الشاذلي القليبي: محـمّـد الفـاضـل ابن عـاشـور في ظـلال الشّيـخ والــده
مِن دواعي الاعتزاز، الحديث عن عَلـَم كبير من أعلام تونس، الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور: عُرف بعطائه الفكري وكِفاحه الاجتماعي، ذودا عن الإسلام والوطن، وفي سبيل ترسيخ ثقافة أصيلة مواكبة للعصر.. الشّيخ الفاضل حقيق ببالغ العناية، لِما له من فضل على الثقافة الإسلاميّة، عامّة، وعلى الثقافة التونسيّة خاصّة، ولِما تحلـّى به من خصال جعلت له، في تونس، منزلة اجتماعيّة لا مثيل لها، وحُظوة عالية في المجامع العربيّة والإسلاميّة التي انتسب إليها، وفي المؤتمرات التي شارك فيها.ومعلوم أنّ هذا الرجل الفذّ من أسرة عالية الشأن، أسرة عِلم وجَاه، ذات أمجاد عِلميّة، طارفة وتليدة. لكن ذلك لم يقعده عن الجهد، والحرص في الدرس؛ ولم يثنه عن دوام الطلب والتحصيل، اقتداء، لا شكّ بوالده المبرور، الشيخ الطاهر ابن عاشور برّد الله ثراه. ولمّا تيفّع الإبن البكر، نظّم له والده، داخل المنزل العائلي، دروسا أوّلية تؤهّله للالتحاق بجامع الزيتونة ؛ كما كلّف، في نفس الوقت، مَن لقّـنه مبادئ اللغة الفرنسيّة ؛ وكان ذلك حرصا أن يكون له اطـّلاع على الثقافة العصريّة. وكان الشّيخ الوالد يُتابع باهتمام خطوات ابنه، ويسهر على توجيهه الوجهة الصحيحة، وفق ما استخلصه من تجاربه الطويلة، مُدرّسا، ورائدا في طليعة الرُوّاد المُصلحين للتعليم الزيتوني.
وبمنزل العائلة، مكتبة نموذجيّة، كمًّا وكيفًا، ورث الشيخ ابن عاشور رصيدها عن الأجداد، وزاد في إثرائها، طيلة عقود الطلب والتدريس. وكان يُرشد ابنه إلى وجوه الاستفادة من عيونها، وممّا كان له، على هوامش بعضها، من تعاليق، هــي عصارة تمحيصـــه وتدبّره. ومــن حظّ الإبن أن أخـذ عن هذا الوالد الهمام زبـدة العلوم التقليديّة، في أصـولها وفروعها.
وبتوجيه منه، كذلك، عرف أهمّية الاستعانة بمراجع أجنبيّة، في مواضيع مُعيّنة، كان اطّلع عليها الشيخ، ووقف على مدى تقدّمها في التنقيب عن المعلومات الصحيحة.فكان الإبن ينهل، منذ صِباه، من معين قلّ أن أتيح مثله لأترابه، إذ كان الشيخ ابن عاشور قمّة في العلوم الإسلاميّة، مُحيطا باللغة العربيّة وأدبها، إحاطة نادرة لدى أهل عصره: بشهادة مَن عرفه عن قرب، التونسي المُغترب بالديار المصريّة، «الخضر حسين»، الذي آلت إليه، في فترة من حياته، مشيخة الأزهر، بالقاهرة.
وكان الشّيخ الطّاهر على دراية باللّغة الفرنسيّة. فقد كان سي الفاضل يهاتف أحيانا والده، من الخارج، طالبا منه النّظر في بعض المراجع الفرنسيّة، لِمدّه بمعلومة معيّنة، كان يحتاج إليها.
ذلك أنّه حفّت بنشأة الشيخ الطاهر، هو أيضا، ظروف عائليّة استثنائيّة؛ ثمّ أخذ عن كبار مشايخ الزّيتونة، ممّن عُرفوا بشمول النظر، وصحّة الاجتهاد ؛ ثمّ انعقدت له صحبة بداعية العقل والإصلاح، الشيخ محمد عبدو، أثناء إقامته بتونس على فترتين. ولقد اشتهر الشيخ ابن عاشور ببحوثه الإسلاميّة، وخاصّة بتفسيره للقرآن الذي عنونه: «تفسير التّحرير والتّنوير» –تحرير المعنى السّديد وتنوير العقل الجديد – كثيرا ما استشهد فيه بصاحب الكشاف، المعروف بإعمال العقل في تأويل المُشكِل من آيات القرآن.
وكان الشّيخ ابن عاشور أدرى النّاس بنقائص المناهج التقليديّة في التعليم، لِتولّـيه مشيخة الزيتونة، ومحاولته إدخال ما كان يراه ضروريّا من الإصلاحات. لذلك اهتمّ، في تربية ابنه، بتوخّي طرائق تساعد على حسن التحصيل، وتثقيف الفكر، وصفاء القريحة، وانطلاق اللسان.
على أنّ علاقة الوالد بابنه، لم تكن علاقة أستاذ بتلميذه؛ إذ كان الشيخ ابن عاشور يضفي عليها مسحة من الودّ والمفاكهة والانشراح.
ولمّا تقدّم الإبن في مراحل دراسته، كان والده يدعوه إلى حضور مجالسه الخاصّة، التي تنعقد بمنزلهم، وتضمّ علية من المجتمع، وثلّة من المدرّسين، ورجــال الأدب والصحـافة.كـان «سي الفاضل» – كما يحلو لِوالده أن يدعوه – كان إذّاك في مقتبل العمر، وزاده الله «بسطة في العقل والجسم»، ولحن الصوت وبراعة القول.
وكان الشّيخ الطاهر يحثّ ابنه الشاب على المشاركة في الحديث، بمحضر كِبار زوّاره؛ كما كان يُعوّده الارتجال، في بعض المناسبات. ممّا جعل الشبل، منذ شبابه، بمنجى من أيّة رهبة، في حضرة عظماء القوم، أو كِبار شيوخ العِلم والأدب. ورغم أنّ العائلة كانت على قدر من الرخاء واليسر، فإنّه لم يكن لِيتصرّف – حسب عبارته – تصرّف «الطفل المُدلـّل».
وهو، في حديث له، يعزو ذلك إلى أنّ الشيخ الوالد كان دوما يأخذه بما سمّاه «الاستقامة»، لا شدّة ولا صرامة ؛ فصرفه ذلك إلى الحزم والجـِدّ، منذ صِباه. ثمّ، لمّا انتسب إلى جامع الزيتونة، كان تنقله من منزله – بضاحية المرسى – إلى وسط مدينة تونس، مُنظّما بدقّة وبمراقبة عين ساهرة.فجعله ذلك بمعزل عمّا يخوض فيه أترابه، من شؤون المجتمع ؛ فلم يكن يعرف عنها إلا ما يطرق سمعه من أحاديث عائليّة، أو ما يراه في بعض الروايات المسرحيّة – كان يحضرها، بمعيّة كبير من أقاربه.
ولمّا كانت معرفته بالمجتمع «معرفة نظريّة»- كمـا يقول – فقد أراد أن يفرغها في صيغة أدبيّة، من خلال مشاهد مسرحيّة، كان يقيمها في البيت العائلي، بمعيّة مَن أمكن مِن أقاربه؛ ومُقلـّدا للطريقة المسرحيّة، الرائجة إذّاك، في تضخيم الصوت، وتفخيـم النطـق ؛ وكثيرا ما كان يقـوم فيها بدور الخطيـب ؛ ويقول، في هذا الشأن، مُتواضعا، «وأحيانا أُلقي فيها ما أزعمه قصائد». ويقول إنّ هذه التمارين أصّلت في نفسه الميل إلى الخطابة، وجرّأته على الارتجال، في ملإ من النّاس. كان الشيخ ابن عاشور مُدركا لِما عليه ابنه من نبوغ، وما يتحلّـى به من عُلوّ الهمّة في الطلب ؛ فعوّده إعمال العقل، والنظر في الأمور بميزان المنطق. وكان «سي الفاضل» يأخذ عن والده، مشافهة أو بقراءة مُؤلّـفاته؛ وكثيرا ما كان أوّل قارئ لِمخطوطاته، قبل طبعها ونشرها. ومن أهمّ ما لقّن الشيخ ابنه، التميّيز بين منطق طلب العِلم ومنطق طلب التّقوى؛ وأنّ العِلم له مقتضياته، وللتقوى فروضها – وإن كان كلٌّ منهما في حاجة إلى الآخر: التقوى ضروريّة للتحكّم في المقاصد العِلميّة، والعِلم مفيد في إنجاز الأعمال الصالحة.
هذه النظريّة المُميِّزة بين قُطبَي الاجتهاد – العِلمـي والدّيني – تأصّلت في فكر الشيخ الفاضل، وأكسبته مزيدا من القدرة على مــواجهة الذين تلقّوا ثقافتهم في الكلّـيات العصريّة. وممّا أخذ أيضا الإبن عن والده أنّ التعليم مُرتبط بمقتضيات العصر، واحتياجات المجتمع. فلا بدّ من تطوير المناهج القديمة، وإثراء مُحتويات برامجها. لذلك كان والده يحثّه على متابعة محاضرات «الجمعيّة الخلدونيّة»، باعتبارها نافذة على الثقافة العصريّة. ولعلّ، لِهذا الغرض أيضا، تمّ فيما بعد، توجيه الأحفاد إلى المعاهد العصريّة، حيث تسنّى لهم بلوغ مراتب نابهة.
ولعلّ الشيخ الإمام كان يُريد لابنه أن يكون، معا، عديله فيما أتقن وشُهد له فيه بالرئاسة، ثمّ مُتّصفا بما كان يتمنّى لِنفسه، ممّا لم يبلغه بسبب الظروف؛ فأراده نسخة من نفسه مطوَّرة، بما يحصل عليه من أدوات فكريّة وثقافيّة تُمكّـنه من اقتحام المجتمع الجديد الذي كانت به البلاد على مخاض. فأتاحت الظروف للابن ما لم تتح للوالد : قدرة فائقة على الخطابة، في أيّ موضوع يعرض له في المجتمع، دون استعانة بورقة. إذ الشيخ الإمام كان، طيلة حياته المديدة، منقطعا لِمجالسة كتبه، ومزاولة مؤلـّفاته – حضوره في المجتمع لا يكاد يتجاوز المناسبات التقليديّة. فلعلّ أمله كان أن يحظى ابنه بما حُرم هو منه.
وفعلا سيتسنّى لشيخنا الفاضل أن يكون عند أمل والده، وأن يكون له في المجتمع سبحٌ عظيم – وإن لم يُقدَّر له أن يعيش طويلا. فلقد اجتمعت لِسي الفاضل، فعلا، شروط التحصيل طالبا، وأركان النجاح مُدرّسا، وقواعد الفوز رائدا اجتماعيّا. فبقدر ما كان الشّيخ الإمام، زينة المجالس، ورجل البحوث العِلميّة، والدراسات المرجعيّة، كان ابنه النّابغة ومضات فكره تأخذ الألباب، ونبضات خُطبه تشدّ الأسماع: «جمع فأوعى»، ودانت له اللغة بما رحُبت، واعترف له الجميع بعلوّ الكعب، ورجاحة الفكر، وسحر البيان. فللرّجل، في المجالس العِلميّة، كلمـة لا تُردّ، وفي المواطن الاجتماعيّة، حضور متميّز، وبراعة في القول لا تُضاهى، وفصاحة لسان يُغبط عليها. وكان، في مجالسه الخاصّة، مع أقاربه أو إخوانه، منشرح اللسان، جميل الوصال، لا تزمّت ولا ابتذال. وأمّا، في المجتمع، فعفيف اللّسان، كريم اليد، سريع البديهة، لا يواجه بمكروه.
ولئن كان من أسرة مرموقة، كما أسلفنا، فلم يكن متبجّحا بأمجاد، ولا معتدّا بجاه، بل دوما كظيم الاعتزاز، متورّعًا عن الخيلاء، متفتّحًا إلى سائر مخاطبيه بعذب الكلام.
ولئن كان مدفوعا إلى الجِدّ والكدّ، فإنّ ذلك لم يطمس في جبلّـته ميلا قويّا إلى المداعبة مع أقاربه وإخوانه، وتعاطي الهزل الفكري الذي من شأن أهل الأدب.
وكان لذلك كثير الارتياح إلى صحبة مَن كان يُسمّيه «الفقيه»، مودّة وتفكّها. وكان «الفقيه» من أبرز وجوه المجتمع الزيتوني، أعني النابه الذكر الشيخ المختار بن محمود. فالشيخ الفاضل نموذج فريد من علوّ الهمّة، وأريحيّة السخاء، ولطيف التواضع؛ يشقّ الطريق لِتحيّة من دونه، سِنّا أو منزلة، دون ما استنكاف. وكان الشيخ، أستاذا، تحفّـه، من قِبل طلبته، المحبّـة والاحترام؛ تخرّجت على يده أفواج ممّن جمعوا بين الأدب والفقه.
وإدراكا منه لضرورة الاطّلاع على طرائق البحث الحديثة، فتح الطريق – وهو عميد كلـّية الزيتونة – أمام جيل جديد من المُخضرمين، على غرار مَن لقّبه – في تقديم لمحاضرة مشهودة، حضرها الرئيس بورڤيبة – بـ«الشيخ الزيتوني، والدكتور الصربوني»، إشارة بهما إلى أحد أنبغ طلبته وأقرب مُريديه، صديقنا الأديب الكبير، والفقيه الأريب، المرحوم الحبيب بلخوجة، الذي اقتفى أثر شيخه عن جدارة، ونال من المراتب ما شرّف بلاده.
وكان للشيخ الفاضل، بالمدرسة الصادقيّة، دروس هي أشبه بالمحاضرات، يستمع إليه تلاميذه في مثل الانبهار. أهمّ ما خلّـفته عندنا ووقر في أنفسنا، ولع شديد بالعربيّة، واستشعار عميق لِجلال حضارة الإسلام. أمّا خارج أوقات الدرس، فكُنّا نُتابع خُطاه، وهو يمرّ بشوارع المدينة، محاطا، بكوكبة من طلبة الزيتونة – تلتحق بهم أحيانا، في الأسواق، زمرة من الكهول المُعجبين، يقومون، لردّ تحيّته بـ«الكبّ» عليه (تقبيل كتفه احتراما وتقديرا)، ويمشون إلى جانبه خطوات، لعلـّهم يسمعون منه. ولاشكّ أنّ الشباب المتخرّجين من المدرسة الصادقيّة مدينون للشيخ الفاضل – ولِكوكبة من مشائخ الزيتونة – بما حصلوا عليه من ثقافة إسلاميّة، ومن تمرّس بعلوم العربيّة، ومن عميق الشعور، لديهم، بالانتساب إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
والمجتمع التّونسي، بأسره، مدين لأولئك الشيوخ الأجلاّء، وفي مقدّمتهم الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وابنه الفاضل، بالتقارب بين الأجيال الزيتونيّة والأجيال الصادقيّة، نتيجة ذلك التعليم المزدوج – بين عصري وتقليدي – الذي انتهجته المدرسة الصادقيّة تحت إدارة مَن كان يفهم فوائد تلك الازدواجيّة، الأستاذ محمد عطية، رحمة الله عليه وجازاه خير الجزاء. ولو لا ذلك النهج القويم، لكان المجتمع في انفصام ثقافي خطير على مستقبل البلاد.
من تلك الدروس – التي كان المدير عطية ينتخب لها من بين أكابر شيوخ الزيتونة – فهمنا أنّ الإسلام رسالة حضاريّة، بقدر ما هو هَدْي ديني. ومن خلال انبهارنا باللغة التي كان يتكلـّم بها إلينا، شيوخنا – وكذلك أساتذتنا – أحسسنا أنّ مصير العربيّة مرتبط بنهضة أهلها، إذا هم غيّروا ما بأنفسهم، ونفضوا الغبار عن أحوالهم؛ وإذا هم قدروا على حماية حضارتهم من المسخ الذي عتبتُه التخلـّي عن اللغة العربيّة.
لغة القرآن – الفصحى من لسان قريش – من الوضوح والتبيين ما يجعلها جديرة بأن تسعى إلى منزلة اجتماعيّة، فلا تبقى محصورة في الكِتابات، أو في الخطابات الرسميّة – على ما يعتريها إذّاك من اضطراب الألسن. ولا أستبعد أن يكون للتعليم، منذ البدء، دور فعّال في تحقيق هذا السعي.
فكما أنّ «الفرنسيّة»، مثلا، تترسّخ لدى الأجيال بواسطة برامج التعليم، فليس من الصعب أن يبثّ التعليم، عندنا، لسانا فصيحا، مُبيّنا، لا غرابة ولا تكلّـف. لم يكن الشيخ الفاضل، رحمه الله، مُتزمّتا في أمر من أمور الدّين، ولا مُتشدّدَا في توجيه، ولا مغاليًا في أمر أو نهي : بل انشراح في الصدر، وسمــــاحة في الفكر، يــرى العبــادة قُــربى، دون ما انقبـــاض في النفـــس، ولا غُلوّ في القصد.
يحضرني، في هذا المضمار، ما قاله لي يوما، وكُنّا في عُمرة، أواسط الستّينات، إذ سألته، عند دخول الحرم المكّي، عمّا ينبغي أن يُقال من أدعية وابتهالات؛ فأجابني، بصوته الجهوري اللطيف: قُلْ ما شئتَ، ما تفيض به نفسك، ما يتبادر إلى لسانك. كان الشيخ الفاضل رجل المحاضرات اللامعة، المنعشة، التي لا يُجاريه فيها أحد من مُعاصريه. إذا حاضر تسلسلت جُمله، فيضا مُنهمرا، في ارتباط عجيب، بصوت فخم، تتخلّـله أحيانا رقّة، وتعلوه أحيانا بحّة.
لا يخالط لغته لحن شائع بين الخاصّة، ولا عِبَارة دارجة، وإنّما التزام دائم بالفصحى، في أبلغ تعابيرها، وأجزل صيغها.
لم نره، قطّ، قرأ من ورقة؛ ولكن بيمينه «مطوية» يقلّـبها أحيانا أثناء ارتجالاته المشرقة. يقتحم كلّ المواضيع بغزارة فكر، وكأنّها من صلب اختصاصه ؛ وكأنّه سبق له، فيها، تدبّر واستعداد. خُطبه مرصّعة بآيات، يستحضرها بيسر، فيُنزّلها ببراعة – مع استشهادات شعريّة، ممّا أخـــذ عن الشيخ والده، الذي تعتبر ذاكـــرته «ديوان العرب».
إذا تكلّم سي الفاضل في الأدب، فهو القدوة، وصاحـب المعرفة الشاملة ؛ وإذا تناول مسائل في التفسير ورجاله، كان إمام العارفين، لا يُشَقّ له غبار؛ وإذا طرق أحداثا تاريخيّة، تجاوز التفاصيل إلى ما ترمز إليه من معان وعِبر؛ وإذا خاض في حضارة الإسلام، حرّك النفوس بالفخر والاعتزاز ؛ وإذا تحدّث عن الإيمان، كان الأمثل، في فقه جوهر العقيدة، وحسن الإحاطة بأركان الدّين؛ لكن، أيضا، الوفيّ لِروحية الإسلام، سلوكا وحضارة، فيما يُوصي به من أخذ بالمقاصد، وما يحُضّ عليه من تطوّر – اقتداء بالإمام والده، صاحب التأليف المرموق عن مقاصد الشريعة. لكلّ هذه الخصال، تميّز الرجل عن أغلب مشايخه، وعن سائر الأتراب والزملاء، وصار له صيت ذائع في البلاد، وخارجها
غالبا ما كانت أسفاره قاصدة، لحضور مؤتمرات، أو المشاركة في أشغال مجمع اللغة العربيّة، بالقاهرة، حيث كان يحظى بفائق الاعتبار لدى أساطين الفكر والثقافة، وفي مقدّمتهم مَن لُـقّب بـ«عميد الأدب العربي» نابغة العصر طه حسين. مداخلاته، بالمجمع، كانت دوما، محلّ إعجاب لِسرعة بديهته، ولِسِعة عِلمه، ولِبيان خطابه، ولإشعاع حضوره.
وفي القاهرة، وفي سائر العواصم العربيّة، كانت له علاقات مرموقة، وصداقات حميمة، في أوساط العِلم والفكر والصحافة – إلى جانب ما كان له من صِلات في الدوائر الحكوميّة. كانت له بالمغرب، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حظوة عالية، فريدة، إذ جعله العاهل المغربي رُكنا ثابتا للدروس الحسنيّة، المقامة بمحضره، في أيّام رمضان.
والذي يختصّ به من بين عُلماء الأزهر والزّيتونة، ما كان يلقاه من اهتمام لدى المستشرقين كافة، يتحدّثون عنه بإعجاب، لِحُسن معالجته لِقضايا العصر، الاجتماعيّة منها والثقافيّة؛ لكن أيضا لاهتماماته، التي كانت تتجاوز المجالات العِلميّة والثقافيّة .فدروسه ومحاضراته كانت تطفح بالمقاصد السياسيّة الحضاريّة، إذ كان يهدف من خلالها، إلى تحريك نفوس مستمعيه – خاصّة منهم تلاميذ الصادقيّة وطلبة الزيتونة – وإلى إثارة مشاعر الغيرة فيهم على وطنهم وحضارتهم. فمن خلال التذكير بأمجاد الماضي، كان يقصد إذكاء الروح الوطنيّة، وإقناع الشباب بأنّهم ينتمون إلى حضارة عظيمة، واجبهم الاعتزاز بها، وعدم التفريط في كنوزها.
ولم يكن الشيخ الفاضل بمعزل عن قضايا المجتمع، السياسيّة منها والاجتماعيّة ؛ فقد ساهم مساهمة مشهودة في تأسيس الاتّحاد العام التونسي للشغل، وألقى، في مؤتمره الأوّل، خطبة يلهج بذكرها من أدركنا من المناضلين القدامى. وقد كان الشيخ الفاضل من رجالات مؤتمر«ليلة القدر»، الذي أعلن حقّ تونس في الاستقلال – مع ما كان في هذا الموقف من تحدّ لِسلط الحماية الغاشمة. وكان من خطباء يوم العروبة في الملعب البلدي، حيث احتشدت جماهير غفيرة، ألهبهم حماسا ما سمعوه من الزعيم علي البلهوان ثمّ من الشيخ الفاضل ابن عاشور. وكان يوم العروبة هذا ومؤتمر الشغّالين بداية اتّصال الشيخ الفاضل بالجماهير الشعبيّة، خطيبا مفوّها، بعد أن عُرف مدرّسا ومحاضرا. وكأنّي به، عندئذ، ابتدع زعامة من نمط جديد، لا تستند إلى حزب سياسي، وإنّما قِوامها شخصيّة مشعّة، قويّة الحضور، وخطاب وهّاج، مزيج غير مسبوق، بين الاعتزاز بالاسلام والعروبة، وبين الغيرة على الوطن، وما يفرض هذا وذاك من واجبات ؛ يعزّز كلَّ ذلك قامةٌ فارعة، وأناقةٌ مَلبَس في غير تكلّف، ونظراتٌ ثاقبة أو آسرةٌ، طورا بطور.
لقد برهن، بذلك، قبل الاستقلال، أنّ لديه، حقّا، صفات الزعامة الفكريّة والاجتماعيّة – وإن كان ذلك يثير أحيانا حساسيات من أطراف مختلفة.
ويحقّ القول إنّ الشّيخ الفاضل، في عقدي الأربعينات والخمسينات، كان يمثّل ظاهرة نادرة، إذ احتلّ، في الوسط الزّيتوني، منذ أوّل شبابه، مكانة فريدة – النّصيب الأوفر في مقوّماتها يعود إلى خصاله الذاتيّة ومناقبه المكتسبة. ثمّ لفت إليه سائر الأنظار في آخر عهد الحماية، وأوائل الاستقلال، لأنّه استلهم، من لبّ ما تعلّـم، في الزّيتونة وما اطّـلع عليه من حضارة إنسانيّة، معاني وتوجّهات، بها صنع لِنفسه ثقافة حيّة، تتناغم مع عقليّة العصر، وتستجيب لِحاجات المجتمع. وقد ظهر بعض ذلك، في مختلف أبحاثه الأدبيّة والفكريّة، وخاصّة منها دراساتِه لِمذاهب السُنَّة، وكذلك من خلال إسهاماته الحكيمة في وضع «مُدوّنة الاحوال الشخصيّة».فكان، في آرائه ومواقفه وأعماله، نموذجا للمثقّف الملتزم، الذي يعيش عصره، ويَخُوض في قضاياه، ويعمل لإحياء فكر دينه، بواسطة «التنوير» للعقـــول و«التحـرير» للمجتمــع. ولكن يبقى الشّيخ الفــاضل ظاهرة خطابيّة فريدة، لا تُظاهى بلاغته، ولا تُحاكى فصاحته، ولا تُنال منزلتُه.
الشاذلي القليبي
قراءة المزيد:
الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور: يتحدّث عن نشـأته ومسيرته العلمية والمهنية (صور)
الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل ابن عاشور (1909 - 1970): منـارة الفكـر والاجتــهـاد
الذكرى الخمسون لوفاة الشيخ الفاضل بن عاشور
جمال الدين دراويل: في راهـنية فكر الشيخ محمد الفاضل ابــن عاشور
- اكتب تعليق
- تعليق