أخبار - 2020.04.24

رشيد خشانة: أربعون عاما على عملية قفصة لتي أضاعت علينا فرصا كبرى

رشيد خشانة: أربعون عاما على عملية قفصة لتي أضاعت علينا فرصا كبرى

في مثل هذا الشهر من سنة 1980، أي منذ أربعين عاما، أصدرت محكمة أمن الدولة قرارتها في حق المشاركين في ما بات يُعرف بـ"عملية قفصة"، التي نفذها كومندوس تونسي أتى من ليبيا، عبر التراب الجزائري. وقضت المحكمة بالإعدام لـ15  منهم، والأشغال الشاقة لـ25 آخرين.

فجرت العملية، التي تمت في الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي 1980، أزمة اقليمية أطرافُها تونس وليبيا والجزائر وفرنسا وأمريكا، وكانت من أخطر الأزمات التي واجهتها البلاد بعد الاستقلال.

وقائع العملية

تسلل كومندوس مؤلف من حوالي ستين مسلحا من ليبيا، عبر الحدود الجزائرية، ليستقر في مدينة قفصة. وفي خط مواز تم تهريب أسلحة مختلفة من ليبيا إلى قفصة، تمهيدا للعملية. كان السيناريو المُعد يقضي بالهجوم على حامية قفصة والسيطرة على المدينة، ثم طلب المساعدة العسكرية من ليبيا، مما يقود إلى تدويل الأزمة. وكان الدافع الأول لمعمر القذافي هو الانتقام من الحبيب بورقيبة، الذي ألغى "معاهدة جربة"، بعدما وقعا عليها معا في 12 جانفي 1974، بأحد نزل جربة. ولم تُعمر "الجمهورية العربية الاسلامية" أكثر من أربع وعشرين ساعة، قبل صدور قرار تونسي بإرجائها إلى حين إجراء استفتاء في البلدين، لم يتم أبدا.
بعد ذلك، احتضن القذافي معارضين تونسيين، ودربهم في معسكر قريب من الحدود مع تونس. وقبيل الموعد المقرر لتنفيذ العملية، انطلق قسم من أعضاء الكومندوس إلى قفصة، عبر مدينة تبسة الجزائرية، بضوء أخضر من مسؤول رفيع في المخابرات الجزائرية، هو العقيد سليمان هوفمان، من دون علم الرئيس الشاذلي بن جديد على ما يبدو. أما القسم الثاني فدخل إلى تونس بجوازات تونسية باعتبارهم مواطنين يعملون في الخارج، وقدموا من بيروت وروما.

مُجنَدون غير مسلحين

استفاد المهاجمون من عنصر المباغتة للهجوم على حامية قفصة ليلا، مما أدى إلى مقتل شبان مُجندين غير مسلحين، فيما كانت غالبية الضباط والجنود يشاركون في تدريبات في ولاية مجاورة. وبحسب العقيد عز الدين بالطيب، قائد القوة التي وصلت إلى قفصة وحاصرت الثكنة، استطاع قائد المهاجمين أحمد المرغني أن يأسر 300 مُجند داخل الملعب الرياضي. كما توجهت قوة ثانية إلى مركز الحرس الوطني، وثالثة إلى مركز الشرطة وسيطرتا عليهما. وانطلقت إذاعة مجهولة الموقع، يُعتقد أنها تبثُ من سفينة بين تونس ومالطا، في إصدار بيانات باسم "إذاعة قفصة"، تحث المواطنين على التمرد ودعم المهاجمين. وكان المخطط يقضي بإعلان حكومة مؤقتة في قفصة، تعترف بها ليبيا، وتمدُ لها يد العون. وكتبت صحيفة "الرأي" المعارضة، أن العملية "ترمي لتقسيم تونس بين حكومتين، تستنجد كل واحدة منهما بدول أجنبية، فيغدو (البلد) ألعوبة في أيدي الدول الكبرى".

لكن مع وصول تعزيزات من الولايات المجاورة بدأ ميزان القوى يتغير، وخاصة بعد ظهور مروحيتين تونسيتين في السماء لتحديد مواقع المهاجمين، بينما كان هؤلاء ينتظرون وصول طائرات ليبية مثلما وُعدوا. أما سكان قفصة فلم يتجاوبوا معهم على عكس ما كانوا يأملون.

نقطة فاصلة

وأفاد أحد المهاجمين لدى استنطاقه لاحقا أمام المحكمة، بأن السيطرة الجوية للجيش التونسي كانت نقطة فاصلة، فقد أكدت لهم أن الطائرات الليبية لن تصل، ودفعتهم إلى الهرب نحو المناطق المجاورة. غير أن قوات الجيش تمكنت من الامساك بغالبيتهم ونقلهم إلى العاصمة. ولقي الجيش التونسي دعما من الجيش الفرنسي مما أثار جدلا في حينه، إذ أرسل الفرنسيون طائرتي نقل عسكريتين لنقل الجرحى إلى العاصمة، ولم يكن الجيش الوطني يملك طائرات نقل مجهزة آنذاك. كما أرسل المغرب طائرتي نقل عسكريتين وعددا من المروحيات.

وفي تلك الأثناء اقتربت قطع من الأسطول الحربي الفرنسي من السواحل التونسية في خليج قابس، وهي أقرب نقطة بحرية إلى قفصة، فيما تولت طائرات من طراز "ميراج"، استكشاف المناطق المحاذية للحدود التونسية مع ليبيا، مستخدمة آلات مراقبة متطورة. في المقابل، كانت غواصة روسية تقترب من المياه الفرنسية، فيما عبر أسطول روسي مضيق البوسفور في اتجاه المتوسط. وبعد مرور يومين على العملية، تحركت أربع طائرات من طراز "ميراج أف1" من قاعدة كورسيكا نحو القاعدة الفرنسية في جيبوتي، مع تموينها بالوقود جوا.

حرب باردة

وعزا الاعلام الفرنسي تلك العملية إلى سعي الفرنسيين لإثبات قدرة طيرانهم الحربي على تنفيذ عمليات في مناطق بعيدة عن قواعده. ومن هنا فإن الأمر تجاوز تقديم المساعدة إلى حكومة صديقة (تونس)، ليندرج في إطار الحرب الباردة، وتحديدا الصراع الفرنسي السوفياتي، الذي سيتجسد مُجددا في حرب تشاد، بين القوات الفرنسية من جهة، والقوات الليبية ذات التسليح السوفياتي من جهة ثانية. وهي الحرب التي خسرها قائد القوات الليبية خليفة حفتر، فوقع هو نفسه في الأسر. وكان لافتا أن الرئيس بورقيبة، الذي أصر على البقاء في مقر إقامته بنفطة (على بعد 100 كلم فقط من قفصة)، تحدث لزواره عن وصول شحنات أسلحة من أمريكا، لكنه لم يحدد نوعها أو عددها. أكثر من ذلك، لم يتوان بورقيبة عن الذهاب إلى مدينة قفصة يوم 28 جانفي، وجاب شوارعها على متن سيارة مكشوفة. وفي سياق تداعيات العملية أعلن الوزير الأول الهادي نويرة تخلي تونس عن شعار "التنمية قبل السلاح"، فيما طار رئيس أركان الجيش عبد الحميد الشيخ إلى واشنطن للتفاوض على شراء مروحيات وناقلات جنود مصفحة.  

السياق الاجتماعي

تمت العملية في ظلال الذكرى الثانية للإضراب العام، الأول منذ الاستقلال، الذي نفذه اتحاد الشغل، بقيادة الحبيب عاشور، في 26 جانفي 1978، دفاعا عن هياكله، في وجه محاولات الحكومة والحزب الاشتراكي الدستوري إخضاعه بالقوة. والظاهر أن القذافي بنى توقيت العملية على موجات الغضب التي أعقبت سجن القيادات النقابية ومحاكمتها، مُعتقدا أن المواطنين في قفصة سينضمون إلى المهاجمين ما أن يُطلقوا الرصاصة الأولى. لكن ما حدث كان العكس تماما. ويمكن أن نلمح هنا تشابها بين هذه الخطة والسيناريو الذي اتبعه تنظيم "داعش" في بنقردان، التي اختارها التنظيمُ في 2017 لإقامة إمارة تابعة له. غير أن المواطنين هم الذين أفشلوا الهجوم وتولوا اعتقال المهاجمين. ومن الحركات التي كان لها تأثيرها في موقف سكان قفصة، أن الجيش هو الذي تولى تموين المدينة بالخبز من أفرانه، بعدما توقفت المخابز عن العمل، وكادت قفصة تبقى بلا خبز.

كان بورقيبة مقيما في نفطة لدى حدوث العملية، مثلما أسلفنا، واتخذ بعض الإجراءات الإنفتاحية لتهدئة المعارضين، ورد الاعتبار للمطرودين من الحزب الحاكم، وتنفيس الاحتقان مع الاتحاد. وفي الوقت نفسه طرد القذافي عشرات الآلاف من العمال التونسيين، لتأزيم الوضع الاجتماعي، وإرباك حكومة الهادي نويرة، الذي كان من أشد المعارضين لوحدة جربة.

موقف بن جديد

تقدمت تونس بشكوى للجامعة العربية، التي عقدت اجتماعا في تونس (مقرها المؤقت بعد تجميد عضوية مصر)، في مستوى وزراء الخارجية، للنظر في الشكوى. وقبل الاجتماع هاتف العقيد القذافي الرئيس الجزائري بن جديد، طالبا منه دعم الدعوة الليبية إلى سحب الفرنسيين من قفصة، فرد بن جديد بأنه سيطلب سحب "المجموعة الفرنسية للدعم اللوجستي" من قفصة، لكنه سيدعم أيضا شكوى تونس ضد ليبيا "لأنكم سمحتم لقوى مناهضة للنظام (التونسي) بالتدريب والتسلح وغزو قفصة من أراضيكم".

من هم المهاجمون؟ وما هي دوافعهم؟ قُدر عددهم، بحسب مصادر غير رسمية، بحوالي ستين عنصرا، كلهم تونسيون، ويقودهم أحمد المرغني الذي كان عضوا في "الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس" المحظورة والموالية لليبيا. واعتُقل المرغني في تونس عام 1972 بتهمة التخطيط لتفجير المركز الثقافي الأمريكي بالعاصمة، وأفرج عنه بعد أربع سنوات، فسافر إلى ليبيا. أما القائد السياسي للعملية فهو عز الدين الشريف، المولود في قفصة، والذي شارك في المحاولة الانقلابية لعام 1962، للإطاحة ببورقيبة، وأمضى عشر سنوات في السجن، قبل أن يُغادره ويلجأ بدوره إلى ليبيا.

إلى جانب أسر المرغني والشريف، تم أسر حوالي أربعين عنصرا من المهاجمين، وإحالتهم على المحكمة، التي قضت بإعدام 15 منهم، وسجن 25 لفترات متفاوتة، فيما تمكن الآخرون من الفرار. وسعت منظمات حقوقية داخل تونس وخارجها، من بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، للحيلولة دون تنفيذ أحكام الاعدام. وبدت الأمور بعد تلك الحملة، كما لو أن بورقيبة سيعفو عن عشرة منهم. لكن الزعيم ياسر عرفات، القادم إلى تونس من قمة دول "الصمود والتصدي" في ليبيا، لم يُحسن مخاطبة بورقيبة في الأمر، مما أثار غضب الرئيس فرفض التوقيع على العفو.

قُصارى القول إن "عملية قفصة" ظلت علامة سوداء في العلاقات التونسية الليبية حتى سقوط نظام القذافي في 2011، وأضاعت على البلدين فرصا ثمينة للتقارب والتكامل الاقتصادي، كما سممت العلاقات مع الجزائر، ولو إلى حين، ناشرة مناخا من التوتر والريبة وفقدان الثقة بين البلدان المغاربية.

رشيد خشانة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.