محمد ابراهيم الحصايري: تونس وجامعة الدول العربية (4 من 4)
في أفق القمة العربية الثلاثين التي يُنْتَظَرُ أن تحتضنها بلادنا في أواخر شهر مارس 2019، تنشر "ليدرز العربية"، في خمس حلقات، هذه الدراسة التي أعدّها السفير السابق ومستشار هيئة التحرير محمد إبراهيم الحصايري، والتي تتضمّن قراءة في تاريخ وخصائص العلاقة التي ربطت بين تونس وبين جامعة الدول العربية منذ إنشائها، وذلك من باب الذكرى علّ الذكرى تنفع في الإعداد للقمة القادمة، باستلهام النهج المبدئي والعقلاني والجريء الذي كان يميز، باستمرار، المقاربة التونسية للقضايا العربية، وللعمل العربي المشترك.
وفيما يلي الحلقة الرابعة من هذه الدراسة وهي تتطرق إلىأهم مميزات الرؤية التونسية للعمل العربي المشترك
مميزات الرؤية التونسية للعمل العربي المشترك
إن الواقعة التي دشّنت بها تونس التحاقها بجامعة الدول العربية تدل على أن تونس كانت لها منذ البداية رؤيتها الخاصة للجامعة وللمهام التي يفترض أن تضطلع بها، والشروط التي ينبغي أن تلبّيها حتى تضطلع بها على الوجه المطلوب.
وهذه الرؤية التي عبرت عنها تونس بكل وضوح قبل ستين سنة رافقت باستمرار تعاطيها مع الجامعة ومع العمل العربي المشترك، وهو ما يمكن استخلاصه من مجريات القمّتين العاديتين اللتين احتضنتهما على التوالي من 20 الى 22 نوفمبر 1979 ومن 22 الى 23 ماي 2004.
ولعله من المفيد هنا أن نذكر بأن جامعة الدول العربية عقدت منذ نشأتها في 22 مارس 1945 ما مجموعه 41 قمة، منها 29 قمة عادية و9 قمم استثنائية و3 قمم اقتصادية.
وبالمقارنة مع دول المنطقة، فإن تونس احتضنت قمتين اثنتين بينما احتضنت الجزائر ثلاث قمم، (1974 و1988 و2005)، أما المملكة المغربية فقد احتضنت سبع قمم في الرباط والدار البيضاء وفاس، وذلك على التوالي سنوات 1965 و1969 و1974 و1981و1982 و1985 و1989، وأما ليبيا وبالرغم من أن العقيد معمر القذافي كان يلقب بأمين القومية العربية فإنها لم تحتضن الا قمة يتيمة ومتأخرة هي قمة سرت التي انعقدت من 27 الى 28 مارس سنة 2010، أي بضعة أشهر قبل اندلاع ثورات ما يسمى بالربيع العربي، وبدورها احتضنت موريتانيا قمة وحيدة فيما بين 25 و27 جويلية 2016، بعد عن اعتذر المغرب عن احتضانها.
وتكشف القمتان اللتان احتضنتهما تونس عن أهم خصائص رؤية تونس للجامعة وللعمل العربي المشترك حيث أنهما تميزتا بالمميزات الأربع التالية:
أ) مَفْصَلية السياقات
سياق القمة الأولى: مثلما أسلفنا، انعقدت أول قمة احتضنتها تونس من 20 إلى 22 نوفمبر 1979، وكانت القمة العاشرة في تاريخ قمم جامعة الدول العربية وقد جاءت مباشرة بعد انتقال الجامعة إلى تونس على إثر القرار الذي اتخذته قمة بغداد التي انعقدت من 2 إلى 5 نوفمبر 1978 بتعليق عضوية مصر في الجامعة ونقل مقر الجامعة من القاهرة الى عاصمة عربية اخرى، ردا على ابرام القاهرة لاتفاقيات كامب ديفيد.
ومعنى ذلك أن هذه القمة التأمت في أعقاب منعرج خطير في تاريخ العالم العربي ذلك أن الخطوة المنفردة التي أقدمت عليها مصر احدثت شرخا لم يستطع الصف العربي تخطي تداعياته حتى اليوم.
وينبغي أن نلاحظ هنا أن اختيار تونس دون غيرها من العواصم العربية لاحتضان الجامعة بعد خروجها من القاهرة، جاء بمثابة الاعتراف بصوابية الرؤية المبدئية التونسية التي كان الحبيب الشطي عبر عنها في الخطاب الذي ألقاه قبل عشرين سنة في أول اجتماع عربي شاركت فيه تونس بعد انضمامها الى الجامعة.
سياق القمة الثانية: على الصعيد السياسي وبدورها جاءت هذه القمة التي كان من المقرر أن تنعقد يومي 29 و30 مارس 2004، غير أنها أرجئت إلى يومي 22 و23 ماي 2004، على إثر الزلزال الذي هز العالم العربي باحتلال العراق.
كما ينبغي التذكير بأنها جاءت بعد قمة شرم الشيخ التي انعقدت في غرة مارس 2003 وسط ظروف عربية بالغة السوء، إذ جاءت أياما قبل غزو العراق، وقد خرج العرب منها وهم في حال أسوأ مما دخلوها حيث شهدت في جلسة على الهواء تبادلا للاتهامات بين العقيد معمر القذافي وولي العهد السعودي، وأحدثت المبادرة الإماراتية التي اقترحت تنحي الرئيس العراقي صدام حسين من السلطة ردود فعل مختلفة بين القادة العرب، وكانت سبباً في اندلاع أزمة عميقة بين الإمارات والأمين العام للجامعة عمرو موسى.
أما على الصعيد الاقتصادي فقد جاءت بعد الهزة التي أحدثها صدور "تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2002" الذي قام بإعداده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو كما تقول ريما خلف (مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة، المديرة الإقليمية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمشرفة على إعداد التقرير) عبارة عن تشخيص دقيق لحال التنمية الإنسانية في الدول العربية، الهدف منه هو وضع السياسات والاستراتيجيات الكفيلة بإخراج المنطقة من الأزمة التنموية في المنطقة بناء على نتائجه.
وقد كشف التقرير خبايا الأحوال العربية الرديئة والمتردية، ليس في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية فحسب بل والسياسية والثقافية أيضاً، فقد رسم التقرير بالإحصاءات والأرقام صورة مظلمة عن الوضع العربي، وأكد أن المستقبل سيكون أسوأ من الحاضر ما لم يتم تدارك الأمور سواء من قبل الحكومات أو الشعوب.
وقد أثار التقرير لغطاً كبيراً في دوائر الإعلام العربي والعالمي، واستغلته بعض الأصوات الغربية كشاهد على بؤس العالم العربي وانعدام الأمل فيه (مثلاً النمو في دخل الفرد في المنطقة العربية كان الأدنى في العالم عبر العشرين سنة الماضية باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء، ويشير التقرير إلى أن متوسط نمو دخل الفرد خلال العقدين السابقين لم يتجاوز 0،5 بالمائة، ولو أخذنا هذا الأداء كمؤشر أو لو استمر هذا الأداء على ما هو عليه لاحتاج المواطن العربي، كما يشير التقرير، إلى 140 سنة ليضاعف دخله، بينما يتمكّن المواطن في مناطق أخرى مثل شرق آسيا أو الصين من مضاعفة دخله في غضون 10 أعوام فقط).
وتلخّص ريما خلف أسباب الأزمة التنموية في المنطقة العربية في ثلاثة أنواع من النقص هي: النقص في الحريات، حيث أن المنطقة العربية أو المواطن العربي هو الأقل استمتاعاً بالحرية مقارنة مع مناطق العالم السبع، والنقص في تمكين المرأة، حيث أن مشاركة المرأة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية متدنية بشكل كبير، والنقص في المعرفة.
ب) ريادية القرارات
نتائج القمة الأولى: علاوة على القرارات السياسية التي اتخذتها القمة خاصة فيما يتعلق بتجديد الإدانة العربية لاتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية والرفض القاطع لها ولكل ما يترتب عليها من نتائج وآثار، وبتطبيق أحكام المقاطعة على النظام المصري، وبالتأكيد على أن الصراع مع إسرائيل طويل الأمد، وهو عسكري وسياسي واقتصادي وحضاري، فإن ما ينبغي التوقف عنده هو الدعوة الى "الإسراع بتعديل ميثاق الجامعة فى اتجاه تقوية العمل العربى المشترك والعمل على إعادة بناء أجهزتها على أسس جديدة تكفل الفعالية والقدرة على التحرك بما يخدم تنمية القدرة العربية الذاتية ويؤول إلى تحقيق الوحدة العربية"، والتأكيد على أهمية "ترسيخ مبدإ العمل العربي المشترك فى جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والطلب إلى كافة المؤسسات العربية ذات الاختصاص الانطلاق من هذه القاعدة بما يؤدى إلى تكامل الإمكانات والطاقات العربية في مجالاتها المختلفة..."، وكذلك أهمية "تقوية العلاقات العربية الجماعية، وذلك بإزالة العوائق أمام تنفيذ الاتفاقيات الجماعية القائمة، وخاصة ما يتعلق منها بالجانب الاقتصادي، واتخاذ الإجراءات من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي لإنجاز الدراسات المتعلقة باستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك...".
وفيهذا الإطار دعت القمة إلى عقد دورة خاصة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي، تضم وزراء الخارجية والاقتصاد، وتتناول بالـ"بحث الأوضاع الاقتصادية في الوطن العربى وسبل التعاون المثمر والمستمر بين أقطاره بما يعزز وحدتها ويلغى مظاهر التباين الحاد بينها"، كما يتولى "وضع الأسس الصحيحة للعلاقات الاقتصادية العربية مع جميع بلدان العالم بما يضمن مصالح الأمة العربية ويقوى موقعها الدولى ويجعل علاقاتها الدولية أكثر وضوحاً واستقرارا".
وبالإضافة إلى كل ذلك أكدت القمة على القرارات السابقة بشأن "ضرورة عقد مؤتمر القمة العربى بصفة دورية خلال شهر نوفمبر من كل عام، على أن يكون اختيار المكان حسب الترتيب الهجائي للدول الأعضاء". والمؤسف أن جملة هذه القرارات لم تجد طريقها إلى التجسيم إلا في أواخر التسعينات من القرن الماضي أو العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين.
نتائج القمة الثانية: من بين الوثائق التي اعتمدتها هذه القمة وثيقة سمّتها "وثيقة عهد ووفاق وتضامن بين قادة الدول العربية" بهدف "ضمان مستقبل أفضل للدول العربية وشعوبها، وتجنب ويلات الفتنة والفرقة والتناحر، والعمل متضامنين ومتّحدين لتحقيق السلام العادل والشامل والدائم في منطقتنا، سلام يقوم على مبادئ الحق والعدل وقرارات الشرعية الدولية واسترجاع الحقوق العربية المشروعة والأراضي العربية المحتلة" في إطار "التمسك بمبادرة السلام العربية كما اعتمدتها قمة بيروت (2002)، والمبنية على قرارات الشرعية ذات الصلة..."، وقد أكد القادة فيها على "تضامنهم في تعزيز العلاقات والروابط بين الدول العربية وصولاً إلى التكامل من خلال تطوير التعاون العربي المشترك، وتقوية القدرات الجماعية لضمان سيادة وأمن وسلامة وصون الأراضي العربية، والعمل على فض المنازعات العربية بالطرق السلمية، من خلال تفعيل آلية الوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها تنفيذاً لقرار قمة القاهرة 1996".
وإلى جانب ذلك أكدوا أنهم "عقدوا العزم على مواصلة خطوات الإصلاح الشامل التي بدأتها الدول العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، وتحصين التضامن عن طريق تعزيز روح المواطنة والمساواة وتوسيع مجال المشاركة في الشأن العام ودعم سبل حرية التعبير المسؤول، ورعاية حقوق الإنسان وفقاً للميثاق العربي لحقوق الإنسان، ومختلف العهود والمواثيق الدولية، والعمل على تعزيز دور المرأة العربية في بناء المجتمع، وهو ما يتوافق مع عقيدتنا وقيمنا وتقاليدنا الحضارية، وإقامة الهياكل اللازمة وتهيئة الظروف الضرورية لإرساء التكامل الاقتصادي فيما بيننا على نحو يمكننا من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي ونماء الحضارة الإنسانية والاستجابة لمتطلبات الحياة المعاصرة، على أسس من التفاهم والتسامح والحوار".
وقد تعهد القادة "فيما بينهم وأمام الله العلي القدير، ثم أمام شعوبهم بالتكاتف فيما بينهم لاتخاذ القرارات التي تلبي هذه الأهداف، والعمل المشترك الحاسم والفّعال لتحقيق المصالح العربية العليا، والالتزام بالتنفيذ الأمين والكامل لما نتخذه من قرارات. والله على ما نقول رقيب".
وتحقيقا لجملة هذه الاهداف قرر القادة تفعيل، أو عند الاقتضاء إنشاء الآليات اللازمة لـ"تحقيق أهداف ميثاق جامعة الدول العربية، ووضع الخطط المناسبة لتنفيذ السياسات المشتركة، وتطوير الأجهزة والهيئات الإقليمية العربية المتخصصة وبرامج وخطط عملها لضمان أداء دورها وفقاً لمتطلبات واحتياجات الدول العربية، وضمان تنفيذ الدول الأعضاء لالتزاماتها، واتخاذ الإجراءات المناسبة في حال عدم تنفيذ تلك الالتزامات، وفقاً لما جاء في ميثاق الجامعة، ودعم العلاقات العربية البينية، ودعم التشاور والتنسيق والتعاون بين الدول الأعضاء في مجالات الأمن والدفاع والشؤون الخارجية ذات الاهتمام المشترك، واستكمال إنجاز منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وإقامة اتحاد جمركي عربي بما يساهم في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وتكليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي بتذليل العقبات التي تعترض بلوغ ذلك الهدف ووضع الجدول الزمني لذلك، ووضع استراتيجية اقتصادية عربية شاملة يكلّف المجلس الاقتصادي والاجتماعي بدراستها، تستهدف الجوانب الاستثمارية والتجارية البينية، كما تستهدف تأهيل اقتصاديات الدول العربية الأقل نمواً، وتطوير منظومتها التنموية الاقتصادية والبشرية".
وتوطئة لتوفير الشروط والمقومات اللازمة لمواصلة عملية الإصلاح الشاملة الجارية في الدول العربية، ولضمان تنفيذ وثيقة العهد، تقرر اتخاذ الخطوات العملية المطلوبة بما في ذلك "إدخال التعـديلات اللازمـة على ميثـاق جامعة الدول العربية طبقاً للمادة (19) من الميثاق"، كما تم تكليف "مجلس الجامعة على المستوى الوزاري بإعداد هذه التعديلات وصياغتها بناء على المشاريع المقدمة من الأمين العام خلال ثلاثة أشهر، ثم تقديمها في صيغتها النهائية إلى الدورة العادية (17) لمجلس الجامعة على مستوى القمة برئاسة الجزائر لإقرارها"...
ولعله من نافلة القول إن جملة هذه التعهدات لو وجدت طريقها الى التنفيذ لجنبت الدول العربية والمنطقة العربية العديد من الويلات التي عاشتها وتعيشها في ظل ثورات ما سمي بـ"الربيع العربي".
ومن ناحية أخرى أصدرت القمة إعلانا سمته "اعلان تونس" وقد تضمن نفس النقاط المدرجة في "وثيقة العهد والوفاق" مع بعض التدقيقات أو الاضافات، حيث جاء فيه خاصة أن قادة الدول العربية يؤكدون "أنّ التزام كافة الأطراف الدولية بمسؤولياتها في تجسيد المبادئ التي تقوم عليها الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي، دون استثناء لأيّ من المرجعيات المشروعة للعملية السلمية، يشكل أساسا لإيجاد حلّ عادل وشامل ودائم لهذا النزاع وفقا لمبادرة السلام العربية وتنفيذا لخطّة خارطة الطريق، كما يؤكدون أن تحقيق هذه الأهداف المشروعة من شأنه أن يهيّئ الظروف الملائمة لبناء إجراءات الثقة وإحلال السلام العادل والدائم والشامل في المنطقة من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لإخلاء منطقة الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، من أسلحة الدمار الشامل تأسيسا لمرحلة جديدة من التوافق قوامها الالتزام المتبادل بالسلام كخيار استراتيجي، بما يتيح المجال للأمة العربية ولكافة شعوب المنطقة لتركيز جهودها على رفع التحديات التي تواجهها والتفرغ لمواصلة مسيرة التنمية".
أما بخصوص العراق فقد أكد القادة "تمسك المجموعة العربية بدعم وحدة الأراضي العراقية واحترام سيادة العراق الشقيق واستقلاله ووحدته الوطنية، ودعوة مجلس الأمن لإعطاء الأمم المتحدة دورا مركزيا وفعالا في العراق بهدف إنهاء الاحتلال وترتيب مراحل نقل السلطة إلى الشعب العراقي بما يكفل استتباب الأمن والاستقرار والشروع في إعادة البناء والاعمار في العراق" كما قرروا "تكليف الترويكا العربية (الرئاسة الحالية والسابقة والمقبلة للقمة والأمين العام لجامعة الدول العربية) بإجراء الاتصالات اللازمة ومتابعة الوضع في العراق وتطوراته".
هذا على الصعيد السياسي أما على صعيد العمل العربي المشترك فقد أكد إعلان تونس على عزم القادة الراسخ على "تجسيد إرادتهم الجماعية لتطوير منظومة العمل العربي المشترك من خلال قرار قمة تونس تعديل ميثاق جامعة الدول العربية، وتحديث أساليب عملها ومؤسساتها المتخصصة استنادا إلى مختلف المبادرات والأفكار العربية الواردة في مقترحات الأمين العام واعتمادا على رؤية توافقية متكاملة وتمشّ مرحليّ متوازن" كما أكد على "تعلّق دولنا بالمبادئ الإنسانية والقيم السامية لحقوق الإنسان في أبعادها الشاملة والمتكاملة وتمسكها بما جاء في مختلف العهود والمواثيق الدولية والميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته قمّة تونس، وتعزيز حرية التعبير والفكر والمعتقد وضمان استقلال القضاء"، وعلى "العمل، استنادا إلى البيان حول مسيرة التطوير والتحديث في الوطن العربي، على مواصلة الإصلاح والتحديث في بلداننا مواكبة للمتغيرات العالمية المتسارعة من خلال تعزيز الممارسة الديمقراطية وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام، وتعزيز دور مكونات المجتمع المدني كافة بما فيها المنظمات غير الحكومية في بلورة معالم مجتمع الغد، وتوسيع مشاركة المرأة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية ودعم حقوقها ومكانتها في المجتمع ومواصلة النهوض بالأسرة والعناية بالشباب العربي" وكذلك "دعم برامج التنمية الشاملة وتكثيف الجهود الرامية إلى الارتقاء بالأنظمة التربوية ونشر المعرفة والتشجيع عليها والقضاء على الأمية، تأمينا لمستقبل أفضل لأجيال أمتنا القادمة".
ومن ناحية أخرى أكد الاعلان على "تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية على أساس تبادل المنافع وترابط المصالح والعمل على مواصلة تأهيل اقتصاديات الدول العربية من خلال تكليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي بوضع الاستراتيجية المشتركة للعمل الاقتصادي والاجتماعي العربي، بما يدعم القدرة التنافسية للاقتصاد العربي ويؤهله لإقامة شراكة متضامنة مع مختلف التكتلات الاقتصادية في العالم"، وعلى "تكريس قيم التضامن والتكافل بين الدول العربية في إطار الاستراتيجية العربية لمكافحة الفقر التي اعتمدتها قمّة تونس، وتوظيف القدرات البشرية في البلدان العربية لدعم جهود التنمية بها والعمل على تأهيل اقتصاديات الدول الأقل نموّا في العالم العربي وتطوير برامجها التنموية".
وعلى صعيد آخر أكد القادة على "الاستعداد الجيّد للمشاركة الفعّالة، حكومات ومجتمعا مدنيا وقطاعا خاصا، في القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي احتضنت تونس مرحلتها الثانية في نوفمبر 2005، حتّى تكون هذه القمة محطّة هامّة لمزيد تطوير تكنولوجيات المعلومات والاتصال في البرامج التنموية العربية، ولتأكيد قدرة الدول العربية على مواكبة التطور الذي يشهده هذا القطاع والمساهمة فيه، باعتباره إحدى المقوّمات الأساسية للتنمية"، كما قرروا "القيام بالإجراءات الكفيلة بتمكين المنظمة العربية لتكنولوجيات الاتصال والمعلومات من الدور المنوط بها في توثيق التعاون بين الدول العربية في هذا القطاع الحيوي".
وأخيرا أكّد القادة على "تعزيز عرى الصداقة بين البلدان العربية ومختلف بلدان العالم وبلورة مفهوم جديد للتعاون والشّراكة المتضامنة معها، انطلاقا من حرصنا على ترسيخ الحوار بين الأديان والثقافات وإبراز رسالة الإسلام الحضارية والإنسانية التي تدعو إلى إشاعة قيم التسامح والتفاهم والتعايش السلمي بين الشعوب والأمم، وتنبذ الكراهية والتمييز" كما أكّدوا على "التزام الدول العربية بمواصلة الإسهام في إطار الجهود الدولية المبذولة لمكافحة ظاهرة الإرهاب بكافّة أشكاله والتصدّي لها، وعدم الخلط بين الإسلام والإرهاب والتمييز بين المقاومة المشروعة والإرهاب" ودعوا إلى "عقد مؤتمر دولي بإشراف منظمة الأمم المتحدة بهدف وضع مدوّنة سلوك دولية لمقاومة ظاهرة الإرهاب مع العمل على معالجة أسبابها".
ج) جراءة التعاطي التونسي مع العمل العربي المشترك
وقد تجلى ذلك في الخطاب وفي الممارسة
أما في الخطاب فقد تجسم ذلك في نص الخطاب الذي ألقاه السفير الحبيب الشطي في أول جلسة تحضرها تونس بعد انضمامها الى الجامعة، وأما في الممارسة فقد تجسم في اقدام تونس على ارجاء قمة 2004 التي كانت بدأت اشغالها على مستوى وزراء الشؤون الخارجية الى شهر ماي بسبب "تباين في المواقف حول بعض التعديلات والاقتراحات التي كان تقدم بها الجانب التونسي حول مسائل يراها جوهرية وبالغة الاهمية بالنسبة الى التطوير والتحديث والاصلاح في بلداننا العربية".
د) حيادية التعاطي مع الجامعة
تجلى ذلك في مظهرين اثنين، أولهما محافظة الدولة التونسية طيلة الفترة التي عاشتها الجامعة في تونس، على "موقع حيادي رصين" هو الذي مكنها باستمرار من أن تكون ملجأ لحل الخلافات العربية داخل الاسرة العربية" كما تقول جريدة "الدستور" في العدد 651 الصادر بلندن في 20 اوت 1990.
وعلى العموم لم يحدث أن تدخلت تونس في شؤون جامعة الدول العربية منذ انتقالها اليها عام 1979 بل إنها حرصت باستمرار على الاضطلاع بدور معتدل داخل الصف العربي دون انحياز "واتخذت مواقف تجنبت فيها الاستفزاز او اللعب على التناقضات العربية حتى وان كانت طرفا في بعض الخلافات العربية ففي أوج الخلاف التونسي الليبي ظلت جامعة الدول العربية وكأنها خارج اجواء الموقف التونسي".
اما الثاني فهو يتجلى في الاسلوب الذي توخاه الاستاذ الشاذلي القليبي حيث أنه بعد أن تم انتخابه بموافقة مختلف البلدان العربية على ترشيحه، أعطى الجامعة نفسا جديدا، وأضفى عليها روح التغيير والحداثة، كما ساهمت ثقافته الواسعة في إثراء العمل الدبلوماسي العربي المشترك.
ويتميز الاستاذ الشاذلي القليبي الذي كان عضوا بمجمع اللغة العربية في القاهرة منذ فيفري 1970 بآرائه الصريحة والمتحررة في المشكلات التي تجابه المجتمع العربي، كالعلاقة بين العروبة والإسلام، ووضعية المرأة العربية، ومسألة النفط، والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، والحوار العربي الأوروبي، والحوار العربي الإفريقي، وقد نادى وعمل دوما على تفعيل العمل العربي المشترك غير أن أحلامه ودعواته لم تجد آذانا صاغية، وقد فضل سنة 1990 الاستقالة من منصبه مع بدء الحشد الأميركي لضرب العراق لاعتراضه على التدخل الأجنبي في الشؤون العربية.
وكان من أهم أعماله أثناء توليه الأمانة العامة للجامعة قيامه بتكوين لجان لتنقية الأجواء العربية، ودعم التعاون العربي الإفريقي، والمساهمة في معالجة الوضع في القرن الإفريقي وجنوب إفريقيا، وإدانة الإرهاب الدولي وفي مقدمته الإرهاب اليهودي داخل الأراضي العربية المحتلة وخارجها، والسعي إلى تحقيق الأمن القومي العربي، وتنقية العلاقات العربية، والترحيب بقيام الجمهورية اليمنية، وتنظيم المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط، وتفعيل المقاطعة العربية لإسرائيل، والتنبيه إلى مخاطر استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين على الأمن القومي العربي، ودعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى...
الخاتمة
إن الجامعة اليوم تعيش ما يمكن أن نسميه "أزمة وجودية" ناجمة عن تراكم التحديات التي تفاقمت منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، بسبب إخفاق مسيرة السلام في الشرق الاوسط واحتلال العراق واستفحال ظاهرة التطرف والإرهاب وتداعيات الثورات العربية وما نجم عنها من حروب اهلية في بعض البلدان العربية وبينها.
وقد كشفت الصراعات الدائرة في ليبيا، ثم في سوريا، وفي اليمن أن الجامعة لا تملك القدرة على إدارة هذه الصراعات بصورة مستقلة بعيدا عن سياسات بعض أعضائها، أو أحيانا دون استدعاء تدخل المجتمع الدولي في بعض الحالات.
وبالرغم من ذلك فان هناك اتفاقا مبدئيا على ضرورتها والحاجة إلى استمرارها وأهمية تواصل دورها حاضرا ومستقبلا، غير أن التمسك بها كإطار يرمز الى وحدة العرب وكأداة للتنسيق والعمل العربي المشترك في مجتمع دولي يقوم على التكتلات السياسية والاقتصادية، لن يكون كافيا بل لا بد أن يصاحبه تفعيل دورها بمعالجة أوجه القصور في عملها وتجاوز الهفوات التي ارتكبتها في التعاطي مع تطورات الأوضاع في المنطقة العربية خلال السنوات الماضية.
ولا بد للجامعة إذا ارادت أن تحافظ على وجودها، من مراجعة اسلوب عملها مراجعة جذرية لتستطيع التعامل مع المتغيرات العربية والإقليمية والدولية، فالأمر المؤكد اليوم أننا بتنا بحاجة الى قيام نظام عربي جديد مختلف عن النظام الذي نشأ في 1945، نظام يأخذ بعين الاعتبار مكونات المشهد السياسي الراهن، القديم منها والجديد، بما في ذلك مكوّن "الإسلام السياسي" الذي ينتظر ان يضفي على "صراعات العرب وتوافقاتهم" المستقبلية طابعا دينيا...
ثم إن العرب مدعوون إلى أن يضعوا في اعتبارهم التحالفات الناشئة بين بعض الدول العربية والأطراف الفاعلة في المنطقة وأيضا التحالفات المعلنة أو السرية بين التنظيمات الإرهابية والمتطرفة وبين اسرائيل التي تنسق معها في أكثر من موقع ومكان في العالم العربي.
وإلى ذلك، فإن الجامعة ستكون بحاجة الى انتهاج نهج منسجم وموحد وثابت في التعامل مع مختلف الصراعات القائمة في المنطقة حتى لا تسمح بخلق أو تعميق المزيد من الشروخ بين الشعوب العربية وزرع الأحقاد في النفوس لزمن طويل.
ولتحقيق جملة هذه الغايات، فإن الجامعة يجب أن تجد الطريقة الملائمة لكي لا تقع تحت وطأة مراكز الثقل السياسي والمالي العربية التي تصوغ التوجهات التي تخدم مصلحتها وتحاول أن تفرضها عليها فرضا.
إن هذا الامر ضروري من أجل التأسيس لمرحلة جديدة من الاستقرار في البلدان العربية وفيما بينها، وللبحث عن السبل الكفيلة بوضع حد لحالة الاضطراب التي تعرفها المنطقة كتمهيد ضروري لاستئناف المسارات التنموية في البلدان العربية المنكوبة ولإعادة إعمارها.
ومعنى ذلك انه لا بد من عملية اصلاح للجامعة ولمؤسساتها تواكب وتتفاعل مع عمليات الاصلاح التي ينبغي أن تقوم بها كل واحدة من الدول العربية لتطوير نفسها داخليا، من خلال تحقيق التناغم بين الانظمة وبين الشعوب لا سيما بالعمل على تكريس الحقوق والحريات الكاملة واستقلال القضاء والانتخابات النزيهة وتداول السلطة والفصل الكامل بين السلطات في دساتير تعبر عن أحلام كل شعب وعن فئاته وطوائفه المتنوعة، وخارجيا من خلال إعادة تأسيس العلاقات على حد ادنى من الالتزام بالمصالح الوطنية والقومية العربية.
محمد ابراهيم الحصايري
قراءة المزيد:
محمد ابراهيم الحصايري: تونس وجامعة الدول العربية (3 من 4)
- اكتب تعليق
- تعليق