رشيد خشانة (*) - أربعينية السفير الراحل قاسم بوسنينة : مسيرة دبلوماسية استثنائية (ألبوم صور)

نلتقي اليوم لإحياء أربعينية رجل الدولة والوطني الغيور، المغفور له السفير فوق العادة قاسم بوسنينة الذي غادرنا يوم 26 فيفري الماضي، بعد حياة حافلة بالعطاء والفعل، قبل أن تنطفئ شمعتُها الأخيرة في سن الثانية والتسعين.

لقد أفنى الراحل العزيز عمرا بأكمله في خدمة القضايا الوطنية، منذ عودته من الدراسة في جامعة بيروت العربية، حيث تتلمذ على كبار أساتذة التاريخ، وفي مقدمتهم الدكتور قسطنطين زريق، وتوج دراسته بنيل الإجازة في التاريخ. ولاشك أن هذا التكوين العربي المُبكر هو الذي رسخ تمسكه بالهوية العربية والاسلامية في جميع الخيارات والمواقف التي اتخذها. إن رحيل رجل بهذه القامة والصفات والقُدرات، خسارةٌ كبرى لتونس لا تُقدر بثمن. وأستسمحكم في التذكير ببعض المحطات الكبرى في مسيرة الفقيد، واليا وسفيرا فوق العادة وكاتب دولة، وأيضا في المجتمع المدني رئيسا لجمعية أهلية. وسيُقدم زملائي لمحات عن المسيرة الخصوصية للفقيد كوال وكبرلماني وكديبلوماسي.

***

انطلقت مسيرته السياسية من الإتحاد العام لطلبة تونس فرع بيروت. وبعد عودته إلى تونس، تولى في بواكير الستينات منصب معتمد أول في ولاية القصرين، التي تُعتبر من مناطق الظل، فانبرى يُساعد على بعث المشاريع التنموية، ويجتهد لتحسين أوضاع الأسر الريفية، التي كانت تمثل غالبية سكان الجهة.

ثم شغل منصب كاتب عام لجنة التنسيق الحزبي بصفاقس، في مرحلة دقيقة وحرجة، كان يمرُ بها الحزب، على إثر تعميم التعاضد. غير أن الأستاذ قاسم تعاطى مع الأمر بكثير من التروي والرصانة والثقة بالنفس. وما لبث بعد مدة وجيزة، أن عُين واليا على الجهة نفسها (صفاقس). ومن هناك إلى نابل واليا أيضا، على رأس جهة كانت بحاجة لرعاية خاصة، سياسية وإدارية، بالنظر لعدد المشاريع، التي كانت بصدد الانجاز آنئذ، خصوصا في السياحة.

كما تقلد منصب الوالي رئيس إقليم تونس الكبرى، قبل تقسيمه إلى أربع ولايات هي أريانة وبن عروس ومنوبة وتونس، وهذه مسؤولية جسيمة، لا سيما في فترة اتسمت بصراع مرير بين الحكومة واتحاد الشغل. ومن المهم في هذا الصدد أن أشير إلى تولي المرحوم منصب والي الولاة بوزارة الداخلية. وسيُحدثنا عن هذه المرحلة حديث المُجرب والخبير، الأخ عبد الوهاب الجمل الوالي السابق ورئيس جمعية الولاة، وهو أيضا منسق اللجنة التحضيرية لهذه الأربعينية.

***

بعد ذلك انضم الفقيد إلى الحكومة في 1989 في منصب كاتب الدولة للشؤون الدينية، بعد إحداث كتابة الدولة في تلك السنة، قبل أن ينضم إلى مجلس النواب في العام الموالي. وكانت له تجربة متميزة داخل الحزب الاشتراكي الدستوري، بمناسبة مؤتمر "وفاء وتقدم" في سبتمبر 1979، إذ حل في المركز الثاني بين الفائزين بعضوية اللجنة المركزية للحزب، بـ641 صوتا، ولم يتقدم عليه في الترتيب سوى المرحوم الأسعد بن عصمان، الذي سبقه بخمسة مراكز فقط. ويدل هذا الفوز على الشعبية والمصداقية اللتين يحظى بهما في سائر جهات البلاد، وليس فقط في الولايات التي ترأسها. 

***

انتقل فقيدنا من السياسة والادارة المحلية إلى عالم الدبلوماسية في أواخر السبعينات، إثر تسميته سفيرا لدى المملكة العربية السعودية، وأُنيطت به أيضا سفارات تونس بكل من السودان والجمهورية اليمنية (الشمال) وجمهورية اليمن الديمقراطي (الجنوب) وسلطنة عُمان، مع الاقامة في جدة ثم في الرياض. وأتاح له اعتماده سفيرا فوق العادة في هذه البلدان الخمسة اللقاء بزعماء تلك البلدان والتعرف عليهم مباشرة. وقد أمضى في هذا المنصب، أي سفير لدى المملكة، أحد عشر عاما، من 1978 إلى 1989 في فترة أولى، وثلاث سنوات في الثانية من 1991 إلى 1994.

لا يمكن أن تُمحى أيضا بصمته الخاصة من جامع مالك بن أنس بقرطاج، إذ طاف على الأمراء ورجال الأعمال السعوديين، وقدم معظمهم تبرعات مُعتبرة، إكراما له وثقة في نزاهته ونظافته، إلى أن استوت تلك التحفة المعمارية على الصورة التي نراها اليوم.

ووظف معرفته الشخصية بأصحاب القرار من الوزراء والأمراء وتقديرهم له، من أجل خدمة تونس والحصول على دعم لإنجاز مشاريعنا التنموية. ومن بصماته التي لا يمكن أن تُمحى دوره المحوري في إقامة معرض الحرمين الشريفين في تونس، الذي كان حدثا اقتصاديا وسياسيا بارزا، فقد دشنه الملك سلمان بن عبد العزيز، وكان إذاك أمير الرياض بمعية زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية وقتئذ.

وما زلت أتذكر كيف اتصل به هاتفيا أحد كبار رجال الأعمال التونسيين بعد غلق باب السفر إلى الحج، وطلب منه بكل إلحاح أن يتدخل لدى السلطات السعودية، بعد أن توقفت الرحلات نهائيا، من أجل السماح له باللحاق بالبيت الحرام بطائرته الخاصة. وبالرغم من الحرج الذي يُسببه مثل هذا الموقف، طلب السفيرُ أن يتحدث إلى وزير الدفاع والطيران الأمير سلطان، فلم يجد منه إلا القبول قائلا "أبشر سعادة السفير". هذا قُماش الطيبين من أمثال هذا السفير الخدوم الذي لا يردُ أحدا قصده.

ومن أمارات النجاح الذي حققه في السعودية اختيارُه عميدا للسلك الدبلوماسي بالرياض، وهي مهمة أنجزها بكل اقتدار مُستخدما سياسة الانفتاح على جميع الأوساط، بكل حرفية وسلاسة. ولا يمكن أن نتعرض لمساره سفيرا في السعودية، من دون الاشارة إلى إشرافه شخصيا على بناء إقامة سفير تونس بالرياض، فأتت صُنعا تونسيا خالصا، إذ استخدم فيها المواد التونسية المُميزة، وكانت في عهده حقا دارا لكل التونسيين.

ولا يفوتني أن أشير إلى رأي الرئيس الحبيب بورقيبة في خصاله، إذ كتب بقلمه على صورة للسفير قاسم، هذه الكلمات: إلى مقام ابني السيد قاسم بوسنينة سفير تونس بالمملكة لعربية السعودية، مع إكباري لمجهوده الجبار في أداء وظيفته على الوجه الأكمل وتمنياتي له بالصحة والتوفيق. يوم السبت 3 جانفي 1981.

***

وبالرغم من تقاعده في سنة 1995 واصل حركته الدؤوبة في خدمة الوطن، بتشجيع المستثمرين ومرافقة رجال الأعمال التونسيين في البحث عن تمويلات لمشاريعهم من منطقة الخليج. ولعل أكبر إنجاز حققه بعد التقاعد هو تأسيس جمعية البرلمانيين التونسيين، التي تولى رئاستها إلى حين مرضه، وقد منحها معظم وقته وجهده، سواء من خلال الندوات الهامة التي نظمها في إطارها، مثل الندوة الدولية عن حوار الحضارات، التي أصدر أعمالها في كتاب بثلاث لغات، أو من خلال لقاءاته وجلساته مع أعضاء الجمعية.

***

لقد خدم قاسم بوسنينة الوطن في جميع المواقع التي شغلها، وتستحق مسيرته الخصيبة أن تكون مثلا يُحتذى من ديبلوماسيينا الشبان، وتستأهلُ أيضا إطلاق اسمه على شوارع أو مدارس في الولايات الخمس التي ترأسها وأنجز فيها ما أنجز. إن حياة الكبار لا تنتهي بمجرد رحيلهم، إنما ينتقلون بأجسادهم، وتبقى مواقفهم وعطاءاتهم وأخلاقهم، وفقيدنا من هؤلاء.
رحم الله العزيز قاسم، وألبسه لباس العفو والغفران، وألهمنا الصبر الجميل على فراقه.

* الكلمة التي ألقاها الزميل رشيد خشانة باسم أصدقاء الفقيد، في موكب الأربعينية، الذي أقيم بمقر ودادية خريجي المرحلة الثالثة بالمدرسة القومية للادارة يوم 11 ماي 2024