أخبار - 2019.09.25

احميده النيفر - الشيخ السـلاّمـي: آخـر العـمائـم؟

 احميده النيفر - الشيخ السـلاّمـي: آخـر العـمائـم؟

1 - في أسطر وبتوصيف مُقتضَب نَعتْ وسائل الإعلام التونسية الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية الأسبق بما يشبه الاضطرار الذي لا يتجاوز وقفة مجاملة عـَجْـلى.

مع ذلك فقد كان هناك استثناءان حَرِصا على نوع من الاستفاضة في التعريف بالشيخ الراحل. جاء الأوّل عند تكليف مفتي الجمهورية الحالي بتأبين الفقيد وكان الثاني في كلمة تَرحُّمٍ تمجيديٍّ وتوديعي بعنوان: «في جوار النبيئين والصدّيقين والشهداء والصالحين».

لماذا لم يتجاوز الأمر الإخبار الوجيز الضروري وفي أفضل الحالات استعراضا تبجيليّا أو صياغة رثائية تمزج بين الدعاء والتفخيم؟

2 - لكن الواضح من عموم ما نُشِر انحساره في حدود «الشخصنة» التي تقف أمام الشيخ المُعَمَّم في موقع البقعة العمــيــاء (angle mort) ذلك المجال الذي يتعذّر إبصاره لأنّ زاوية الرائي تَقْصُر عن رؤيته رغم القرب منه.

ما ذُكر عن حياة الشيخ في نشأته وحفظه للقرآن الكريم وسعيه في رحاب جامع الزيتونة طالبا للعلم ومدرّسا ومتفقدا وإداريا أمرٌ هامٌ. كذلك كان الشأن بخصوص مسيرة الراحل العلمية في إشعاعها داخل الوطن بما أهّله لتولي خطابة الجمعة في العاصمة لسنوات ثمّ الإفتاء ورئاسة المجلس الإسلامي الأعلى في طور تأسيسه فضلا عن رئاسته للهيأة الشرعية لبنك البركة في فرعه التونسي وعضويته للهيأة الشرعية لمصرف الزيتونة في تونس. امتد حضور الشيخ السلامي خارج المستوى القُطري في مؤتمرات مجمع الفقه الإسلامي باعتباره خبيرا وممثّلا قارًّا لتونس.   يتصل جانب ثالث من مآثر الراحل بما تركه من إنتاج مكتوب اهتمّ بجملة من القضايا كالأسرة والمجتمع وواقع التعليم وإصلاحه مع عناية مركّزة بالبحث في المقاربة الخاصّة بعلم المقاصد لأهميته في كلّ مسعى اجتهادي.

هذه التفاصيل وغيرها كثير حَـريّة بالاعتناء لكنّها تظلّ قاصرة عن تقديم واجب التقدير الموضوعي المُسَدَّدِ الذي يحتاجه الشيخ الفقيد ضمن كامل «المنظومة» التي احتضنته وسارت به وبأقرانه ومكّنت للوطن المناعة والاقتدار.

إسهامنا يتّجه إلى تخطّي البقعة العمياء بالنظر الأوسع الذي يرى في الشيخ الراحل قامةً من قامات «نظام حاضن» يعتبره البعض «تقليديا» أي جامدا انقضى زمانه واستنفد أغراضه. تساؤلنا عند تخطّي «الشخصنة»: هل كان الراحل يسعى لأن يُـبَـيّـئَ مسيرته في «منظومة» ذات مصداقية وقدرة على التنامي والاستمرار؟ وهل كان له قصد في تفعيل تلك المنظومة لرفع الإجهاد الذي أصابها في نظرتها لذاتها ومكوّناتها ومستقبلها؟ بمعنى آخر: هل يمكن القول إن الشيخ السلامي لم يكن راضيا أن يُعتبر آخر عمائم تونس؟

3 - تتعلّق الإجابة الأولى بآخر آثار الشيخ القليمة والتي عنونها بـ«نهج البيان في تفسير القرآن». يذكر الشيخ السلامي في المقدّمة أنّ الذي دفعه للتأليف هو توفير تفسير مُيسَّر للمسلمين الذين يجدون صعوبات في الفهم عند عودتهم لما يروج من مؤلّفات تفسيرية تتطلّب قدرا من التخصّص في علوم النحو والبلاغة وأصول الفقه وغيرها. الغرض هو النفاذ إلى إدراك المراد من النصّ القرآني بتجاوز الحاجز المصطلحي الحائل دون «إدراك معاني القرآن إدراكا سليما ينفذ إلى عقولهم وإلى مشاعرهم وإلى أرواحهم فتُشِعُّ على حياتهم طمأنينة ورضوانا وسعادة وسلاما».

هذا إنتاج تفسيري لا يتجاوز التراث المعرفي اللغوي والأصولي لكنّه يجعل هـَمـَّه إيصالَ معانيه لمن اتسعت آفاق تفكيرهم من «مهندسين وأطباء وصيادلة وحقوقيين تعلّقوا تعلّقا كبيرا بالقرآن يتلونه ويشعرون شعورا مجملا بجلاله دون بيان معانيه وهديه الراشد ...لتعميق إيمانهم بطريقته في الدعوة إلى الله». ثمّ يختم الشيخ، رحمه الله، قائلا «ولم أجد فيما أعلم من راعى في تفسيره ذلك». يتأسّس «نهج البيان» على إدراك موضوعي للفجوة الكبرى بين ما تمّ إنجازه من مدوّنة تفسيرية وبين القيم والمفاهيم والروابط التي أصبحت تصوغ الواقع وتحكم العالم من حوله وحرص الراحل المتأكد لردمها دعما لمصداقية التواصل وتناميه.

4 - في نصّ ثان للشيخ السلامي نشره أيّامَ شبابه صحبةَ ثلاثة من أقرانه من الزيتونيين بعنـوان «التعليم الزيتوني ووسائل إصلاحه». يختلف هذا النصّ عن الأوّل موضوعا وأسلوبا لكنّه يلتقي معه في الروح ومنزع تكريس السنن والأعراف مع ما فيه من حسّ استشرافي. هو كالأوّل منشغلٌ بالإصلاح وبمقتضياته التواصلية والمعرفية في سياق الحاجيات المتأكّدة لمؤسسات المجتمع «لإحلال معاهدنا محلّ نظيراتها من معاهد التعليم الثانوية والعالية كيما تؤتي ثمارا يانعة من العلم والعرفان». ثمّ ينخرط النصّ في استعراض دقيق لعلل المؤسّسة وتحليل أسبابها ووسائل علاجها منتهيا إلى خاتمة جامعة ومعبّرة. في هذا نقرأ: «إنّ استمرار الزمان وتطوّر الأحوال يُكسب المؤسّسات القديمة صدوعا مهما كانت متانتها فإذا لم يُسْرَع في رأب الصدع وجبر الثلم جاءت الفترة التي يُعْجَزُ فيها عن مقاومة الانهيار فلا يُفيد الترميم». ثم يواصل محدّدا غاية الإصــلاح في: «إنّنا نستطيع أن نكوّن من الزيتونة، إن أصلحناها، جامعة إسلامية كبرى تنشر الثقافة في ربوع شمال إفريقيا وتشارك الجامعات العالمية الأخرى في رفع المستوى العقلي لدى الشعوب وبناء القيم الإنسانية المثلى». عناية خاتمة النصّ المحرّر سنة 1953 تتّجه إلى أمرين: الربط بين طبيعة التعليم الزيتوني المنشود وبين الخاصية المعرفية والأخلاقية، وتجنُّب الوقوع في المحظور المؤدّي إلى اعتباره عِبئًا وهيكلا متهالكا. في هذا ينبّه الشاب مع زملائه إلى أنّ: «المعهد الزيتوني الذي ما تزال الأمة ترسل بناشئتها إليه وتنتظر منه أن يمدّها بالدين والأخلاق والمعرفة» يوشك أن يصير من الماضي المُدبر المُفضي إلى « الاختفاء المتدرّج بتكاثر المعاهد الثانوية العصرية ويُتربّص به الأجل المحتوم بإيجاد الجامعة الحديثة».

5 - ما سجّله الزيتوني الشاب مع زملائه منذ عقود عبّر عن قدرة على التوقّع الصائب لما يهدّد مكانة الجماعة وإجماعاتها لكن ما أوردته أقلام حــــديثة لا تشي برؤية نقدية لما وقع في هذا الخصوص بتواصل الإعراض عن البعد المؤسّساتي الحاضن الذي أكسب الراحل كامل قيمته والاكتفاء باعتباره شخصية علمية انقرضت كما سبـــق لأقــرانها أن انقرضوا. هو خطاب ينحو للقطيعة والإغضاء: قطيعةٌ مع «المنظومة» بمؤسّساتها متغافلة عن معناها ومهامها وإغضاءٌ عن مُراجعة الموقف منها ومن مشروعها القادر على تحصين أجيال مهدّدة بالتصحّر الروحــي والمعرفي وبتفكّك الروابط القيمية والفكرية والمجتمعية.  

هذا ما يسمح بالتطرّق إلى جانب ثالث يستدعيه واجب التقدير الموضوعي المُسَدَّدِ للحديث عن الراحل بصفته مفتيا للجمهورية. في هذا لا بدّ من التساؤل: كيف فات الذين كتبوا عنه أنّ تونس فقدت برحيله الرجل الذي تولّى أطول فترة خطّة الإفتاء في العهد الجمهوري؟ لقد تولّى الخطة 14 سنة (من 1984 إلى 1998) وغادرها، دون سبب مُعلَن بما يطرح سؤالا عن دلالة هذا الامتداد البيّنٌ لحضور عمامة الإفتاء في عهدين للجمهورية مُختلفَيْن ثمّ استبعادها دون سبب واضح.

6 - تتحدّد أهميّة المسألة في الإشكال التونسي/ العربي القائم إلى اليوم: علاقة السياسي بالديني أو صلة القصر بالعمامة؟ في هذا ينبغي التذكير بأن منصب مفتي الجمهورية أُحدث في تونس سنة 1962 لتنقيح أمر سابق صادر سنة 1957 اقتضى إحداث خطّة مفتي الديار التونسية . تتمثّل أهمية شهادة الشيخ السلامي خاصّة إزاء هذا التحوّل من مُفتٍ للديار التونسية، وهو الموصول بانتظام مجتمعي وواقع حضاري، إلى مُفتٍ للجمهورية مرتبطٍ بالدولة ونظامها السياسي في الحكم، فيما يفيده الشيخ مع من سبقه من شيوخ في اتصال بكامل منظومته المؤسّسية في معناها السياسي والرمزي.

سياسيا، قَبِل الشيخ السلامي أن يدعم الدولة واختياراتها، كما أسهم أقرانه من رجال الإفتاء قبله مع قسم هام من رجال الزيتونة، في المشروع الوطني التحديثي لسنواتٍ دون نزوع للمنافسة أو العداء. كان ذلك رغم إعراضِ النظام الجديد في إصلاح المنظومة القديمة.

7 - هنا تتأكّد القيمة الرمزية لشهادة الشيخ السلامي مع ما يمكن أن تعنيه مستقبلا. في علاقة السياسي بالديني تصبح عمامة الشيخ مقطعا من سردية بديلة تتضمّن رؤيةً للعالم والحياة وللذات تلتحم فيها أبعاد ثلاثة. بُعدٌ قديم، تكشفه اللغة (عُمِّمَ الرجلُ: سُوِّدَ أي صار سَيّداً مُقَدَّماً في قَوْمِهِ لذلك قيل: «العمائمُ تيجان العرب») وبُعدٌ رسالي يُعلي ويجمع بين العلم والعمل حيث يقول الرسول عليه السلام: «الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى» وفي حديثٍ آخر: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها». معهما بُعدُ السالكين الذين يعتمدون العمامة كَفَنًا استشعارا بالموت الذي ينبغي ان تستحضره النفوس مواجهةً لدواعي الغرور والطمع. من تنافذ السيادة والتميز العربيين بالعلم والكدح الرساليين وتراكمهما مع ما غرسه أصحاب الطريقة يتعذّر على العمامة أن تقبل الاندثار أو أن تُستتبَع نهائيا للقصر ولمالكه.

من ثَم يعسر اعتبار الشيخ السلامي «آخر الرجال المحترمين» الذين يرفضون إنتاج تَديُّنٍ على مقتضى السياسة رغم ما يوجد بينهما من مُشتَرَك باعتبارهما من مستويات المعرفة والعمل والتميز. ذلك لما تكتنزه العمامة من تَوْقٍ وآفاقٍ تظلّ أَرْحَبَ من القصور رغم تدافع الساعين إليها.

د. احميده النيفر

جـامعي وعضو بيت الحكمة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.