خديجة معلَّى: أَمَا آنَ لهذه الأمة أن تأخذ درسا من التخريب؟
"هذه الأمة لا بد لها أن تأخذ درسا في التخريب"! قالها الشاعر العملاق العراقي مظفر نواب منذ سنين، وها أنا اليوم في عقر دار الرافدين، أخبركَ يا مظفر: لقد دفعت هذه الأمة ثمن هذا الدرس غاليا جدا ولا بدَّ لها أن تأخذ الآن درسا في التعافي، كي تنجو بنفسها، وتُلَملِمَ جراحها وتلُم شمل شعبها!
بعد أكثر من ست عشرة سنة قضيت معظمها في جل دول المنطقة العربية والقارة الإفريقية، أيقنت، وإن كان لا يزال هناك لدى كثيرين مجال للشك، أن الأصولية الدينية هي من أخطر الكوارث ومن أبشع أنواع السرطانات التي يمكن أن تصيب جسد أي مجموعة بشرية، بل البشرية جمعاء. هذا الوحش يبدأ بالدخول في جسد الأمة في هدوء تام، ثم يباشر بنهش هذا الجسد والتغلغل حتى يتمكن من كل مفاصله وخلاياه، ليفتك به في النهاية. وتبعا لذلك، تصبح نغمة أن "الإرهاب لا دين له"، توجع ولا تطرب أحدا!
خطورة الأصولية الدينية تتمثل في أن هدفها الرئيسي في أية دولة تغزوها، هو تقسيم كل أفراد الشعب الواحد وذلك بإبعادهم عن مفهوم المواطنة و مدنية الدولة، وإرجاعهم إلى مستوى القبيلة أو العشيرة، وذلك لو أردنا قراءة واقعنا من خلال نموذج "ديناميات النمو"! أما الطريقة الخفية المستَعمَلة، فهي إقناع أكبر عدد ممكن من أشباه الأيمة والمنتحلين صفة الشيوخ، وغيرهم من شركاء المصالح، أن يصبحوا بوق دعاية للأفكار الهدّامة التي تنطوي عليها، بما يؤدي إلى تقسيم أفراد الشعب وزرع بذور التطاحن بينهم.
فمثلا، زمن "القتل على الهوية"، كانت ميليشيات تجوب الشوارع وتقتل كل من لم يعجبها هويته، أو دينه، أو مذهبه، أو عرقه، أو لأي سبب آخر. إن منطقتنا لن تقدر على التخلص من الإرهاب الفكري طالما هيتواصل التعامل مع الأصولية الدينية على أنها مجموعة أشخاص أو مؤسسات، وليس كفكر وثقافة تحارب العقل البشري وتمنع الأطفال والشباب من تنمية ذكائهم الوجداني وذلك بإبعادهم عن الفكر النقدي وتلقينهم نصوص وخرافات تدعو لترهيبهم وترويعهم. ولم ينكب بعد علماء النفس والمجتمع على مدى تداعيات هذا الفكر على نمو الشباب الذهني مما يمكن من تفسير ظواهر عديدة دخيلة وردود فعلهم في جل المجالات.
إن الأمل في النجاة ضعيف جدا لدول لا تزال تفرض خانة الديانة في البطاقات الوطنية أو جوزات السفر. كيف يكمن قبول هذا في 2019؟ الدين الذي نختار إعتناقه هو مسألة شخصية جدا لا تعني أحد وبالتالي لا توجد أية قيمة مضافة في ذكره على صفحة الهوية المدنية، بل إن ذلك يُعَدُ تعارضاً صارخا مع مفهوم مدنية الدولة وسلطة القانون والمؤسسات بالتساوي بين كل المواطنين والمواطنات!
سألتني نائبة سابقة، في إحدى الأيام: "كيف نقوم بالمصالحة الوطنية؟" ما هي الأدوات والطرق والميكانيزمات المثلى لذلك؟ تذكرت مُظفر وأعدت في داخلي إجابتي له: سوف يكون الثمن باهظا أيضا! وقلت لها: "فتح جروح الماضي التي لا زالت تنزف، مؤلم ويمكن أن يكون مُؤذياً جدا ومُوجعاً إلى أبعد الحدود، لكن لا مفرَّ منه". من الصعب جدا على الملايين من أبناء أي شعب قُسِّموا سواء بفعل الأصولية الدينية أو قوى أخرى وأصبحت عقولهم مهووسه بانتمائهم لفرقة أو مذهب أو أقلية دينية أو عرقية...أنيتصالحوا ويعودوا للعيش بوئام كما لو أن لا شىء قد حدث. معظم، إن لم نقل جل هؤلاء الأشخاص، يحتاجون إلى الانخراط في برامج لإعادة التأهيل، كي يتمكنوا من طي هذه الصفحة والابتداء من جديد لتأطير حياتهم بعيدا عن الطائفية ونحو توحيد صفوف الشعب الذي ينتمون إليه.
حجم وبشاعة العنف الذي عاشته منطقتنا، ضد نسائه ورجاله وأطفاله وشيوخه، مفزعة إلى أبعد الحدود، عاينت شخصيا العديد من أوجهها. قبل ذلك، كنت مقتنعة أن كل الأحداث التي قرأنا وسمعنا عنها من المصادر الإعلامية المختلفة، قد أصبحت جزءا من الماضي، ولكن ها هو هذا الماضي يداهم حاضري وأراه يستبق مستقبلي، وأنا لا زلت عاجزة عن تقدير حجم تداعياته، ليس فقط على مساحة جغرافية محددة، وإنما على كل المنطقة بكل اختلافاتها، وأساسا على بلدي.. تونس!.
على الشعب التونسي أن يقرر أن لا نوم بعد اليوم إلا بعد التأكد أن الوحش خرج من حاضرنا ولن يؤذيأطفالنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا، في المستقبل. أنا أقابل الوحش في كل مكان أتردد عليه في هذه الفترة الأخيرة خاصة، وهالني ما خلَّف وراءه من خراب ودمار، في الإنسان قبل الحجر !! والمعركة المقبلة لابد أن تكون حاسمة، وساحتها لا بد ان تكون أساسا العقول. لا خيار لنا!
الإشكال الهائل الذي يواجهنا حاليا، هو إنّنا في منطقة تشكو من حالة تَصحُرٍ من قياديين حقيقيين تحتاجهم المرحلة القادمة. سوف تمرُّ تونس كما كل دول المنطقة بأصعب المراحل التي لم تعرفها من قبل، وسوف تُجبر فيه معظم الشعوب للصعود للشوارع، لأنه قد نفد صبر الأغلبية ولم تعد قادرة على تحمل هُواة السياسة الذين يسمحون لأنفسهم بالترشح وقبول مسؤولية هي أكبر منهم بكثير، في جهل وتجاهل تام لتداعيات فشلهم المرتقب والحتمي على شعوبهم!
مصير الشعوب ليس لعبة في أيادي هواة السياسة والعابثين وأشباه المسؤولين، ومن أنذر فقد أعذر!
خديجة معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق