فـــي هـــشــاشــة النـــمـــوذج الديــمــقــراطـي التـــونسـي

فـــي هـــشــاشــة النـــمـــوذج الديــمــقــراطـي التـــونسـي

ما عاشته تونس في الفترة الأخيرة من أحداث: التصويت على تنقيح القانون الانتخابي قبل مدّة قصيرة من إجراء الانتخابات والجدل حول المحكمة الدستورية إثر الوعكة الصحية لرئيس الجمهورية، كل ذلك يطرح تساؤلات حول مدى هشاشة النموذج الديمقراطي التونسي، وضرورة تحصينه من كل المخاطر المحدقة به.

لا شك أنّ ثماني سنوات فترة وجيزة  في عمر أيّة ديمقراطية تجعل تقييمها بشكل شامل وموضوعي أمرا صعبا. وتونس التي تحرّرت منذ 2011 من ربقة الدكتاتورية نجحت إلى حدّ الآن في الحفاظ على المسار الديمقراطي عبر تنظيم الاستحقاقات الانتخابية في آجالها المحدّدة، واحترام التعددية الحزبية والتداول على السلطة، ناهيك عن تفادي سيناريو الحرب الأهلية في 2013 والخروج من الأزمة بانتهاج سبيل الحوار. ولكن ذلك لا يجب أن يخفي المشــــاكل العــديدة التي تعـــاني منها البلاد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأمني وحتى السياسي، ممّـــا يجعل نمـــوذجها الديمقراطي عرضــــة للخطر الدائم. وما حصل خلال المدة الأخيرة ليس إلاّ دليلا على مــدى التحديات التي تواجهها هذه الديمقراطية الناشئة والوحيـــدة في العالم العربي، وعلى ضــــرورة التحلّي بالحذر لحمايتها ممّا يتهــــدّدها.

التداخل بين الجمعياتي والسياسي

أحدث ظهور مبادرات جمعياتية يطمح أصحابها  للترشح للانتخابات لقادمة زلزالا في المشهد السياسي في تونس، حيث لم تتعوّد الطبقة السياسية أن تجد لها منافسا من المجال الجمعياتي، يحظى بدعم شعبي كبير قد يؤهله للحصول على مقاعد في البرلمان القادم وحتّى الوصول إلى قصر قرطاج برفع شعار تغيير الأوضاع في البلاد. فنشأة مبادرات مثل «عيش تونسي» لألفة التراس، أو جمعية «خليل تونس» التي اتخذها نبيل القروي ركيزة لبعث حزب سمّاه «قلب تونس» وتوجهها مباشرة إلى الطبقات المحرومة والمهمّشة من الشعب التونسي، بيّنت مدى عدم ثقة الشعب في الطبقة السياسية مقابل ثقته في المجتمع المدني. ولكنّ اللافت للنظر في هاتين المبادرتين أنّهما انطلقتا من رحم العمل الجمعياتي لتتطوّرا نحو العمل السياسي وهو ما خلق جدلا كبيرا لدى الرأي العام حول مدى مشروعية هذا التمشّي. ولا يحب الاستهانة بما حقّقته مثل هذه المبادرات من شعبية، فـ«عيش تونسي» جمعت إلى حدّ الآن 720.000 توقيع على مبادرتها (حسب الأرقام التي صرّحت بها)، في حين أنّ جمعية «خليل تونس»أعلنت على موقعها أنّها قدمت 500.000 خدمة للتونسيين المحتاجين. وقد بيّن سبر الآراء الأخير الذي قامت به وكالة سيغما كونساي في جويلية أنّ حزب «قلب تونس» لنبيل القروي يتصدّر نوايا التصويت في الرئاسية والتشريعية بنسبة 29 % بعيدا عن النهضة بنسبة 15% والحزب الحر الدستوري لعبير موسي 12%. أمّا «عيش تونسي» فقد تحصّل على 7 % من نوايا التصويت ليتموقــــع مبــــاشرة بعـــد حــــزب «تحيا تونس» (8 %)، حـــزب رئيس الحكــومة يوسف الشاهد.

فلا ينبغي، بالتالي،الاستهانة بوزن هذه الجمعيات، التي عرف مؤسّسوها كيف يستفيدون من الدروس المستخلصة من الانتخابات البلدية والتي كرّست صعود المستقلين القادمين أساسا من المجتمع المدني، على حساب الأحزاب السياسية. يبقى الإشكال هو التحوّل من العمل الخيري إلى العمل السياسي الذي يفضح في طياته عملية تلاعب بالديمقراطية وتحيّل على التونسيين وتوظيف حاجتهم لاستعمالها لأغراض انتخابية.

وعلى قدر غرابة هذه الظاهرة الجديدة في النموذج الديمقراطي التونسي، جاءت ردّة فعل الأحزاب السياسية الحاكمة (تحيا تونس والنهضة ونداء تونس)، حيث سارعت، بعد نشر سبر آراء أثار جدلا كبيرا ووضع نبيل القروي على رأس المرشّحين للفوز بسباق الرئاسية، إلى إدخال تنقيحات على القانون الانتخابي ودفع البرلمان للتصويت عليها. عملية أثارت شكوك العديد من التونسيين حول الغرض الحقيقي من هذه التنقيحات التي اعتمدها مجلس نواب الشعب على عجل  بعد التصويت عليها بـ 128 صوتا. فلئن بدت

تنمّ في ظاهرها عن حرص على الدفاع عن نزاهة الانتخابات من قبيل اقتراح تعديلات تمنع من الترشّح كلّ من استفاد من الإشهار السياسي أو ثبت قيامه بخطاب لا يحترم النظام الديمقراطي ومبادئ الدستور ويدعو إلى العنف والتباغض بين المواطنين، فإنّها تحمل في طياتها إقصاء للمعارضين السياسيين، وتحديدا «المنافسين الجدد في السباق الانتخابي».

هذه التعديلات التي قبلتها الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين شكلا ورفضتها أصلا، تأتي قبل ثلاثة أشهر من تنظيم الانتخابات وتفضح رغبة في التحكّم في العملية الديمقراطية وتضييق المجال السياسي. وذلك لا يمكن أن يكون علامة صحية بالنسبة إلى النموذج الديمقراطي التونسي. فاللعبة الديمقراطية تفترض أنّ مجال المشاركة في العملية الانتخابية مفتوح لكل مواطن تونسي تتوفّر فيه شروط الترشح لذلك. ولا يمكن أن يتمّ تعديل القانون الانتخابي في تقديرنا في اللحظات الأخيرة ليكون على مقاس جهة سياسية دون أخـــرى أو يــــتم استعمــــاله أداة لإقصاء المنافسين.

المحكمة الدستورية دعامة البناء الديمقراطي

في خضمّ هذا الجدل السياسي الذي أثاره تعديل القانون الانتخابي، جاء جدل آخر عمّق الانقسام داخل المشهد السياسي التونسي غداة الانتخابات، وهو انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. فعلى الرغم من البلبلة والخوف اللذين أحدثهما تعكّر الحالة الصحية لرئيس الجمهورية وإشاعة وفاته ممّا جعل الجميع ينتبه إلى أهمية إرساء هذ المحكمة، وضرورة الحسم في الأمر قبل العطلة البرلمانية، تواصل الصراع حول اختيار أعضاء هذه المحكمة من قبل البرلمان، نظرا إلى سعي كلّ  جهة سياسية إلى وضع أشخاص يدينون بالولاء لها حيث تجدّد كلّ مرّة سيناريو الانقسامات حول اختيار شخصيات بعينها تساندها جهات سياسية وترفضها أخرى مثل شخصية المحامي والمناضل العياشي الهمامي أو شخصية الحقوقية سناء بن عاشور، وبذلك استمرّت لأشهر عديدة  عقلية الإقصاء وتغليب المصالح الحزبية الضيّقة على المصلحة العامة، في تأكيد مرّة أخرى على هشاشة النموذج الديمقراطي التونسي، في حين نصّ الدستور التونسي على ضرورة تركيز المحكمة الدستورية بعد سنة من تنظيم الانتخابات التشريعية في سنة 2014، بالنظر إلى أنّ ترسيخ دعائم الديمقراطية يمرّ أساسا عبر استكمال تأسيس الهيئات الدستورية. والمحكمة هي الجهة القانونية الوحيدة المخوّل لها مراقبة دستورية القوانين وتقرير من يمسك بزمام الحكم في حالة الشغور المؤقّت أو الدائم في منصب رئيس الجمهورية. وهي تتكوّن من 12 عضوا، يُنتخب أربعة منهم من قبل البرلمان ويُعيّن أربعة آخرون من طرف المجلس الأعلى للقضاء ويُعيّن الباقي من قبل رئيس الجمهورية. ويكون التعيين لفترة واحدة مدّة تسع سنوات مع تجديد ثلثي الأعضاء كلّ ثلاث سنوات. ويجب أن يكون ثلاثة أرباع أعضاء المحكمـــة الدستورية من المختصين في القانـــون.

تبقى نقطة الضوء الوحيدة في خضمّ هذه الصراعــــات والانقـــسامات السياسية، هي النجاح في إنقاذ الاستحقاقات الانتخابية  عبر ضمان تنظيمها في آجالها الدستورية، بعد إمضاء رئيس الجمهورية على الأمر الرئاسي المتعلّق بدعوة الناخبين للانتخابات التشريعية والرئاسية.

حنان الأندلسي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.