في ثقـافة الرّبـح السّريـع والمـال السّــهــل
يتعجّب المرء وهو يشاهد طوابير طويلة من البشر يصطفون على أعتاب جهاز إلكتروني في مدخل فضاء تجاري كبير، وتراهم منضبطين ينتظر كلّ واحد منهم دوره بصبر وأناة. تخالهم يتحمّلون هذا الجهد، الذي يستغرق منهم وقتا طويلا، بهدف قضاء شأن حياتي متأكّد يستحقّ العناء دون مظاهر الضجر والتوتّر التي تسود طوابير الانتظار أمام شبابيك الإدارات والمستشفيات... والواقع أنّ القوم يكابدون من أجل التسجيل في قرعة يجريها الفضاء التجاري بمناسبة عيد ميلاده، الذي يحتفل به أكثر من مرّة في السنة الواحدة، ابتغاء الفوز بسيارة أو جوائز أخرى... إنّها لعبة الحظّ الآسرة التي تمتلك الناس فتراهم ينجذبون بسحرها طائعين ومستسلمين لاهثين خلف بارقة أمل هي أقرب إلى السراب الخُلَّب يحسبه المرء ماءً، ويبذلون جهدا ماديا ومعنويا وفي أحيان كثيرة يقفزون من أجل ذلك في المجهول...
الإنســان المــال حـــبّا جــمّا. وهو ميّال بطبعه إلى اختـــصار المسافات وادّخار الجهد والسعي إلى الربح السريع. لذلك عرفت البشرية منذ القديم القمار والرّهان والرّباء والتداين والاحتيال...ومع هيمنة ثقافة الاستهلاك الجماهيري على المجتمعات الحديثة، تعدّدت الاختيارات والمغريات، وتفنّنت أجهزة التسويق والإشهار في تحويل العديد من المنتجات والخدمات غير الضرورية إلى حاجيات حياتية مُلِحّة، فاتسعت دائرة التطلّعات وتجاوزت حدود الإمكانيات فجنح الإنسان إلى استنباط مسالك للالتفاف وانتهاج مبدإ الغاية تبرّر الوسيلة. واجتهدت القوى الاقتصادية في ابتكار الحلول لهذه المعضلات كالتقسيط والتخفيضات والتوفير ومسابقات الحظّ...
كما أنتج النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحالفا دوليّا بين قوّى المال والاتّصال والترفيه يقوم على مبدإ الربح الذي ينتج مزيدا من الربح. فظهرت شبكات الألعاب الالكترونية التي حوّلت العالم إلى كازينو عملاق تسكنه جماعات «ألعاب الأدوار متعدّدة اللاعبين» jeux de rôle massivement multi-joueurs
ولقد انتشرت في أوساط شبابنا اليوم ألعاب رهان رياضي إلكتروني عابرة للحدود ومخترقة لكلّ القوانين والتشريعات المحليّة والدّولية من قبيل «ايكسبات» و«بلانات وينر» وهي فضاءات افتراضية تجمع فريقا ضخما من اللاعبين «المُعَولَمِين» حول رهانات شاملة تضمّ كل ما يمكن المراهنة عليه من مباريات كرة القدم وصولا إلى الانتخابات...
ولسحر ألعاب الحظّ الجماهيرية والرهان والقمار نفوذ كبير. كما أنّ لها ثمنا اجتماعيا باهـــضا، ذلك أنّ «اللعــب المــــرضي» Gambling ينتج ما يسمّى بـ «الإدمان دون مادة» (Addiction sans substances)، فكم من أسرة تَفرَّق شملها بسبب الرهان على جواد خاسر، وكم من حياة تبعثرت أوراقها على طاولات ألعاب الورق...! ولئن حرّمت الأديان هذه الممارسات وجرّمتها القوانين الوضعية فإنها لم تستطع القضاء عليها. ومن بين المفارقات العجيبة في مجتمعاتنا انتشار القمار في سهرات رمضان.
لقد أضحــــى الركـــض وراء الربح السريع لكسب المال السهل سلوكا سائدا في جميع الأوساط والفئات، يتنافس فيه المتنافسون كلّ حسب طاقته والإمكانيات المتاحة له. كما تعدّدت مظاهره في المؤسّسات العامّة والخاصّة وفي الشوارع والساحات. وزادت في تكريسه وتعميقه ثقافة جماهيرية تقوم على تسويق الأحلام وترويج الأوهام، من قبيل: إرسالية صغيرة إلى قناة تلفزيونية تكفي لكسب الملايين، الإجابة على أسئلة بسيطة تكفي لربح عمرة أو رحلة سياحية...ورقة رهان رياضي قادرة على تغيير حياة الإنسان...
ومن أسباب هذه الظاهرة التراجع الواضح والمتزايد الذي تشهده قيمة العمل في ظلّ هيمنة ثقافة الاستهلاك. لقد أصبحنا نعاين انتشارا لعقلية الجهد الأدنى والطريق المختصر. وباتت التنشئة الاجتماعية وأنماط التعليم نفسها تشجّع على ذلك من خلال الدروس الجاهزة والتقييم السريع والسطحي، وغياب تنمية القدرة على التحمّل لدى الناشئة، والمكافأة على قدر الجهد. ثمّة انسياق عامّ نحو تكريس التواكل والكسل. ويبدو أنّ عصر المثابرة والاجتهاد الذي كان شعاره «وما نيل المطالب بالتمنّي» قد انتهى ليحلّ محلّه عصر الاستسهال والسرعة وثقافة «مشّي أمورك» و«دبّر راسك» و«سَلّْكها» و«دز تخطف»...
من جهة ثانية تشكّل صعوبة الوضع الاقتصادي وانسداد الآفاق وعدم قدرة آليات الرعاية الاجتماعية على مواكبة التحوّلات بيئة ملائمة لبروز ظواهر «التحايل على المعاش»،كما يسمّيها بعض الباحثين الاجتماعيين، ويقصد بها انتهاج مسالك موازية لتوفير مستلزمات العيش، بعضها مشروع وبعضها الآخر فيه احتيال وغشّ.
كما أنّ ارتفاع نسق الاستبعاد الاجتماعي يساهم بقدر كبير في الدفع بجانب من المهمّشين إلى اكتساح الفضاء الاجتماعي العامّ، ومن مظاهره تزايد أعداد المتسوّلين الذين انتشروا في أغلب الأماكن بشكل مخجل للمجتمع برمته. ترى رجالا و نساء وأطفالا في صحّة ظاهرة وسنّ غير متقدّمة يرابطون لوقت طويل أمام أبواب المغازات و المطاعم وفي مفترقات الطرقات يستجدون حسنات لا يبخل بها الكثيرون. وتسأل نفســـك لماذا لا يسعون إلى كسب الرزق بكدّ اليمين وعرق الجبين؟ فتجد جزءا من الجواب فيما تطالعك به الأخبار عن تفكيك شبكات التسوّل المنظّم وما تدرّه على أصحابها من مغانم وفيرة.
ثقافة الربح السريع والمال السهل تستبيح القيم وتمتهن الكرامة، وهي طريق مسدود نهايته وخيمة اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا. لذلك نحن بحاجة إلى استفاقة حقيقية والوعي بضرورة نشر ثقافة الجهد والعمل والجدارة. وهي ثقافة تبدأ من القاعدة أي من التنشئة العائلية، وتتواصل في مختلف المجالات التنموية الشاملة التي توسّع من فرص المشاركة والاندماج الاجتماعي والتمكين، وتحد من نزعات الكسل والتهاون والتواكل والانتظار واللامبالاة.
د. منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق