جمال الدين دراويل: في راهـنية فكر الشيخ محمد الفاضل ابــن عاشور
من المعلوم أنّ شخصية الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور(1909-1970) متعدّدة الأبعاد، إذ هو رجل العلم والفكر ورجل الإصلاح الديني والتنوير الاجتماعي ، وهو الناشط المدني في عديد الجمعيات ومن أبرزها الجمعية الخلدونية التي ترأسها وجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين ، كما أنّه من مؤسّسي الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 إذ عمل جنبا إلى جنب مع الزّعيم فرحات حشاد من أجل تأسيس المنظّمة العمّالية الوطنية التي عاضدت العمل الوطني وشدّت أزره.
وإلى هذا وذاك تـــولّى الشيخ الفاضل وظائف ومسؤوليات سامية في التدريس والقضاء والإفتـــاء بما يسمح بالقول إنّ الرّجل ما ترك مجالا من مجالات الفعل الوطني التأسيسي إلاّ ساهم فيها بقسط وافر أو غير قليل.
نحو مسيرة التحرير والتنوير
ينحدر الشيخ الفاضل من أحد أشهر البيوتات العلمية في البلاد التونسية. فجدّ والده الشيخ محمد الطّاهر ابن عاشور الأول (تـ1868) من أبرز علماء القرن التاسع عشر بالبلاد التونسية وله في الإتحاف ترجمة غنية جاء فيها «لم يلبث أن طمح إلى الغايات البعيدة فنالها وفاض بالعلم حوضه...وجرى مع فحول الفقهاء في مضمارهم ومعارك أنظارهم»(1)
أمّا والده الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (تـ1973) فهو من أساطين الاجتهاد الإسلامي المعاصر ومن أبرز علماء تونس على مدى تاريخها المديد، تشهد على ذلك مؤلّفاته التي شملت كلّ مجالات الثقافة العربية الإسلامية، ومن أشهرها تفسير «التحرير والتنويــر» و«مقاصد الشريعة الإسلامية».
ولا شكّ في أنّ الشيخ الفاضل قد نهل من هذه الروّح التجديدية التي انبعثت داخل أسرته أوّلا وعبر تتلمذه المباشر على والده في جامع الزيتونة ثانيا. كما مثّل السياق التاريخي الذي عايشه طيلة عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن العشرين خاصّة أخصب فترات التاريخ الوطني التونسي المعاصر سياسيّا واجتماعيّا وثقافيّا، فقدَح فيه هذا السياق الاهتمام بالنشاط الوطني والاجتماعي وحرّضه على المساهمة الفاعلة فيه، وهو ما عبّر عنه بقوله: «أهمّ ما كان يؤثر في الحركة الاجتماعية في عهد شبابي هو تحقيق آمال الخلاص اعتمادا على الكفاح الشعبي واعتضاده بمبادئ الحرية والحقوق ...وكان لذلك أثر قويّ في نفسي لطلب نواحي العظمة والسيادة لوطننا»(2)
فالرّوح التحررية الاجتهادية فكريا ، والروح الوطنية سياسيّا أساس الشخصية القاعدية للشيخ الفاضل دون إغفال عامل الانتماء العائلي إلى أسرة من أسر الأرستقراطية البَلْدية.
وأكّد الرّجل على مرجعية هذه الثنائية (الروح التحررية الاجتهادية فكريا/ الروح الوطنية اجتماعيا وسياسيّا) بالنّسبة إليه، في سياق بيانه للهدف الذي من أجله تأسست الجمعية الخلدونية سنة 1896 وهي من أبرز إنجازات الإصلاح في القرن التاسع عشر إذ كانت لاحقا ملتقى النشاط الفكري والسياسي والنقابي والأدبي، وفيها ترعرع الشيخ الفاضل شابا وتولّى رئاستها كهلا، حيث قال: «كانت روحها الثقافية غربية (تحديثية) وغايتها وطنية، تعمل على بثّ روح التّطوّر في الوسط الشعبي وتُدخل إصلاحا جوهريّا على الفكر والمجتمع «(3)، إذ تلبّس بهما خلال قرون مديدة سيئ التأويل وقصر النّظر وتعظيم القديم، ما جعل المعاني تقصر عن غاياتها حتّى أنّ مراميَ الدين الحنيف ابتعدت عن أنظار العلم وانحرفت عن مسار الحركة الحضاريّة(4).
مثّلت هذه العوامل والقوادح موجّها أساسيّا لشخصية الشيخ الفاضل الذي انبرى – تبعا لذلك– ينبش في تاريــخ الثقافة العربية الإسلامية بالبلاد التونسية خاصّة وبالمغرب العربي الإسلامي عامّة للاستدلال على أنّ المنزع العقلي والرّوح الاجتهادية مثّلا جوهر هذه الثّقافة وجعلاها ثقافة تفكير متطوّر واجتهاد متواصل ، قبل أن يستحوذ عليها التحجّر والغلوّ وتفرض المحافظة وصايتها عليها.
المنزع العقلي والروح الاجتهادية جوهر الثقافة العربية الإسلامية
ما فتئ الشيخ الفاضل يؤكّد في سائر ما كتب أنّ الرسالة الإسلامية جاءت لإعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان وإعطاء الحياة ما به تتقدّم الحياة، اعتمادا على ثقتها في العقل آلةً لفهم العالم وعلى الاجتهاد وسيلةً لجعله قابلا على الدّوام أن يتجه نحو الأفضل والأقوم، معتبرا أنّ العقل مصدر قوّة للثقافة العربية الإسلامية وعاملا رئيسيا لازدهار المجتمعات العربية الإسلاميّة(5).
وذهب إلى أنّ رمزية العلامة عبد الرحمان بن خلدون (تـ1406) فبالثقافـة العربية الإسلامية عامة ولدى التونسيين على وجه الخصوص تعود إلى أنّه أسّس تيّارا قويا جديدا من الرّوح التّحـررية والإيجـابيّة والنظر العقلي والعلمــي(6). وهو ما يفسّر في تقديرنا إسناد متأخّري الإصلاح في القرن التاسع عشر وتلاميذهم أحد أبرز منجزاتهم التربوية (الجمعية الخلدونية) إلى ابن خلدون دون غيره من أعلام الثقافة العربية الإسلامية في تونس.
وليس بمستغرب أن تكون هذه المعاني محور المحاضرة الافتتاحية للجمعية الخلدونية التي ألقاها الشيخ سالم بوحاجب (تـ1924) أحد أشهر رجال الإصلاح في القرن التاسع عشر بتاريخ 15ماي 1897 إذ صدع في هذه المحاضرة التي أراد أن تكون بوصلة لهذه المؤسسة التحديثيّة بأنّ «عمران الأرض منوط بتدبير الإنسان إذ جعله الله الخليفة فيها وركّب فيه العقل الذي هو الآلة الوحيدة لذلك التدبير»(7) في نزوع غير مألوف وصادم للمؤسسة الزيتونية التي هيمنت عليها ثقافة المروياتت والعنعنة، من أحد كبار رؤوسها المتمرّدين عليها.
وأكّد الشيخ الفاضل انتصاره لهذه الرّوح وعمله على ترسيخها في سياق احتفائه برأي الفيلسوف محمد إقبال (تـ1938) الذي اعتبر أنّ ختْم النبوّة بالرّسالة الإسلامية هو من وجه آخر ثقة في العقل وتشريف له وإعلان عن أنّ يناء العالم وتشييد الحضارة الإنسانية منوط به في المقام الأوّل(8).
وتجدر الملاحظة إلى أنّ الشيخ الفاضل خصّص غير قليل من مؤلّفاته للتراجم، مركّزا في شخصيات الأعلام الذين ترجم لهم على عدم ركونهم للقديم واستقلالية تفكيرهم ومنزعهم الاجتهادي، من ذلك قوله في ترجمة الشيخ سالم بوحاجب: «كان من أوّل المندّدين بما أصبح عليه متأخّرو الفقهاء من التمسّك بظواهر النصوص والإعراض عن تحقيق المناط وصار من أشهر الدّعاة إلى مراعاة مقاصد الشريعة وتطبيقها على الأحوال الحاضرة»(9).
وفي سياق بيان رفض والده الشيخ محمد الطاهر لاسترجاع المعارف القديمة وسعيه نحو الاجتهاد والابتكار المعرفي قال إنّه «ما درّس مادّة إلاّ وضع فيها كتابا»(10) خلافا لما دأب عليه شيوخ جامع الزيتونة من التعويل على ما أنتجه القدامى، على خلفية التوهّم أنّه أعلى ما وصلت إليه الهمّة المعرفية.
في المقابل، شـدّد على أنّ ما أعاق الثقافة العربية الإسلامية أن تتفتّق وتبدع وما حال بين الاجتماع العربي الإسلامي أن يتطوّر ويتقدّم هو الغلوّ والتعصّب وضيق النّظر، إذ كان لذلك سيء الأثر فانحاز الدين جانبا وإنجاز العقل والعلم جانبا آخر وتقابلت العصبيّة بالعصبيّة، وثبت كلّ فريق في مكانه بينما الحياة تسير وتتشكّل بلا توقّف(11).
على سبيل الخاتمة
جمع الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور بين طرفي معادلة (المعرفي/ الوطني). فكان في المجال العلمي تنويريّا عمل على إعطاء الشخصية العربية الإسلامية عامّة والتونسية خاصّة طابع التوازن والإيجابية والاعتدال الذي يجعلها شخصية إيجابيّة وفاعلة ومبتكرة تنخرط في العصر الحديث بثقة وتبصّر، وتتفاعل مع الفكر البشري بعيدا عن الاستعلاء الموهوم والصراع المحموم من جهة، وإعطاء الانتساب للثقافة العربية الإسلامية دلالة على انحيازه لروح الاجتهاد والابتكار والتفكير العقلي الواقعي والمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية من جهة أخرى. واعتبر أنّ التعصّب والانغلاق والانكفاء على القديم من أخطر ما أصاب هذه الثقافة من المعوّقات.
وفي المستوى العملي، كانت حيـاة الشيخ الفاضل مسيرة عـطاء سخيّ في مجال العلم والتدريس وفي إطار العمل الوطني والاجتماعي، مسيرة شاهدة على احتفاظ كثير من أفكاره وأنظاره براهنيتها، وعلى حاجتنـا الأكيدة لتدبّرها ووضعـها على محكّ المساءلة والبحث، مـن أجـل أن تستمرّ روح التحرير والتنوير في ثقافتنا، فتضـــع حدّا لموجات الغلوّ والتطرّف التي أثبتت وقائع التاريخ ومازلت على أنّها من مقاتل ثقـافتنا ومـن مهالك مجتمعنا..
المصادر
(1)ابن أبي الضياف (أحمد) إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، وزارة الثقافة الدار العربية للكتاب تونس 1999 ج8 ص165.
ابن عاشور (محمد الفاضل):
(2)الحركة الأدبية والفكرية بتونس ، بيت الحكمة قرطاج 2009 ص17
(3)الحركة الأدبية م ن ص 121
(4)التفسير ورجاله، دار الكتب الشرقية تونس 1966 ص 169
(5)دراسات إسلامية، الدار التونسية للنّشر 1971ص21
(6)ومضات فكر ج2، الدار العربية للكتاب تونس 1982 ص178
(7)ابن عاشور (محمد الطاهر) أليس الصبح بقريب الشركة التونسية للتوزيع 1967 ص 103
(8)دراسات إسلامية م ن ص21
(9)أركان نهضة الأدبية بتونس مكتبة النجاح دت ص18
(10)الحركة الأدبية ...م ن ص97
(11)ابن عاشور (محمد الفاضل) ،محاضرات، مركز النشر الجامعي تونس 1999ص407
جمال الدين دراويل
قراءة المزيد:
الشاذلي القليبي: محـمّـد الفـاضـل ابن عـاشـور في ظـلال الشّيـخ والــده
الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور: يتحدّث عن نشـأته ومسيرته العلمية والمهنية (صور)
الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل ابن عاشور (1909 - 1970): منـارة الفكـر والاجتــهـاد
الذكرى الخمسون لوفاة الشيخ الفاضل بن عاشور
الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور راهنا
جمال الدين دراويل: في راهـنية فكر الشيخ محمد الفاضل ابــن عاشور
- اكتب تعليق
- تعليق