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.